طلال سلمان

ملاحظات عربية على فضيحة اميركية

من الصعب تحويل اهتمام العرب عموماً عن التفاصيل الجنسية في الفضيحة السياسية التي تهدّد الآن بيل كلينتون في موقعه كرئيس للولايات المتحدة… ذلك أن العرب يعشقون كل ما يتصل بالجنس، فكيف إذا كان مسلسل الفضائح الذي انفتح كبوابة جهنم أمام »أمبراطور الكون« متعدد الوجوه والحكايات غنياً بتفاصيله وموثقاً بالصوت والصورة للعشيقات والمعشوقات وفنون الممارسة، ومتين الحبكة البوليسية كما لا يستطيعه إلا المبدعون من رواد هذا الميدان؟!
فليذهب، إذن، الفضول إلى المؤامرة والمتآمرين على كلينتون ومغامراته الكثيرة، وليتركز الفكر والفعل على واجب الدفاع عن النفس ومواجهة الهجوم الإسرائيلي المرتد، بدلاً من إشغال الذات بما لا قدرة للعرب على التأثير فيه، كبقاء الرئيس الأميركي أو سقوطه،
ذلك أن إسرائيل ما بعد كلينتون، ستتصرف بمزيد من الشراسة، ولن يستطيع أحد منع نتنياهو من أن يبدو وكأنه صار الشريك الأساسي في القرار الأميركي بينما كان الوهم الشائع ينسب إلى واشنطن قدرة استثنائية على التأثير في القرار الإسرائيلي… هذا إذا لم يفترض زعيم التطرف الإسرائيلي انه وبعدما نجح في إسقاط مرشح كلينتون في إسرائيل، شيمون بيريز، فإنه قد أكد أنه أعظم نفوذاً من الرئيس الأميركي في البيت الأبيض نفسه ناهيك بالكونغرس بمجلسيه.
ومع حدث جلل كالذي يهز الآن المجتمع الأميركي وينذر بتغيير في قمة السلطة، يكتشف العرب كم هم »أغراب« وكم هم »جهلة« وكم هم »غائبون« وعديمو التأثير لأنهم لا يعرفون ما يكفي عن هذه الدولة العظمى التي تهيمن على مقادير العالم: أين مراكز القوة الفعلية، ومَن هم أصحاب القرار فيها، والعلاقات المعقدة بين رأس المال ممثلاً بالاحتكارات الهائلة والشركات العظمى وبين مؤسسات الحكم، ثم آلية القرار ووجوه تنفيذه بانعكاساته المحتملة والمحسوبة بدقة على الداخل أساساً، وعلى الخارج من باب الاستطراد.
إن العرب المصعوقين الآن بالمفاجأة يعانون من شلل يعطل تفكيرهم ويحد من قدرتهم على التحرك لمواجهة النتائج المحتملة، وبالذات تلك التي تعنيهم في بلادهم.
بعضهم مَن وصل في التعاطف مع كلينتون بوصفه »ضحية المؤامرة الصهيونية« إلى حد التبرع بتطويبه قديساً، ومنطقي بالتالي ان يرى هؤلاء ان العرب هم المستهدفون أساسا بهذه »المؤامرة«، وكأن كلينتون قائدهم وحاميهم ومثلهم الأعلى، ليس فقط بسياسته بل حتى بسلوكه الشخصي بما فيه من مباذل وعلاقات شخصية ومغامرات جنسية لعلها تجاوزت حد الفضيحة..
ولولا بعض التحفظ لبدا الأسلوب العربي في تلقي الحدث ورد الفعل عليه يصوّر بنيامين نتنياهو في صورة »الجبار« الذي لا رادّ لإرادته ولا حدّ لقدرته على الانتقام وتأديب »العصاة« ولو كانوا في مثل منزلة »أمبراطور الكون« ولأظهر العرب وكأنهم بعض ضحايا المغامرات الجنسية لبيل كلينتون،
* * *
قلة من العرب، والمسؤولين تحديدا، مَن توقف أمام طبيعة النظام الأميركي، أمام العلاقة العضوية بين القسم الدستوري الذي يؤديه الرئيس وبين مسلكه الشخصي، أمام الديموقراطية المباشرة والموقع الحاسم للاعلام فيها، أمام القضاء كمؤسسة عريقة وذات دور محوري في تبرير النظام وفي حمايته، أمام القانون بوصفه ضمانة جدية للحياة في بلد متعدد الاعراق والامزجة والاعراف وليس نصاً فخماً وأرقى من الناس ولذلك يحفظ في المتاحف كالأيقونات القديمة.
ان معظم العرب يحاكمون ما جرى ويجري في واشنطن بالمعايير التي تحكم حياتهم، علاقتهم بالسلطة في بلادهم وممارسات هذه السلطة التي نادراً ما توقفت امام منطق الدستور او موجبات القانون: فالحاكم في بلادهم معصوم، هو فوق النقد، فوق المحاسبة، فوق القوانين والدساتير، وبالطبع على حساب الوطن ومصيره كله وليس فقط على حساب المواطنين،
كيف نقرر ما إذا كان ما جرى دستوريا، قانونيا، ديموقراطيا ام لا ونحن لم نتعرف لا الى معنى الدستور او القانون او الديموقراطية بطبيعة الحال، وبغض النظر عما اذا كان ما قيل ويقال صحيحا ام لا؟
كيف نحاكم ونحكم ونحن لا نملك »المسطرة« او القاعدة؟
في بلد كلبنان، مثلا، يعتبر »الكذب« كفاءة عليا ومؤهل جدارة لتولي اعلى المواقع في السلطة وتمثيل البلاد… وبين الذين تعاقبوا على رئاسة الجمهورية من يصح اعتبارهم ملوكا للكذابين، وممن حققوا في مجاله ارقاما قياسية قد تثير اهتمامات موسوعة »جينس«،
كذلك فليس خرق الدستور بدعة، ولا التحايل على القانون جريمة، بل ان بين اسباب النفوذ، في لبنان كما في سائر البلاد العربية، القدرة على خرق الدستور وتجاوز القوانين او تطويعها لخدمة مصالح اصحاب المصالح،
اما الاعلام فإنه بمجمله في يد الحاكم، لا يفعل الا طمس عيوبه واحيانا تزيينها وتقديمه في صورة من لا يخطئ، لا يهتم بالناس ولا يحترم عقولهم ولا يقدم لهم حتى الحد الادنى من الحقائق، لا عن الداخل ولا عن الخارج، ولا خاصة عن نفسه: ثروته، عائلته، مصالحه الشخصية وعلاقاته بأصحاب المصالح.
ولقد كان الاعلام اللبناني استثناء نافراً من حيث انه »قطاع خاص« يتمتع بهامش من الحرية، ولكنه قد فقد في الحرب وبعدها الكثير من وهجه ودوره، فبات »محليا« وضربت قدرته على ان يكون »صحافة العرب«، واخضع لقواعد السوق التي تحكمها المصالح ذاتها التي تصنع السياسة والتي تريد العرب سوقا موحدة ودولاً متخاصمة وشعوباً مقتتلة.
فاما القضاء فإنه في البلاد العربية عموماً جهاز تابع للسلطان، لا يحاكم ولا يحكم بل يحاكم »الخارجين« عليه ويحكمهم، ليس له من الاستقلال ما يحميه ويجعله سيداً وحامياً للقانون والعدل وحقوق الناس، وليس له من ثم اي دور في تصحيح الحكم او الحياة السياسية اجمالاً، ولو بالمعنى الاخلاقي للكلمة.
***
ان محاكمة الرئيس الأميركي هي مناسبة مؤلمة للمواطن العربي يكتشف عبرها وخلالها كم هو بعيد، كفرد وكمجتمع وكدولة، عن مفاهيم الديموقراطية والعدل.
فالرئيس هناك، وبمعزل عن الملابسات و»المؤامرات«، هو انسان، لا تعصمه رئاسته عن النقد ولا تمنع عنه المحاسبة، بل ان محاسبته تصبح اقسى، ولا تعطل »هيبته« او خطورة موقعه القوانين ناهيك بالدستور،
الحصانة للموقع الرمز، وليس للشخص الذي يبقى »شخصاً« ولا يصير صنماً مقدساً.
والدولة أقوى من الرئاسة والرئيس والسلطة جمعيا، لا تختزل بهم ولا بأي من اجهزتها ولا بالحكم مجتمعاً… يتبدل الحكام وتستبدل الاجهزة ويتغير الاشخاص في المؤسسات، لكن الدولة لا تتأثر، لا تسقط بسقوط احدهم، ولا يتفكك المجتمع او يتفجر إذا ما اخطأ جهاز من اجهزة السلطة، ولا يلغى الدستور او يعلق إذا لم يتناسب مع شخص الطامح الى الرئاسة، ولا تعطل القوانين إذا هي لم تتناسب مع مصالح المسؤول.
وتبلغ المأساة ذروتها عربيا، إذا ما انتبهنا الى عدد »الدول« التي يتلعق مصيرها كله بشخص السلطات… من العراق الذي يكاد يشطب من الخريطة ويبقى حاكمه، الى الجزائر التي تكاد تضيع بكل تراثها النضالي العظيم في صراع النافذين على السلطة، والتي يتحكم بضعة انفار بحاضرها وبمستقبلها متجاوزين الدستور الالهي اضافة الى القوانين الوضعية والقيم والاخلاق وسائر ما يميز الانسان عن الوحش، الى السودان الذي يكاد يفقد وحدته الوطنية وهويته ودوره في الحرب الأهلية المفتوحة التي يؤججها الصراع على السلطة، واصرار كل طرف على إلغاء الآخرين، بينما »الدولة« تتهاوى وتشحب وتكاد تفقد مبرر وجودها.
***
لقد انفتح »سحاب« كلينتون عن فضائح كثيرة، بينها ما يخصنا…
ان مغالاتنا في الدفاع عن شخص كلينتون لا تكشف فقط جهلنا بمكامن القوة في النظام الأميركي بل هي تجعلنا في موقع »الجاني« بينما نحن »الضحية«، ضحية ذلك النظام كله وضحية المصالح الأميركية المرتبطة جذريا بوجود إسرائيل وبتفوقها المطلق على مجموع العرب.
هل نستطيع، بعد، ان نضمن أي ذكر للعملية السلمية مستقبلا، وقد »أُسقط« راعيها الأول ثم راعيها الثاني، بدوافع داخلية بحتة؟؟
ان هذه العملية التي تلقت طعنة نجلاء باتفاق اوسلو، والتي سقطت مضرجة بدمائها مع اسحق رابين، قد »استشهدت« مع من استشهد في قانا الجليل بصواريخ شيمون بيريز.
ذلك ان وصول نتنياهو الى السلطة لم يكن مصادفة او نتيجة خطأ في الحساب، او اعلانا مدويا لسقوط مؤتمر مدريد بكل ما يترتب عليه وبكل الاتفاقات التي عقدت خارجه وعلى حسابه، بما فيه اوسلو ووادي عربة والخليل الخ…
نتنياهو وحتى اشعار آخر هو صورة اسرائيل الآن، برنامجه المعلن هو الخطة الفعلية لحكومتها، سواء اكان كلينتون في البيت الابيض، ام خارجه، ومع آل غور ومن دونه.
لقد اختارت اسرائيل نتنياهو، اي انها اعلنت خروجها من العملية السلمية وعليها، وهي لن تعود اليها، ولا قدرة لاحد على اعادتها اليها في المدى المنظور،
بل انها قد اعتمدت هذا الخيار بينما كلينتون في ذروة قوته يتباهى بإنجازاته الاقتصادية الباهرة في الداخل، وبنجاحاته السياسية في الخارج، ويجدد رئاسته لولاية ثانية، ويحوز في استطلاعات الرأي العام نسبة تأييد عارم.
لم يؤثر كلينتون لا على خيارها في الانتخابات ولا على خيار رئيسها الجديد الذي باشر المواجهة مع المعترضين على برنامجه منذ اليوم الاول، في تل أبيب ذاتها، ثم مع »اصدقاء اسرائيل« من المسؤولين العرب، وموقعي الاتفاقات معها، كما مع الراعي الاميركي الذي اقاله فشله داخل مؤسسة الحكم في اسرائيل من دوره كراع للعملية السلمية.
ومؤكد ان سقوط كلينتون في ظل الملابسات التي تحيط به، لن يؤثر فبدل الخيار الاسرائيلي الذي ينفذه نتنياهو، بل لعل ذلك السقوط المحتمل يدفعه الى التعجيل في تنفيذه بشطب موضوع التفاوض مع الفلسطينيين بداية، ثم مع من تبقى من أطراف الصراع، اي سوريا ولبنان.
* * *
والفضيحة (غير الجنسية) في الوضع العربي وليس
في ما فعله او لم يفعله (جنسيا) بيل كلينتون، او في ما فعله ويفعله نتنياهو سياسيا (وعسكريا).
الفضيحة ألا يكون للعرب خيار ينبع من ارادتهم ومن قدراتهم ومن مصالحهم المباشرة، وألا تكون لديهم سياسة، فيظلون يؤرجحون مصيرهم بين رئيس مهدد بالسقوط لاسباب اخلاقية وبين طاغية يهددهم جميعا في وجودهم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وهم لا يجدون من يشكونه إليه!
وهل كانت للعرب سياسة مع كلينتون نفسه، ام انهم كانوا مجرد متلقين لمواقفه ثم لتحولاته عنها؟
وهل للعرب خيار آخر اذا ما طويت نهائيا أعلام مؤتمر مدريد وضماناته الاميركية؟!
لعلها فرصة جديدة للمراجعة، وللتلاقي بين الصامدين والمتوافقين ولو على الحد الأدنى، لاعداد الذات لمواجهة أقسى وأمر، وسواء أبقي كلينتون رئيسا مطعونا فيه ومشهرا به أم خلع وجاء من هو أسوأ منه على العرب..
لعل العرب يتنبهون الى خطورة ان ظل قرارهم معلقا بالصراع على قمة السلطة في واشنطن، وهو مكان لا وجود ولا تأثير لهم فيه، بينما ارضهم وحقوقهم ومستقبل اجيالهم الآن متروك لاعدائهم او للذين يحكمهم او يتحكم فيهم اعداؤهم.
لعلها مناسبة لقمة مصغرة للصامدين والذين لم يخرجوا من الصراع منضمين الى صفوف العدو.
قمة ما بعد مدريد، وما قبل الهجوم الشامل لنتنياهو في ظل سلطة اميركية توافقه كلية على برنامجه حتى لا يكون مصير الآتي كمصير السابقين كلينتون وجورج بوش مع اختلاف أسباب السقوط او الاسقاط.

Exit mobile version