طلال سلمان

منحازون في عالم بلا مرجعيات

لم يذهب أحد إلى »دوربان« في جنوبي أفريقيا، برغبته أو مفعماً بالحماسة لقمة عدم الانحياز، أو مثقلاً بآماله في قرارات دعمها وتأييدها لموقفه.
لقد ذهبت الوفود إلى هذه القمة متضجرة، متبرّمة، تدرك سلفاً أنها إنما تؤدي »واجباً ثقيلاً«، برغم ما تكنّه لدولة جنوب أفريقيا وشعبها وقائدها نلسون مانديلا من تعاطف وتقدير..
لا مجال للتوقعات والتكهنات بمفاجآت سارة، فالمؤسسة نفسها، حركة عدم الانحياز، باتت متهالكة، تفتقد مبرر وجودها، ينهكها العجز الذي يداني الإفلاس عن إنجاز أي شيء… مع الوعي الكامل بأن »التظاهرة« كتظاهرة لم تعد تفيد في شيء: فلا هي تخيف خصماً، ولا هي تنصر مظلوماً أو مضطهداً.
ولقد اعترف أكثر من مسؤول عربي بأنه قد اضطر إلى إعادة النظر في خطابه غير مرة، لأنه كان كلما استذكر ظروف الدول المشاركة وطبيعة العلاقات السائدة بينها، ثم بينها وبين القوى العالمية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، عاد يعدل في النص تخفيفاً عن نفسه وعن سامعيه حتى لا يضجرهم لعلهم يردون له التحية بمثلها فلا يضجرونه إلى حد النوم أو الخروج من القاعة.
لقد انقضى الزمن الجميل، وجاءت أيام الصعوبة والشقاء.
ولن يعوّض الرصيد المعنوي الممتاز لدولة جنوب أفريقيا التي تستضيف المؤتمر عن الشعور بالمرارة واليأس، إلى حد ما، ومعظم دول هذه القارة الفتية تغرق في دماء أبنائها، أو تدفع إلى التورط أو تنساق مع العصبيات والأعراق في مسلسل من الحروب الأهلية المفتوحة على خراب مؤكد للأطراف جميعاً.
إنه العجز، بل الشلل، إضافة إلى الفقر والعوز والمجاعة التي تلتهم كالغيلان أطفال أفريقيا في العديد من أقطارها.
لقد كانت »أفريقيا المستقلة« المتحرّرة من الاستعمار القديم، أولى الثمار الناضجة لحركة عدم الانحياز..
أما الآن فتكفي نظرة واحدة إلى »أقطاب« تلك الحركة ليدرك المرء أن هذه المؤسسة لم تعد ذات موضوع، أو أنها لم تعد صيغة مناسبة للعمل في عالم نهاية القرن العشرين.
أين الصين، المبتعدة بنفسها عن مشكلات الشعوب ونضالها من أجل التحرر، إلى البحث عن أسواق، والسعي بالتحديد إلى فتح السوق الأميركية أمام بضائعها الكثيرة، من صين ماو تسي تونغ وشو ان لاي؟!
أين هند اليوم، التي يحكمها التطرف والتعصب والغرور القومي المسلح بالقوة النووية، من هند جواهر لال نهرو، الذي كان من دون أسلحة الدمار الشامل أقوى من القوى العالمية العظمى بفهمه الواعي لطبيعة التوازنات العالمية التي كانت سائدة آنذاك، والحاجة إلى »قوة ثالثة« قادرة ومؤهلة للعب دور كوني يسهم في حماية السلم العالمي، ويفتح الباب وسيعاً أمام الشعوب الطامحة إلى التحرر؟!
أين يوغسلافيا تيتو، ومأساتها اليوم تكاد تكون خاتمة حزينة لهذا القرن، ولطموح الإنسانية إلى عالم من السلام والتسامح وحماية الضعيف من جموح القوة أو من شرور التعصب العرقي أو الديني، أو من تجبر الاحتكارات المالية والاقتصادية وسائر تعبيرات الرأسمالية المتوحشة؟!
أما مصر عبد الناصر فإن مجرد استذكارها يضفي جواً من الحزن يخرجنا من دائرة التحليل والتقدير الموضوعي للظروف والقوى وحركة الصراع في ما بينها.
وأما الجزائر؟!!
إنه عالم مختلف جداً،
بين المفارقة اللافتة، في التوقيت على الأقل، أن هذه القمة تنعقد بينما يلتقي في موسكو رئيس الدولة العظمى مع رئيس الدولة التي كانت عظمى، وكلاهما يعيش وضعاً مهزوزاً، ولا يضمن لنفسه الاستمرار في المنصب الخطير… تماماً كما التقى ذات يوم، »المتعوس مع خايب الرجاء«..
لكن عجز الدول المقهورة بفقرها وأنظمتها وحروبها الأهلية وضياعها بين قمع السلطات فيها وبين الغرض الامبريالي المكشوف، يشلها عن الاستفادة من الظروف المناسبة تماماً التي تهز أقوى دولتين في العالم.
هل نسينا أن حركة عدم الانحياز قامت أصلاً على قاعدة إحداث توازن عالمي بين الدول العظمى، آنذاك، وأساساً بين هاتين الدولتين بل المعسكرين اللذين كانا يتقاسمان الكرة الأرضية؟!
إنه عالم مختلف جداً، والصيغ القديمة لم تعد تصلح للمهمات الجديدة التي تفرضها التوازنات الجديدة.
إن أكثرية الدول المنضوية في هذه الحركة ليست »دولاً« بالمعنى المتعارف عليه للدولة، وهي بالقطع منحازة وتجهر بانحيازها، بل تتمنى أن يثبَّت وأن يعتمد هذا الانحياز لكي تتقاضى ثمنه.
ولولا خوف المبالغة لقلنا إن معظم هذه »الدول« منحازة فعلاً إلى مختلف أنواع الاستعمار، الجديد أساساً، أي الأميركي، والقديم استطراداً (أي الفرنسي والبريطاني)..
أي أنها ليست »دولاً«،
ولا هي غير منحازة،
أما »الحركة« فتفقد القيادة والمنهج والمبرّرات والموقع،
وكثير من القمم منخفضة أكثر مما يجيز التسمية،
من يجرؤ على المباشرة بالدعوة إلى إعادة النظر في المؤسسات التي مضى زمانها وانتهى دورها ولم يعد لها ما يبرّر وجودها؟!
إنه عالم بلا مرجعيات من طبيعة دولية، ناهيك عن أنه بلا مرجعيات من طبيعة شعبية،
وهذا ينطبق على الأمم المتحدة ومجلس أمنها الكسيح، كما على جامعة الدول العربية التي تفتقد الكثير من مبررات وجودها، كما على منظمة الوحدة الأفريقية وصولاً الى مجلس التعاون الخليجي الجزيل الاحترام.
عالم بلا مرجعيات..
هذا يعني أنه عالم مستباح، وأن »اليانكي« المعزز الآن بالدولار، هو الوحيد الذي سيتحكّم بمصيره… حتى لو كان الرئيس الأميركي يترنح ومهددا بالسقوط في كل لحظة!

Exit mobile version