طلال سلمان

ملاحظات سياسية على تدابير ادارية

أما وأن التوقعات تشير إلى أن جلسة مجلس الوزراء اليوم قد تحفل بالكثير من التدابير، إعفاء أو وضعاً بالتصرف أو تعييناً لملء الشواغر في المواقع الإدارية العليا، فلا بد من بعض الملاحظات »السياسية« علها تنفع في ترشيد القرار:
أولها ان الانتماء السياسي للموظف ليس بحد ذاته جريمة ولا هو تهمة يعاقب عليها القانون، بل ان قاعدة الثواب والعقاب تتصل بكفاءته ونزاهته والتزامه الأصول وقيامه بموجبات موقعه في خدمة الناس.
ثانياً وبالمقابل، فإن الانتماء السياسي للموظف ليس صك براءة ولا يعطي »حقاً إلهياً« للحزبي أو امتيازاً يجعله فوق القانون وفوق الناس.
ثالثاً إن الولاء الشخصي (والمذهبي والطائفي) للموظف لهذا أو ذاك من رجال السلطة لا يعطيه امتيازاً مطلقاً يجعله فوق المحاسبة، متى جاءت ساعتها، أو خارج نطاق النقاش في كفاءته، عند التعيين.
رابعاً إن التصرف وكأن البلاد تعيش حالة انقلابية، أو البحث عن إنجاز سريع وله دوي، سيؤدي إلى شيء من التسرع في الأحكام، وبالتالي إلى شيء من الظلم أو التعسف فيصرف مثلاً مَن كان يكفي لتأديبه حسم أيام من راتبه أو تأخير تدرّجه، أو يعيّن مثلاً مَن لا تشفع له كفاءته أو نزاهته أو تميّزه على أقرانه بالاتقان أو بالتفاني في خدمة الناس، ودائماً بالقانون وليس على حسابه.
خامساً ان الثورة الإدارية المطموح إليها هي أعلى مراتب الثورة السياسية، ولعل الادارة هي مقتل الثورات، ولا يمكن أن ينجز مثل هذه المهمة مجموعة من الموظفين (الحاليين أو السابقين) مهما بلغت درجة إخلاصهم، كما لا يمكن أن يتولاها عدد من الوزراء، بعضهم آت من البعيد وبعضهم الآخر آتٍ بغير تجربة سابقة أو بغير خبرة، وبعضهم مَن جاءت به الخصومة لمن كان قبله وسيتصرف بشيء من الكيدية، مهما تسامى، لأن نجاح بداياته يرتبط إلى حد كبير بإثبات فشل السابق أو تورّطه أو ارتكابه… هذا مع الإشارة إلى أن العقوبة لا توقع على الرأس المسؤول وجاني الثروات الحرام من الارتكاب والتورط بل على الموظف الذي لا يملك عادة ما يرد به على العبارة السحرية: »مع الإصرار والتوكيد«!
سادساً تكفي حالة ظلم واحدة لدمغ الإعفاءات بنقص العدالة فيها، كما يكفي تجاوز واحد مع بعض »المرضي عنهم« لدمغ التعيينات بالخروج على النزاهة أو بمحاباة اصحاب النفود الجدد (او الدائمين!).
وتقضي الامانة بأن يعترف اصحاب القرار بأن شيئاً من الظلم قد وقع على بعض من أُعفوا او وضعوا بالتصرف، ولا تستقيم العدالة او لا يعوضهم في سمعتهم او في كراماتهم ان يقال لهم: اذهبوا فتظلموا امام مجلس الشورى، والحكومة ستدافع عن قرارها هناك!. (هذا حتى لو نسينا ان بين الوزراء الذين سيتولون الدفاع عن الحكومة رئيس مجلس الشورى نفسه، حتى ولو كان لا يمارس الآن فعلياً مهام هذا المنصب)…
كذلك تقضي الامانة بأن يعترف اصحاب القرار بأن بين من اختيروا لمواقع عليا، سواء من خارج الملاك أو من داخله، من لا يتمتع بالكفاءة المطلوبة او بالنزاهة المرغوبة، ولا يقتربون بأي حال من »المثل والمثال«.
ان الناس يرددون اسماء لمظلومين فعليين بين المصروفين او المتصرف بهم، ويرفعون صوتهم بالاعتراض او بالتعبير عن مرارة الخيبة حين تذكر اسماء بعض من اوصلتهم الشفاعة او محاباة اصحاب النفوذ او الاطمئنان الى انهم »نكرات« يوالون كل نافذ في كل عهد وكلما زاد في طغيانه زادوا في نفاقه وفي التبرع بخدمات لم يطلبها، يستوي في ذلك تسهيل الصفقات او لفت نظره الى »مغانم« يمكن جنيها بسرعة وبغير ان يترك بصمته على جسم الجريمة اي الاختلاس او سرقة او تبديد المال العام!.
ان الناس مع رد الاعتبار الى الادارة، ولكن ليس على حساب الكفاءة او القدرة على الانجاز او العقل المفتوح على العصر.
ومع ان الناس ينظرون الى الموظف على انه »شخصية عامة«، وبالتالي فهم يحبذون الا يحتل »الحزبيون« المواقع العليا في الادارة، ولكنهم في الوقت نفسه لا يعتبرون الحزبية شراً مطلقاً تستوجب الابعاد عن الوظيفة العمومية.
و»الحزبي« أفضل من »زلمة« النافذ، بالمطلق، وأفضل قطعاً من رجل كل العهود الذي يبدل ولاءه كما يبدل جواربه… وأفضل من المتباهي بمذهبيته او بطائفيته!.
وحتى عشية الحرب الاهلية كان »الحزبيون« في نظر الدولة نوعين:
} النوع الأول يضم من يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة فتفتح امامهم أبواب الوظائف جميعاً، أمنية وعسكرية ومدنية… حتى صار الانتساب الى »أحزاب السلطة« اقصر طريق لدخول الجنة، بل ونشأت »موضة« تأجير »الزر« الدال على الحزبية والذي يفتح كل الابواب المرصودة للمرضي عليهم والذي يمكن ائتمانهم على المواطن والوطن.
} أما النوع الثاني فكان يضم مجموع الاحزاب المحظورة او المشكوك او المطعون في »لبنانيتها« وبالتالي في ولاء محازبيها ومناصريها للسطة الممتازة… فاذا ما نجح »شيوعي« او »بعثي« او »قومي عربي« او »قومي سوري« في التسلل الى نعيم الادارة نادى »اللبنانيون اللبنانيون« بالويل والثبور وعظائم الامور وبينها مخاطر »الاجتياح الاحمر« والافكار الهدّامة للنظام الفريد!
تلك كانت »كارثية«.
اما اليوم فلا يجوز الحكم على مجاميع من المواطنين انتسبوا الى احزاب حولتها الحرب الاهلية الى »ميليشيات«، بأنهم كلهم وبالمطلق »ابناء زنى«، لا يحق لهم ان يجدوا مكاناً في حضن دولتهم يوفر لهم العيش الكريم طالما انهم يلتزمون القانون وقد تم تعيينهم وفق الاصول وبموجب كفاءاتهم الفعلية الثابتة بشهادات صحيحة، ثم انهم قد اكدوا خلال ممارستهم الوظيفة امانتهم وحرصهم على المال العام وموجبات الخدمة العامة لكل المواطنين بغير تفرقة او تمييز.
ليست البراءة من »الحزبية« هي الطهارة، دائماً،
وأسوأ من الحزبية بما لا يقاس »التزلم« او »انعدام اللون« بما يعني الاستعداد للتلون كل ساعة.
ومرة اخرى، ان جموع اللبنانيين قد منحوا العهد الجديد شرعيته، انطلاقاً من ايمانهم بنزاهته وبترفعه عن المكاسب والمنافع وأيضاً عن روح الانتقام والكيدية.
والعهد الجديد اكبر، في نظر الناس، من ان يأسره الماضي، وأكبر ايضاً من ان يسخِّره المبالغون في اظهار ولائهم، نفاقاً ورياء وزلفى، لكي يحلوا محل منتفعين سابقين او ليستمر انتفاعهم اذا ما نجحوا في التحول من »متهمين« الى »قضاة«.

Exit mobile version