طلال سلمان

مقدمات »الانقلاب ديموقراطي«

ليست الانتخابات هي الهدف ولكنها الممر الاجباري للمرحلة الجديدة في تاريخ لبنان السياسي، وهي مرحلة مختلفة بمقدماتها كما بنتائجها عن كل ما عرفه »نظامه« من تحولات، غالباً ما فرضتها تبدلات في موازين القوة عربياً ودولياً.
هي مرحلة جديدة من طبيعة مغايرة لما عرفه اللبنانيون فألفوه انتخابياً على امتداد الدورات الثلاث الماضية والتي تختصر حقبة النفوذ السوري، التي شهدت إنهاء التصادم العسكري بين القوى السياسية المختلفة في لبنان، وإن لم تنهِ أسبابه (الطائفية) العميقة فظلت ناراً تحت الرماد، في انتظار تبدل مسار الريح..
وهي بداية يمكن التأريخ لها باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ظهيرة الإثنين الدامي الواقع فيه 14 شباط 2005، مع أن مقدمات انتهاء المرحلة أو سقوطها، وكذلك مسوغاتها كانت قد اطلت عشية الخاتمة الدستورية المفترضة لعهد اميل لحود، والتي تم تجاوزها بالتمديد بكل ما سبقه ورافقه ثم ما نجم عنه من تحولات هائلة أبرز ما فيها وضع لبنان (وسوريا) تحت رقابة دولية صارمة.
لقد توالى ارتكاب الاخطاء السياسية الفاحشة في الداخل وعلى المستوى الدولي، حتى إذا وقع الاغتيال كان لا بد من ان يجرف الطوفان كل من اعتبروا مسؤولين عن المناخ الذي سمح بوقوع هذه الجريمة المروّعة التي شكلت منعطفاً خطيراً صار بعده لبنان غير ما كان قبله، وصار القرار بشأنه لغير من كانوا أصحاب القرار فيه.
ثمة من ارتدت عليه الجريمة بهزيمة سياسية.. وكان بديهياً ان تفقد »سلطة« اميل لحود شرعيتها (المطعون بتمديدها اصلاً)، وأن ينال الوجود السوري، وهو الحامي لهذه السلطة، الكثير من الضرر الذي بلغ حدود التشهير، والذي ارتد على صورة سوريا بالتشويه وعلى العلاقة الأخوية التي تربط بين الشعبين الشقيقين بالأذى الجارح.
وكان بديهياً أن تشمل قائمة المهزومين مجمل من كانوا يعدون في خانة »حلفاء سوريا« في لبنان، أينما كان موقعهم في السلطة المتداعية، والتي حاول رأسها ان يكون أول من يقفز من السفينة المهددة بالغرق.
انهارت، بمثل لمح البصر »جبهة« كانت تضم أشتاتاً من الاحزاب والقوى والسياسيين، بعضهم طارئ، وبعضهم عتيق تم تجديده كيفما اتفق لضرورة ملء الفراغ »بالحلفاء«.. مع تساهل لافت بشروط الانتساب.
بالمقابل فقد تحول اغتيال الشهيد رفيق الحريري إلى نقطة انطلاق للتغيير الشامل، إيذانا بانتهاء مرحلة بكامل رموزها، تقريباً، وبداية مرحلة جديدة تولى العنصر الدولي صياغة ملامحها الأولى..
وإذا كانت المصادفات قد وفرت المدخل الشرعي عبر الانتخابات النيابية المقررة أصلاً في مثل هذه الأيام، فلقد كان بديهياً ان تفيد الدول من هذا الموعد القدري لتحقيق شعارها الأثير عن »التغيير بالديموقراطية«، وإحداث التحولات السياسية بأصوات الناخبين.
من هنا كانت الانتخابات أهم من قانونها، وكان موعدها أهم من التساؤل عن شرعية »تسريح« المجلس القديم قبل ان ينعقد في جلسة ختامية لتشريع ما يصعب تشريعه من قوانين عفو وتبديلات في الدوائر مراعاة للحساسيات الطائفية الملتهبة.
نتيجة لهذا كله فقد اكتملت شروط »الانقلاب الديموقراطي«، فانتقل من كانوا يحتسبون أو يحسبون أنفسهم في خانة المهزومين بالإحباط أو المغيّبين بالانتقام، من الصفوف الخلفية إلى الصدارة، وقد أعيد إليهم اعتبارهم من خلال مشاركتهم الكثيفة في المناسبة الأليمة التي أتاحت لهم فرصة النزول إلى الشارع بقليل من شعاراتهم العتيقة واستعداد معلن للتسليم بقيادة أهل الشهيد الذي شكل اغتياله بعثاً للبنان الاستقلال والسيادة والحرية، مفترضين ان الوصاية الدولية ستحفظ لهم موقع الصدارة التي طالما اعتبروها »حقهم الشرعي«.
* * *
إن صورة جديدة للبنان بدأت ملامحها تتكامل، وبقرار دولي معلن، ويجري تنفيذه بمنهجية صارمة، تمتد من التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، إلى الانتخابات النيابية بنتائجها المتوقعة والتي يصعب تبديلها، إلى ما بعدها مما يطال السلطة الاجرائية التي يمكن تسمية رئيس حكومتها المقبل منذ اليوم، والتي يكاد البعض يجزم بموعد رحيل صاحب عهدها الممدد، وحيثيات »صرفه من الخدمة«.
لكأنما يراد من الانتخابات، بموعدها الذي يستمد حرارة استثنائية من الغضبة الشعبية العارمة استنكاراً لاغتيال رفيق الحريري، أن تطوي »ديموقراطيا« الحقبة السورية بمعظم رموزها.
يستثنى دائماً »حزب الله« الذي ألمح القرار الدولي الى اسلوب آخر في معالجة قضيته، وبتوقيت خاص لا يشاغب على »التغيير بالديموقراطية«… فالقرار الدولي قد يمهل ولكنه لا يهمل، ولا بأس من ارجاء معركة كبرى لتمرير مكسب مؤثر في الميدان الذي سيظل مفتوحاً حتى إنجازها.
***
لم يحدث في تاريخ لبنان، وعائلاته السياسية، ان باشر شاب في مثل عمر سعد رفيق الحريري، قيادة سياسية لتيار يمثل هذا الاتساع والقدرة على التأثير الذي يمثله الآن »تيار المستقبل«، الذي أسسه »الأب الشهيد« فكان »تنظيماً« له حضوره المعنوي في حياته، ثم صار طوفانا شعبياً جارفا بعد استشهاده، تكفي »صورته« معبرا الى النجاح في اي انتخابات.
انه امتحان صعب امام الشاب الذي يشبه أباه الشهيد في الكثير من ملامحه والكثير من صفاته وكفاءاته وتقاليد مسلكه. فهو كتوم، متحفّظ، يعرف الثوابت ويحسن قراءة التحولات السياسية، وصاحب وجه تشغلك وسامته عن استشفاف ما ينتويه او ما يريد ان يقرره بعد الاستئناس بآراء الآخرين، وإن كان القرار جاهزا لديه.
ومع أن الرياح الدولية سوف تقدم مساعدة مؤثرة لسعد الحريري في انطلاقته الواعدة والتي يبدو طريقها مفتوحا بلا عقبات.
.. ومع انه محاط بكثير من الناصحين الذين لهم نفوذهم الدولي الحاسم.
فإن نجاحه سيرتبط الى حد كبير في القدرة على تحويل ما هو عاطفي الى سياسي، اي ما هو تعاطف الى تحالف على قواعد ثابتة وملبية لنزوع الجمهور لهوية وطنية تؤكد عروبته ولا تلغيها بذريعة الانتقام لوالده الرئيس الشهيد.
لقد كان سعد الحريري شجاعا في قبول التحدي بالتقدم الى هذه المهمة الصعبة، خلفا لرفيق الحريري الذي كان في حياته مالئ الدنيا وشاغل الناس والذي تحول بعد استشهاده الى اسطورة تكاد تضعه في مصاف الاولياء والقديسين، بدليل ما يجري يوميا عند ضريحه في قلب بيروت، كما بدليل ما ستوفره الانتخابات من فرص فوز لمن لم يكن يحلم بها لولا صورة الحريري.
وهكذا ارتضى ان يكسر المحظور فيقبل أرملة بشير الجميل »حليفا« انتخابياً، تحت شعار »تدعيم الوحدة الوطنية«، معتبرا ان الماضي قد مضى، وأن المستقبل هو ما يجب ان يكون موضع الاهتمام..
وبالتأكيد فإن كثيرين قد يعترضون على هذه الخطوة التي قد يرون فيها نوعاً من نبش ذكريات مرة لحقبة الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، لكن منطق سعد الحريري يقوم على ان الماضي قد مضى، وأن وحدة اللبنانيين الوطنية ستمنع تكرار مثل تلك الخطايا والاخطاء التي حفلت بها تلك الحقبة بدروسها القاسية.
لقد قبل سعد الحريري تحديات عديدة مع اللحظة الاولى لدخوله الى المسرح السياسي… لكنه يبدو مطمئنا الى موقعه في نفوس اللبنانيين، ثم إلى الضمانات الدولية والعربية التي أعطيت له، والتي تجعله يتصرف بثقة وبلا خوف من أشباح الماضي، وهي عديدة.
إن لبنان على عتبة مرحلة جديدة، مختلفة جديا عما ألفنا خلال الخمس عشرة سنة الماضية، ولكنها ستكون محكومة الى حد كبير بالقرار الدولي الذي فرض الانتخابات بموعدها وقانونها ونتائجها شبه المعروفة،
وهو القرار الذي ينظر إليه الكثيرون على انه سيكون الضمانة لتنفيذ اتفاق الطائف بطبعته الاصلية منقحة ومزيدة بدماء رفيق الحريري.

Exit mobile version