طلال سلمان

مقدمات »حكومة وحدة وطنية« قرع جرس انصراف مقاومة

آن أن يتوقف العبث بعقول اللبنانيين وكراماتهم ومصالحهم الحيوية.آن أن تستكمل الولادة العجائبية لهذه الحكومة التي شارك في تشكيلها العالم كله، بشرقه وغربه، وعلى امتداد أربعين يوماً ثقيلة الوطأة، بابتداع »البيان التاريخي« الذي يريد منه البعض أن يكون »نهاية لحقبة استثنائية« عبرت وانتهت، و»بداية لعهد جديد« مقطوع الصلة بهوية البلاد وهموم أهلها.آن أن تنتهي هذه المهزلة التي لن تفيد لا في تعديل موازين القوى، ولا في التمكين للمناخ التوافقي الذي سمح بتشكيل هذه الحكومة التي يفترض أنها إنما استولدت لتجمع لا لتفرق… وهي لن تولد إلا لهذه المهمة، ومهما طال تأخير الموعد الطبيعي لانبلاج فجرها المنشود: أليست هي »حكومة الوحدة الوطنية«، فكيف إذا استمر تغييب الوحدة ستولد الحكومة؟إن استهلاك الأيام في هذا النقاش العبثي يتضمن شيئاً من احتقار الشعب. فبعد سنتين من الحرب الإسرائيلية على لبنان تتصرف بعض الأطراف السياسية وكأنها تريد محاسبة الشعب اللبناني، ومقاومته الباسلة تحديداً، ومعها بعض القيادات العسكرية (بينهما العماد الذي صار رئيساً، ميشال سليمان) على مسؤوليتها عن إفشال تلك الحرب العدوانية ومنعها من تحقيق أهدافها وفي الطليعة منها القضاء على »حزب الله« وكل من عمل في المقاومة أو دعا إليها أو أسهم في حمايتها… ولو بالدعاء!لم تقبل هذه الأطراف أو هي لم تستطع أن تتحمل حقيقة أن المقاومة قد صمدت فقاتلت ببطولة، بينما شعبها يحميها بشغاف القلوب، فها هي تحاول أن تفتح لها »جبهات سياسية« عدة في الداخل تمتد ما بين حق الدولة في احتكار السلاح، حيث لا دولة، وحيث لم تكن لسلاح المقاومة في أي يوم وظيفة داخلية، وما بين اعتبار المقاومة مصدر خطر على الكيان، في حين أنها شرّفت هذا »الكيان« بأن جعلته وطناً، وانتهاء بوضع السلاح ـ المقاومة في مواجهة المحكمة الدولية (!!) والتلويح بالمحكمة في وجه المقاومة وكأنها »عصابة خارجة على القانون« تنتهك القرارات الدولية التي شكلت مظلة حماية غير قابلة للاختراق منذ العام 1948 وحتى اليوم!لا يحتاج الأمر إلى ذاكرة لا تخطئ:فمع توقف الحرب الإسرائيلية، بالأمر الأميركي، على لبنان، لاستحالة النصر فيها، تولى بعض السلطة مهمة إكمال الحصار السياسي على المقاومة.في البدء كانت محاولة نزع الطابع الوطني الجامع من حولها، واتهامها بأنها غامرت وتغامر بمصير لبنان، وبالتالي فهي موضع خلاف بين اللبنانيين..ثم اندفعت المحاولة إلى ذروتها بتصوير »المقاومة« فئوية بدليل أن قياداتها وجمهورها الواسع من لون طائفي واحد… مما يمهّد لتخويف سائر اللبنانيين منها!تواكب هذا الاتهام مع طرح مسألة المحكمة الدولية لمحاسبة المسؤولين عن جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري… وكان المطلوب إثارة اللغط لتحريك الحساسيات المذهبية، بغض النظر عن الحقيقة، بل وعلى حساب الحقيقة.وحين حاول ذلك الفريق من السلطة الذي أُحرج حتى أُخرج منها، أن يعبّر عن اعتراضه فإنه اختار الاعتصام السلمي وسيلة لرفع صوته بالاحتجاج، اتهم بأنه يعطل اقتصاد البلاد ويهدد سلمها الأهلي!لم يوفر أي سلاح في المعركة ضد المقاومة وجمهورها الذي ثبت أنه يمثل أكثرية شعبية راجحة:أُنكرت على المقاومة وطنيتها، وأُنكر عليها إنجازها التاريخي في تحرير الأرض والإنسان… وكاد المصنِّفون يصنفونها فرقة في الحرس الثوري الإيراني مرة، وفرقة كوماندوس تأتمر بالقيادة السورية مرة أخرى.كان اللبنانيون يسمعون التصنيف صادراً عن الإدارة الأميركية في واشنطن رئيساً ووزارة خارجية ووزارة دفاع، فضلاً عن »المحافظين الجدد« المنتشرين ما بين البيت الأبيض والخارجية والممثلية الأميركية في مجلس الأمن، والسفارة الأميركية في بيروت… ثم يسمعونه مترجماً بلسان بعض القيادات اللبنانية التي كانت تهيمن على السلطة، ولو بتراء في بيروت.تمّ توظيف كل ما يمكن توظيفه من أسلحة محرمة، وصولاً إلى اتهام المقاومة بالمشاركة أو بالتواطؤ في الاغتيالات السياسية التي يعرف الجميع أن حزب المقاومة (كما جمهورها) بريء منها تماماً… بل سرعان ما دفع واحد من أبرز قادة هذا الحزب وأكفأهم حياته في حرب الاغتيالات، التي كانت فيها المقاومة قد خسرت قبله بضعة من خيرة مجاهديها، وبالذات منهم من يعمل في الملف الفلسطيني.وهكذا أمكن »للحكومة البتراء« أن تستمر في السلطة، برغم الطعن في شرعيتها الوطنية، وفداحة النقص في تمثيلها شعبها بقواه السياسية الأساسية.وأمكن إبقاء البلاد بلا رئيس للجمهورية ستة أشهر طويلة، بحيث تفاقم الاهتراء في أجهزة الدولة جميعاً في ظل حكومة مطعون في شرعيتها، ومجلس نيابي معطل بالخلاف وشغور في سدة الرئاسة الأولى، وجيش أنهكته المواجهات مع »قوى« ظهرت فجأة، من تحت الأرض، بشعارات أصولية مستهلكة، يخشى أن تكون لها بقية بعد..وكان ذلك كله يسهم في »كشف« المقاومة وحرمانها من الغطاء السياسي الشرعي الذي تحتاج اليه، وهو حقها البديهي، والذي يمكّنها من الاستمرار في أداء دورها الوطني والقومي.ثم كان الهجوم المباشر في أوائل أيار على المقاومة وقيادتها بالقرار الهمايوني الذي استهدف سلاح الإشارة… وكان »الرد العسكري« الذي أقدمت عليه المقاومة كارهة، وهي تدرك أنه سيسيء إلى صورتها وإلى وهجها الشعبي، ولكن لم يكن في اليد حيلة…ومنذ تلك اللحظة بدأ الهجوم الشامل على المقاومة الذي نشهد الآن فصولاً جديدة منه في لجنة البيان الوزاري الذي يُراد منه أن يكون إعلاناً من المقاومة بالتوبة عن المقاومة، وطلب الغفران، وإلا حُمّلت المسؤولية عن تعطيل الدولة، ومنع قيام الحكومة التي ستعالج قضايا الناس وهمومهم المعيشية جميعاً: من الاقتصاد إلى الكهرباء، ومن الزراعة إلى التعليم، ومن الصحة والضمان الاجتماعي إلى باريس ـ ،3 ومن الأمن إلى الأمن في بيروت، في البقاع، في طرابلس، وسائر أنحاء لبنان.يُراد للبنانيين أن يظهروا ضيقهم بالمقاومة، وسخطهم عليها، وأن يقرعوا لها جرس الانصراف: أديت قسطك للعلى… فارحلي!لهذه الأسباب جميعاً فإن البيان الوزاري فضّاح: فضّاح للمواقف كما هو فضّاح للنيات، فضّاح للقوى في الداخل ومن يساندها في الخارج… فضّاح لمن يريد »الوحدة الوطنية« ولمن يعمل حتى لا تكون أبداً.ولهذه الأسباب جميعاً لا يمكن أن يكون التأخير في إنجاز هذا البيان الذي كان يمكن إنجازه في ساعات، عفوياً، ونتيجة الرغبة في الاتقان، وإنهاء زمن الالتباس، وتثبيت الوحدة الوطنية على قواعد سليمة!ولهذه الأسباب جميعاً يمكن أن يتحول التأخير إلى مصدر للتفجير السياسي، وليس الأمني…وعلى من يعطل أن يتحمل المسؤولية… أو هذا ما ينبغي أن يكون.ولعل هذا المعنى كان في »الموقف الجديد« لوليد جنبلاط في لقائه التلفزيوني المثير، ليل أمس.

Exit mobile version