طلال سلمان

ملاحظات عارضة على زيارة تاريخية

عاش اللبنانيون، وجمع غفير من «جيرانهم الأقربين» ثلاثة أيام خارج زمنهم السياسي المألوف، ببركة ضيفهم الاستثنائي بموقعه الكوني المقدس البابا بنديكتوس السادس عشر الذي حيّاهم بقوله «إن لبنان لطالما كان موجوداً في بيت الله».
ولقد عبّر الحبر الأعظم واسع الثقافة عن إعجابه بلبنان الذي رأى فيه «شاهداً للحق والعيش معاً»، داعياً اللبنانيين إلى نبذ الفتنة وتوطيد مشاعر الأخوة… ثم اختار أن يقارن «الفسيفساء اللبنانية بالبهارات التي تضيف النكهة إلى الطعام».
أخذ اللبنانيون إجازة قصيرة من همومهم الثقيلة، السياسية في منطلقها والاقتصادية ـ الاجتماعية في نتائجها، واستشعر المسيحيون منهم مزيداً من الطمأنينة، فهم ليسوا متروكين للريح، بل لهم من يرعاهم ويتولى الاهتمام بشؤون حياتهم ومستقبلهم في أرضهم… أما المسلمون فقد تصرفوا بمقتضى أصول الضيافة واحتفوا بالضيف الكبير الذي تجلله قداسة الموقع لدى المؤمنين.
طغى حضور الشباب في حين تضاءل «حضور» السياسيين الذين تزاحموا ليأخذوا البركة من خلال صور تجمعهم ـ بقوة البروتوكول وحده ـ مع هذا الضيف الذي يستمد قداسته من كونه رأس الكنيسة، لاستخدامها انتخابياً وللتلطي خلف بركته وهم يخوضون معاركهم ذات الطابع الفتنوي… أي أنهم سيفيدون من الصورة لأغراض تناقض ما جاء يبشّر به ويعمل على تحقيقه الحبر الأعظم.
ولقد توجّه البابا إلى آلاف آلاف الشبان الذين تفجّر فرحهم وهم يواكبون تنقلاته أو يحتشدون في أحضان سيدة لبنان في حريصا، ثم في بكركي، وأخيراً في قداس البيال، يستمعون بفرح إلى هذا «المقدس العجوز المثقل بالبركات» يتلو عليهم وصاياه في خطبه ويترنمون بالأناشيد والأغاني والشعارات التي أعدت خصيصاً للمناسبة.
وإذا كان لبنان (وأهله) قد حضر بقوة في كلمات البابا الذي يستعين ببركة موقعه وإيمانه على شيخوخته التي توحي بالطيبة وإن شعّت عيناه بالذكاء، فإن مضمون السينودس الموجه إلى «شعوب الشرق الأوسط» الذي حمله ليطلقه من بيروت قد أُبلغ حصراً إلى البطاركة والمطارنة الذين جاءوا من أرجاء المشرق ليتسلموا النص الذي تطلّب سنوات من النقاش، خصوصاً أنه يلامس طروحات المذاهب المسيحية جميعاً ولا يقتصر على الكاثوليك وحدهم.
على أن الغائب الأكبر في خطب البابا بنديكتوس السادس عشر كانت فلسطين: مع ذلك لم يذكرها بكلمة، ولم يشر إلى شعبها ومأساته غير المسبوقة في التاريخ الإنساني، مع أن بعض شعبها من المسيحيين وهم من نشأوا وتربوا وحفظوا مع أشقائهم من مسلميها مواقع القداسة في القدس والناصرة وبيت لحم… إذ لم يحدث أن اقتلع شعب من أرضه التي كانت أرضه عبر آلاف السنين ليتشرد نساؤه وأطفاله وشيوخه ورجاله في أربع رياح الدنيا، ويخضع من ثبت في أرضه لاضطهاد عنصري غير مسبوق، تجاوز إنكار حقه في بلاده إلى قوننة العنصرية الإسرائيلية باعتبار فلسطين «دولة يهود العالم».
وكان أمراً نافراً أن يعبّر قداسته من على بُعد خطوات من مخيمي صبرا وشاتيلا من دون أن يلتفت أو يلفته مضيفوه، مباشرة أو عبر إشارة سريعة، فيشير في بعض خطبه ـ ولو من بعيد ـ إلى الظلم الفادح الذي وقع وإلى المجازر التي ارتكبت هناك، خلال الاجتياح الإسرائيلي لبنان في العام 1982، حتى لو لم يرغب في تحديد المخططين والمنفذين… خصوصاً أن بعض تجار الدم من السياسيين في لبنان اتخذوا ويتخذون من مذبحة صبرا وشاتيلا عنواناً لأهليتهم للرئاسة والزعامة فيه. ثم أن مسألة «الوجود الفلسطيني» في لبنان كثيراً ما تستخدم في سوق البازار السياسي من خلال استعمال فزاعة التوطين بقصد الإخلال بالتوازن الطوائفي القائم بما يحوّل خوف المسيحيين إلى رعب.
وليس ذنب البابا الذي يعرف التاريخ جيداً كما يعرف الجغرافيا، أن يستخدم «الشرق الأوسط» في الإشارة إلى منطقتنا، طالما أن أهل هذا الشرق لم يعترضوا مع أنه تعبير استعماري نشأة وتعميماً في الاستخدام، يلغي هوية هذه الأرض وأهلها، ويجعلها مشاعاً سائباً، يتساوى فيه المحتل الإسرائيلي مع صاحب البلاد، والمستعمر أو المهيمن الأجنبي، سواء بقواته العسكرية أو بنفوذه الاقتصادي والمالي أو بحصاره السياسي للعديد من أقطار هذه الجهة الجغرافية التي لا أصحاب لها.
إن الزيارة التي أسعدت اللبنانيين قد اتخذت من هذا البلد الأمين منصة لإعلان السينودس الذي يستهدف التقريب بين المذاهب المسيحية، بأعراق المنتمين إليها على اختلاف أوطانهم والدول فيها.
ولأن «الحرية الدينية هي تاج كل الحريات من التسامح الديني إلى الحرية العلمانية في أشكالها كافة وأولها التسامح الديني» فإن الحبر الأعظم يعلم بحكم موقعه ودائرة معارف الفاتيكان الكونية وإطلاع «دولته» ذات الأهمية الاستثنائية في كنوز معلوماتها التاريخية التي تمتد إلى الحاضر القائم في مختلف الدول شرقاً وغرباً، أن ما تعرض له بعض المسيحيين في المنطقة لم يكن «امتيازاً» لهم، بل هو بعض ما يصيب المسلمين في العديد من الأقطار لأسباب ظاهرها مذهبي لكن باطنها سياسي عنوانه الفعلي الصراع على السلطة وليس على مكانة الله في قلوب المؤمنين.
إن ما أصاب المسيحيين في العراق مثلاً لا يقاس بما أصاب المسلمين، سنة وشيعة، بالتناوب، على أيدي الحكم الذي كان يدّعي العلمانية، وكان من ضمن ما أصابهم القتل الجماعي والتهجير الذي اتخذ طابعاً طائفياً وأجلى ـ مع الاحتلال الأميركي ـ الملايين عن أرضهم، وشغلهم بالفتنة عن أعدائهم الحقيقيين، سواء تمثلوا بالطغيان المحلي أو بالاستعمار الأجنبي أو بكل ذلك معاً.
ثم أن نيران الفتنة التي تشعلها أنظمة مرتهنة للأجنبي، معادية لحقوق شعبها، لا تصيب المسيحيين من المواطنين أو الرعايا في أية دولة تحكمها الدكتاتورية بالعسف إلا بوصفهم جزءاً من الشعب… فالاضطهاد شامل ولله الحمد، وإذا كان البابا قادراً على طمأنة المسيحيين فإن ضمانتهم الحقيقية هي الضمانة الفعلية لشعبهم جميعاً، فليس المسيحيون في هذه الأرض جالية أجنبية، بل هم أهل الأرض، ومن يظلمهم حاكم مستبد وطاغية يدمر وطنه جميعاً، وشعورهم بالأمان ينبع من وحدة شعبهم ونجاحه في إسقاط الطغيان الذي وحده ـ وبالشراكة مع الهيمنة الأجنبية وخدمة لإسرائيل ومشروعها بالسيطرة على المنطقة ـ يسعى لضرب هذه الوحدة وتسهيل التعامل مع الشعب بوصفه أشتاتاً من الطوائف والمذاهب والعناصر التي يستحيل توحيدها، وبالتالي فلا بد من «حماية» جماعاتها الروحية… وإذا كان الفاتيكان معنياً بالمسيحيين منهم أساساً، فإن من واجبه ـ بحكم موقعه ـ إظهار اهتمامه الإنساني بأهل البلاد جميعاً، خصوصاً أن وحدة البلاد ضمانة لجميع أهلها.
[ [ [
شرف للبنان أن يستقبل الحبر الأعظم. ولقد أثبت اللبنانيون، كل اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، أنهم شركاء في هذا الشرف… بل لقد أثبتوا وحدتهم وعبّروا ـ من خلالها ـ عن ترحيبهم الاستثنائي بالضيف الاستثنائي… ولعلهم شكروا له أنه منحهم الفرصة لتوكيد وحدتهم عبر المشاركة الشاملة في إظهار الاحترام والتقدير للفاتيكان في دوره من أجل تعزيز وحدة أبناء هذا الوطن ـ الرسالة.
الأوطان بأهلها. وبين مزايا هذا الوطن الصغير أن أهله، وبرغم كل المحن التي عاشوها معاً، ما زالوا مؤمنين به وصامدين في وجه تجار الطوائف والمذاهب الذين يبنون «زعامتهم» من خلال تقسيمه إقطاعيات لهم… بالوسائل الديموقراطية شكلاً والممكّنة للغرائز الطائفية فعلاً كمثل قانون الانتخابات المؤكدة لتحويل الانقسام السياسي إلى كانتونات طائفية متنابذة، تحت سيطرة زعماء الطوائف الذين يعيشون على استثمار الانقسام الآخذ إلى الفتنة.

Exit mobile version