طلال سلمان

مناقشة هادئة لعواطف متفجرة

الصورتان متجاورتان على شاشات الفضائيات جميعاً، عربية وأجنبية، بحكم التزامن، لكن التناقض في الدلالات يجعلهما تنتميان لزمنين مختلفين: لكأن صورة التظاهرة، في قلب بيروت، بشعاراتها متعددة اللغة والمعنى، »تبشّر« بمستقبل مقطوع الصلة بالحاضر، بينما صورة اجتماع المجلس الأعلى اللبناني السوري، الذي انعقد بالاضطرار وبتأخير غير مبرر عن موعده المنطقي، تبدو وكأنها تختصر ماضياً سقط صريعاً بأيدي »أهله«.
وبمعزل عن التظاهرة التي لولا جريمة اغتيال رفيق الحريري لتعذر تنظيمها وتوفير الحشد الذي جاء إليها بشعارات مغايرة لكل ما كان يؤمن به الرئيس الشهيد، وبهتافات تسيء إلى ذكراه وتكشف فضيحة انتحال البعض صفة »أهل الفقيد« وما هو منهم ولا هم منه، فإن »المناخ« السائد جعلها »مشروعة«، وكاد يبرر هتافاتها المستفزة بعنصريتها وبتزويرها هوية هذا الوطن وأهله. هي فرصة لم يضيّعها أولئك الذين لم يكن رفيق الحريري يقبل منهم حتى »العلاقة الاجتماعية«.
لماذا هذه النهايات البائسة لبدايات كانت، على ما حفلت به من مرارات، توحي بإمكان بناء تقديم »النموذج« المرتجى في العلاقات بين بلدين عربيين متكاملين بالضرورة وبالمصلحة قبل العاطفة ووشائج القربى؟ لماذا تركت الأخطاء، التي لم تكن مخفية، تتراكم حتى سدت الأفق؟! لماذا لم يتم التنبه إلى الغلط فتفاقم حتى غدا معطلاً لأي محاولة لوقفه ناهيك بالتصحيح؟
لماذا اغتيلت هذه التجربة الفريدة التي كان يمكن أن تشكل جواباً جدياً عن أسئلة معلقة من نوع: هل يمكن لدولتين عربيتين راشدتين، وخلف شعبيهما تراث غني في وعي المصالح وفي فهم السياسات الدولية، ثم إنهما يملكان من ثقافة التجارب والمعرفة بدروس التاريخ والطريق إلى المستقبل ما كان يؤهلهما لاختراق الاستحالة وإثبات القدرة على التعاون المفتوح الذي يطلبه ويسعى إليه الشعبان الشقيقان لأن فيه خيرهما في حاضرهما وفي غدهما المطموح إليه؟!
ما الذي جرى حتى انقلب الاستقبال بالزغاريد والأرز وماء الزهر والورود في أيادي الأطفال، فرحاً بالجيش الشقيق الداخل ومعه وعد السلام الأهلي، إلى وداع بالهتافات المعادية والشعارات النابية واللافتات المكتوبة بلغة الاحتلال المقبل لتحريرنا من هويتنا ومن صلات الرحم… ديموقراطياً؟
وكيف أمكن للخطأ أن يستشري فيلتهم كل الإيجابيات، ويشوّه كل المنجزات، ويعطل المؤسسات التي استولدتها الاتفاقات الممهورة بتواقيع رجال كبار بينهم الراحل العظيم حافظ الأسد؟
كيف أمكن للأغراض الصغيرة أن تعطل الأهداف الجليلة.. فإذا الطريق بين بيروت ودمشق تفتقد طوابير العابرين، في الاتجاهين، تدليلاً على سلامة العلاقات اجتماعياً واقتصادياً توكيداً لسلامتها سياسياً؟
كيف ولماذا بات »الخط العسكري« هو المفتوح للنافذين و»نضب« الخط المدني، أي الطبيعي؟! لماذا وصل التمييز بين الأخوة إلى هذا الحد؟!
لماذا تمّ تعطيل المؤسسات، بدءاً بالمجلس الأعلى، مروراً بمقتضيات معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق، واجتماعات الحكومتين؟! ولماذا لم يرَ الناس في سوريا كما في لبنان ثمار هذه المعاهدة والاجتماعات والمؤسسات في حياتهم اليومية؟!
لماذا زادت الفجوة بين الأخوة عبر الحدود، بدلا من أن تضيق تدريجياً، وعبر توطيد المصالح المشتركة، التي تشمل كل ما ينفع الناس، من الرغيف إلى الجامعة، ومن المصرف إلى المستشفى، ومن الزراعة إلى التجارة، ومن الصناعة إلى الكهرباء والغاز والمياه؟!
لماذا تبدى الوجود السوري وكأنه »تحكّم« بدلا من أن يكون خطوة على طريق تكامل النفع للبلدين والشعبين، حتى أمكن تصوير العامل السوري المياوم وكأنه منافس للبناني في رزقه، فضلاً عن تصوير »الأجهزة« وكأنها المصدر الوحيد للقرار في أي شأن، سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً، تربوياً أم اجتماعياً أم علاقة بين زوجين؟
لماذا لم تتوفر أي قواعد للمراجعة والمحاسبة، بحيث يمكن وقف الخطأ قبل أن يستشري، ومنع »التجاوز« قبل أن يصير »قاعدة«؟!
التساؤلات بحر بلا ضفاف، أي أنها بحجم لحظة الوداع المأساوية التي يستدعيها تسميم الجو بين البلدين الشقيقين، على مختلف الأصعدة، حتى بات كل خطأ يقع في لبنان يستحضر »السوري« كمتهم أوحد.
إلى أن جاءت الكارثة مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فتفجر الضيق المختزن اتهاماً صريحاً أو مغمغماً، وانقلب الحزن إلى غضب، وتحولت خيبة الأمل إلى روح انتقامية تحاول الثأر ممن أضاع الفرصة التاريخية… وأضاع معها رفيق الحريري؟
لقد استولدت الأخطاء المتراكمة الاشتباه، وتفجر الغضب كمضبطة اتهام ضد من كان مسؤولاً عن الوضع، وتركه يتردى من دون علاج…
ثم إن كل المعنيين في لبنان أصغر، في عين الناس، من الشهيد ومن شجاعة الإقدام على اغتياله، وهكذا ذهب السيل في اتجاه مصدر القرار في كل أمر.
ومع أن الناس كانوا يعرفون أن شهيدهم لم يخاصم سوريا يوماً، وقد والاها ووافقها حتى على ما يعترض عليه، حرصاً على العلاقة التاريخية، ومنعاً للدول الكبرى التي تجاهر بعدائها من أن تحقق مصالحها على حساب سوريا ولبنان معاً، ومنعاً لتحقق الأغراض الرخيصة للذين عادوا إلى المسرح السياسي تحت جناح التدخل الدولي…
ومع أن الناس كانوا يعرفون أن شهيدهم عاش قومياً عربياً، وقومياً عربياً قد استشهد، وأنه كان بين العاملين لنصرة سوريا، خارج نطاق مسؤولياته الرسمية واستجابة لواجبه القومي،
مع ذلك فقد مكّنت خيبة الأمل في المرجعية الصالحة من ترك الباب مفتوحاً أمام من يريد استغلال زلزال اغتيال رفيق الحريري لأغراضه، سياسية كانت أم طائفية، عنصرية ومعادية للعرب عموماً بشخص سوريا أم انتهازية تحاول القفز إلى السلطة مستقوية بصورة الرئيس الشهيد؟!
إن ما جرى ويجري في شوارع بيروت وساحاتها، وفي أنحاء أخرى من لبنان، أبشع من أن يكون حقيقة… لكنه تعبير عن الغضب من القصور وخيبة الأمل في القدرة على الإنجاز، أكثر منه موقفاً معادياً لسوريا والسوريين (مع استثناء محدد لتصرفات بعض الخصوم الدائمين لفكرة العروبة ولعرب الجوار الفقراء، سوريين وفلسطينيين).
على أن ما جرى يستدعي علاجاً جدياً وعاجلاً، بالفكر والسياسة، وبإعادة تغليب لغة العقل والمصالح، وبالتنبه إلى خطورة التدخل الدولي وآثاره المتفاقمة على البنية اللبنانية المنهكة بالخيبات…
إن هذا الوضع الخطير الذي فرض الانسحاب العسكري، وهو مطلب شعبي سوري ولبناني، يستدعي مراجعة شاملة وهادئة للتجربة التي جاءت خاتمتها مرة… مراجعة لا يحكمها الانفعال العصبي أو رد الفعل الانتقامي، أو مواجهة العنصرية بعنصرية مضادة.
إن الرد المطلوب رد سياسي يصدر عن قيادة مؤمنة بعروبتها، تعبّر عن حرص شعب شقيق على مصالحه المشتركة مع أشقائه في لبنان، وتملك شجاعة الاعتراف بالخطأ وشجاعة تصحيحه.
إن الكثرة الساحقة من اللبنانيين تشعر بالاستفزاز وهي ترى الشعارات المعادية للعرب، في شخص سوريا، أو تسمع الهتافات العنصرية المقززة والمعبّرة عن روح انتقامية وجدت فرصتها، في هذه اللحظة، وعبر المأساة الوطنية القومية متمثلة باغتيال رفيق الحريري، فكشفت عن وجهها وخرجت إلى الشارع.. ولكن إلى حين.
والكثرة الساحقة من اللبنانيين، بمختلف طوائفهم وأحزابهم وقواهم الاجتماعية، لا تريد القطيعة مع سوريا، وترفض كل محاولات التجييش ضدها، قيادة وشعباً وجيشاً بذل جنوده الدماء من أجل واقع مختلف عن الذي نعيش.
إن المطلوب من القيادة السورية الحكمة في معالجة مرض مزمن، كانت أعراضه ظاهرة لكن الاستخفاف منع معالجته في الوقت المناسب وبالحزم المناسب، وبوعي كلي لخطورة تأثيره على العلاقات بين البلدين الشقيقين، خصوصاً أن »التدخل الخارجي« جاهز وهو معلن عن نفسه كل يوم، ويتحضّر »لاستعادة« لبنان وكأنه »إرثه الشرعي«.
إننا في محنة، فلنثبت أن لنا القدرة على مواجهتها بالحكمة التي هي رأس الشجاعة.
والحكمة مطلوبة من اللبنانيين أيضاً، الذين لا نستطيع مخاطبة سلطتهم فنتوجه إليهم مباشرة، وعبرهم إلى روح رفيق الحريري وهو شهيد لبنان وسوريا والسعودية ومصر وسائر العرب من المحيط إلى الخليج.

Exit mobile version