طلال سلمان

من آثار الحرب الإسرائيلية على غزة

يفرضون علينا الانشغال باليوم التالي في غزة ودورنا فيه كعرب مختارين بدقة وعناية. وبالفعل انشغلنا كما أرادوا لنا أن ننشغل. ينسون وبعضنا نسي أن إسرائيل والصهيونية العالمية ويهودا وأطرافا آخرين غير العرب وقضايا أخرى وتطورات وقعت وواقع استجد لن يكتمل اليوم التالي إلا بهم وبها وبه. اخترت اليوم أن أعرض في السطور التالية لمحات سريعة عن بعض أهم الآثار التي نتجت عن حرب غزة وعناصر أخرى ساهمت وتساهم بالقدر الأوفر في صنع الصورة المتوقعة وبخاصة لإسرائيل والصهيونية العالمية في اليوم التالي لحرب فلسطين، أو حرب غزة كما يحلو للبعض تسميتها.

أولا: القطب الأعظم يواصل انحداره النسبي والمطلق متأثرا بمأساة حرب غزة ومخلفا في مسيرته المترددة والخاطئة أوضاعا دولية وإقليمية. اتسمت بعض هذه الأوضاع بدرجات عالية من العنف والتشرذم وارتفقت بوضع في البنى الداخلية تميزه درجة أعلى من الضعف والتهالك. أعني بصفة خاصة ظاهرة انكشاف حال تخبط النخبة الحاكمة نتيجة ترهل أو شيخوخة قياداتها، ونتيجة، وهو ما يهمنا في مناقشة القضية الشاغلة لنا، انكشاف حال خضوع النخب الأساسية في أمريكا لهيمنة أقلية صهيونية تدير وتسيطر على قطاعات هامة في اقتصاد الدولة وتوجهاتها الدولية واستراتيجياتها العسكرية في الشرق الأوسط تحديدا. هذا الانكشاف على حيائه وتردده كان الأهم في تاريخ طويل من العلاقة بين أعضاء الكونجرس وقادة الحزبين من جهة ومندوبي الصهيونية العالمية من جهة أخرى.

***

ثانيا: حدث هذا الانكشاف تحت وقع سلسلة صدمات أصابت الأقلية اليهودية في أمريكا كما في دول غربية أخرى كرد فعل مباشر لحرب الإبادة التي شنها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة. انقسم اليهود الأمريكيون كما لم ينقسموا من قبل، وتضررت سمعة إسرائيل كما لم تتضرر من قبل، وجرى الحديث عن جيل جديد من شباب تمرد للمرة الأولى على هيمنة القيادة الصهيونية الضابطة منذ نشأتها لنبض وتوجهات شباب اليهود في العالم الغربي.

***

ثالثا: نعرف حجم الضرر الذي لازم منظومة السياسة الخارجية الأمريكية منذ أخطأت خطأها الجسيم حين شنت باندفاع، ومتأثرة بآثار الهجوم على برجي التجارة في مانهاتن، حربا بعد أخرى في أفغانستان ثم العراق مهددة إلى يومنا هذا أركان الاستقرار في أكثر من مكان بالشرق الأوسط. نعرف حجم الضرر. نعرف أيضا أن ما أصاب سمعتها بضرر يكاد يضاهيه ما أصابها من ضرر آخر تسبب فيه تواطئها مع إسرائيل في حرب غزة علنا وسرا وبمنهج دبلوماسي يعتمد الكذب والخداع والاستهانة بعقول العرب، منهج جعلنا نتذكر أساليب المبعوثين الإنجليز والسكرتير الشرقي في السفارة البريطانية في موقعها الحالي على ضفة نيل حي جاردن سيتي.

انكشف أيضا وبشكل فاضح ضعف القدرات الدبلوماسية إلى جانب غياب الخط الاستراتيجي لقطب أعظم يواصل الانحدار في مواجهة قطب كبير في آسيا يواصل الصعود في ثقة وهدوء ودول في عالم الجنوب ضاقت ذرعا بقيود خلفتها دول الاستعمار بعد تجديده فراحت تنتفض الواحدة بعد الأخرى، كل بأسلوب مختلف.

***

رابعا: بعد تسعة شهور من حرب دامية ضد شعب أعزل من كل سلاح فعال باستثناء مقاومة مخلصة وصادقة انهارت نظرية تحولت بفعل قوى إعلامية صهيونية وغربية إلى أسطورة. انهارت أسطورة التفوق الهائل في قدرات الردع العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي. سقطت الأسطورة مع سقوط كثير من جنود إسرائيل وضباطها، ومع توقف عجلات الإنتاج في عديد المواقع الإسرائيلية وبخاصة في قطاع الإلكترونيات في الجليل الأعلى، ومع زيادة معدلات الهجرة من إسرائيل إلى خارجها، ومع انفراط وحدة نخبتها السياسية الحاكمة، ومع انشقاقات عسكرية غير مألوفة، ومع ثورة غير مكتومة من جانب الحريديم ضد جيش الصهيونية الحاكمة، ومع هيمنة عاجلة و”مؤدلجة” من جانب المستوطنين وقياداتهم ضد مكونات “الدولة” وغيرها من الدول المجاورة، ومع فساد طبق الآفاق وفاسدين تحميهم براثن الصهيونية العالمية التي تضمن ولاء قادة كبار في حكومات وبرلمانات دول الغرب وخارجه؛ من خلال أدواتها وبخاصة المال والتهديد بالتشهير والإعلام.

***

خامسا: تشوهت سمعة الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، السمعة التي تاجرت بها إسرائيل لتحصل على مواقع ومزايا تخفي بها أعمالها المستمرة في تجاوز القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. هذه الديموقراطية مهددة فعليا بوجود رئيس حكومة متهم بالفساد وبشن وتصعيد حرب ضد الفلسطينيين للبقاء حرا وبعيدا عن السجن، ومهددة بالفناء بفضل تسلل جماعات شديدة التطرف، مؤمنة بأساليب تراثية في محاربة خصومها، ومحملة بخبرات نازية، ومدججة بكراهية دينية وعنصرية للفلسطينيين.

قرأت بعض أدبيات هذه الجماعات ومعها ما نقل عن العبرية الزميل من المنصورة يحي عبد الله عن نص من حديث صحفي أجراه الحاخام يتسحاق جينزبورج المرشد الروحي لقطاعات واسعة من المستوطنين مع  صحيفة معاريف قبل ربع قرن. يقول رجل الدين كبير المقام “هناك مفهوم العالم الثالث، وهو العالم الأكثر بدائية في سلم الشعوب، والمقصود به العالم العربي، وهو العالم الذي تحفزه طبيعته الحيوانية على قتلنا وإبادتنا. إن الشعب اليهودي، طبقا “للقبالا” (التصوف اليهودي) هو المخلوق البشري الأكثر تقدما سواء في الفعل أم في العاطفة، لكن “يشمعئيل” (إسماعيل \ بني إسماعيل) فشعبه من العبيد، ومن طبيعة العبد أنه فاجر ومنفلت”. انتهي الاقتباس. هذا هو جوهر التربية الدينية لأبناء شعب إسرائيل ولمعظم قطاعات المستوطنين اليهود والكاتب ينصحنا إن شئنا الزيادة بالعودة إلى (الجمارا، من حواشي التلمود، مبحث سوكا).

***

سادسا: قصيرة هي الفترة الزمنية التي عاشتها دولة إسرائيل ولكن طويلة  وكاشفة حربها المدمرة في فلسطين. كلاهما خلف آثارا واضحة في الإقليم. إيران تخرج من حرب المقاومة ضد إسرائيل أقوى دوليا وإقليميا وداخليا. النظام العربي تضعضعت بعض جوانبه وغير خافية علامات تصحيح على طريق نهضة تأجلت طويلا. الاتحاد الأوروبي لم يشهد انقساما في الموقف الخارجي مثلما شهد ويشهد على صعيد الاعتراف بدولة فلسطينية ومثلما أهانت مكانته موجات الكذب الإسرائيلية ومنها حقيقة الهجوم في السابع من أكتوبر والقرار المتسرع ضد منظمة الأونروا وكلاهما أضعفا مكانة الاتحاد ووحدة الموقف الغربي في مجلس الأمن. بل أن الغرب ككتلة حضارية خرج من هذه الأزمة مثقلا بذنوب أضافت إلى أحمال كانت كافية لإنهاكه خلال معارك المواجهة مع روسيا والمنافسة مع الصين. ثم وكانت إفريقيا القارة التي عانت من وحشية إسرائيل والموقف الرائد والرائع لدولة جنوب إفريقيا لتذكيرها بماضي التفرقة العنصرية اللعينة والحاجة لثورة إفريقية متجددة تتصدى بها لجحافل جيل جديد من المستثمرين العنصريين البيض الزاحفين نحو مناجم جديدة وثروات مدفونة.

***

ماذا هم فاعلون وأمر فعلتهم غائر بالظلم ووحشية الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في حق  الفلسطينيين، غائر أيضا بالآثار غير المباشرة لما ارتكبوا متواطئين أو متآمرين أو مغرورين بعظمة الغرب والزعم بعلوية قيم وقواعد وأعراف منتقاة بعناية. لدي انطباعات عدة عما يمكن أن يكون رهن البحث والدراسة في مواقع دولية وإقليمية عديدة بهدف تجاوز الصعوبات التي تواجهها  الصهيونية العالمية وإسرائيل  بخاصة  ووقف توسع الآثار التي خلفتها حرب غزة.

لدي انطباع بأن الجهة “العميقة” المنظمة والمحركة للصهيونية العالمية لن يهدأ لها بال حتى تعيد إلى الحركة وبسرعة أحلام الآباء المؤسسين في القرن التاسع عشر. لدي انطباع بأن إسرائيل وبخاصة المستوطنين والمهاجرين الجدد لن يتوقفوا عن الزحف لهدم كل إنجاز أو دليل وجود لشعب فلسطيني على هذه الأرض. لدي انطباع عن أهداف وأدوار جديدة توضع لتنفذها الدول العربية المطبعة مع إسرائيل مثل أن تتجاسر إسرائيل وتطلب تغيير أو استكمال تغيير مناهج التعليم العربية تحت إشراف مشترك. لدي انطباع بأن الجامعة العربية الممثلة لمرحلة هامة من مراحل تطور وانحسار النظام الإقليمي العربي هي في طريقها الآن للتحول وليس فقط التغيير متأثرة بحرب الشهور العشرة من حرب ضروس بين مقاومة كالحلم وجيش كالأسطورة. لدي انطباع بأن جيلا مختلفا من شباب العرب ومراهقيهم يجوب شوارعهم في انتظار رؤى وقناعات مختلفة تتناسب وما رأى وسمع على امتداد عام أو أقل من حرب وأعمال إبادة. لدي انطباع أن غالبية هذه التوقعات تنتظرها ردود أفعال قاسية أو على الأقل ليست بسيطة ولا مألوفة.

هذه الانطباعات وغيرها تستحق مساحة أوسع من العرض والتحليل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version