طلال سلمان

ملاحظات على»القرارات غير الشعبية«

هي نكتة سمجة أن تُتَّهم حكومة يرئسها رفيق الحريري بأنها تمشي بلبنان على طريق التأميم والاقتصاد الموجَّه.
إن مثل هذا الاتهام الخارج على العقل والمعقول يمنع أو يعطل المناقشة الجدية المسؤولة »للقرارات غير الشعبية« التي اتخذتها حكومة الحريري، قبل أيام، والقاضية برفع الرسوم على السيارات المستوردة (القديم منها والجديد) وبمنع استيراد بعض المنتجات الزراعية بذريعة حماية المزارع في لبنان.
وأول ما كان يجب أن يؤخذ على مثل هذه القرارات أنها جاءت متأخرة كثيراً، وغير مدروسة كفاية، وبالتالي فهي وإن كانت عادلة في بعض جوانبها، ولكنها غير مجدية في مردودها الذي سيبقى عند رقمه الحالي، ثم أنها تثير شكوكاً حول جديتها وإمكان تنفيذها.
إن فلسفة الحكم، هذه الأيام، تقوم على الترويج لضرورة بيع المتبقي من »القطاع العام«، وهو أصلاً ضئيل ومحدود جداً ومحدَّد بالكهرباء والهاتف والأملاك البحرية والمشاعات، وثمة »حيتان« مالية وسياسية تعد نفسها الآن لوضع اليد على هذا أو ذاك من المرافق المنتجة المنوي خصخصتها، ولعل التأخير ناجم فقط عن الاختلاف على توزيع الحصص.
إذن، ليس في الأمر استفاقة متأخرة إلى فوائد الاشتراكية، ولا ان الحكم الذي يشكو من عجز الجهاز الإداري أو تخلّفه أو فساده، أو غير ذلك من الاتهامات الصحيحة أو الباطلة التي توجَّه إلى الموظف وتحمِّله المسؤولية عن القصور والتقصير، قد انتبه إلى أن ثلث شعبه الذي يعيش (نظرياً) من الزراعة مهدد الآن بالجوع، لأن الزراعة إلى بوار،
إنها مجرد محاولة مرتجلة ومتأخرة لمعالجة الأوضاع البائسة التي تعيشها الأكثرية الساحقة من أبناء »الملحقات« أو »الأطراف«، في ظل جمهورية الطائف وشعارها الممتاز عن »الإنماء المتوازن«.
الطريف أن الحكومة، وبسبب هذه القرارات، تعيش »حالة حرب أهلية« داخلية في ما بين أطرافها: فالقرارات غير الشعبية قد مسَّت مباشرة مصالح التجار والصناعيين والوسطاء التجاريين… وهؤلاء في قلب الحكومة! وبالمقابل فهي لم ترض ملاك الأراضي الزراعية أو »المعينين« لتمثيل مصالح المزارعين والفلاحين عموماً، وبالذات منهم من يفترض بهم النطق باسم الذين يعيشون من إنتاج أرضهم فقط في البقاع والشمال.
ومع أن المزارعين قد رحبوا بمجرد الالتفات الى مشكلاتهم الخانقة وافترضوا أن هذا التوجه الحكومي ربما يعكس سياسة جديدة تلحظ وجودهم، أصلاً، إلا أن خيبة أملهم ستكون قاسية جداً غداً إذا ما اكتشفوا (وهذا هو المرجح) أن أسعار منتجاتهم (أي عرق جباههم) قد ارتفعت كثيراً وأن التجار والوسطاء هم الذين سيجنون مزيدا من الأرباح باسم حماية الزراعة، بينما هم يغرقون أكثر فأكثر في ديونهم وأحزانهم الثقيلة، ويغادرون أرضهم متجهين بدورهم إلى أحزمة البؤس المتضخمة والمنذرة بالشر من حول بيروت.
هذا مع الاشارة إلى أن الأعلى صوتاً في الاحتجاج الآن هم التجار،
ومع الإشارة الى ان الاتهامات قد سبقت القرارات غير الشعبية فنشرت أسماء الذين استفادوا منها قبل صدورها، والذين سيفيدون منها أكثر غداً، إن عبر أذون الاستيراد، أو عبر الصفقات التي عقدت فعلاً أو ستعقد باسم حماية الانتاج الوطني، زراعيا مباشرا كان أم مصنعا.
وحتى مَن يسلم بضرورة صدور أو استصدار مثل هذه القرارات، ولو متأخرة، فإنه يستعيد شكوكه الدائمة في اتساع ذمة أهل السلطة، وفي تقديمهم مصالحهم الخاصة على مصالح الناس، وهو ينقب في كل سطر من القرارات عن اسم المستفيد منه.
في بلاد الناس تشكل الزراعة هماً وطنياً عاماً، ومن هنا تطرح للنقاش المفتوح من أجل ابتداع سياسة متوازنة تحمي الزراعة من دون أن تهلك المزارع، وتؤمن المستهلك من غير أن تحكم على التاجر أو الوسيط بالإعدام، وتحمي علاقات البلاد مع الدول الأخرى فلا تعطيها أكثر مما تستحق على حساب مواطنها، ولا تقاطعها كيفياً لأن بعض أصحاب المعالي يفضلون تجارة الطوائف على التجارة الحلال.
ومثل هذا النقاش المعطل هو المطلوب الآن، وفي إطار وطني، وعلى أعلى مستوى.

Exit mobile version