طلال سلمان

مقترح اميركي على عرب مسلمين موتوا من اجل احتلالنا عراق وفلسطين

غطت وجوهنا دماء الأبرياء المسفوحة في جرائم جماعية مشهودة في العراق استهدفت، أمس الأحد، المسيحيين من مواطنيه المؤسسين وهم يصلون في كنائسهم التي عمرها من عمر بلاد ما بين النهرين، فتهيبنا ان نمضي في »ترف« الحديث عن محلياتنا، بشؤونها وشجونها من المضحكات المبكيات، خصوصاً أن هذا الحديث مفتوح لغرائب التصرفات وعجائب التحالفات المتعارضة مما لم يعرف مثيله في أي زمان أو مكان.
فما أهمية ما شهدناه، أمس أيضاً، في بيروت ومن حولها من »تطورات« جعلت رئيس الدولة ينعى الدولة وهو ينتقل إلى موقع المعارض الأول، مزايداً على غلاة المعارضين المحترفين في اعلان اليأس من قيامة هذا الوطن الصغير.
… في حين ان الحكومة، برئيسها والوزراء الكثر الذين نسي الناس أسماءهم ونسوا هم مهماتهم، يواصلون اطلاق الرصاص على الدولة المتهالكة، ولا يلتقون في »مجلس وزراء« إلا بالضغط وتوسط ذوي الشفاعة، لكي يحفظوا مظهر الحكومة المعلن موتها منذ لحظة تشكيلها الذي لا يعرف له أب وينكره كل من تحمل وزر المشاركة فيه.
.. وما أهمية المعارضات التي تتوالد جبهاتها ملتبسة الأهداف، ناقصة النمو، تخاف من ان تدعي امتلاك برنامج للحكم غير التشهير بالقائمين بالأمر الذين يصعب اعتبارهم »حُكْماً«، بالمعنى الدستوري في نظام ديموقراطي برلماني (والبرلمان لا يعرف أهو حيّ فيرجى أم ميت فينعى..) … وبعض هذه المعارضات يوجه رصاصة إلى »الرئيس« وبعضها الآخر إلى »السلطة«، وبعض ثالث إلى الحكومة من دون الرئيس، ومجملها يلقي المسؤولية على سوريا ويرتاح..
ما أهمية هذه المهازل بالمقارنة مع الفواجع التي تتوالى فتهدد شعوباً شقيقة في اقطارها القريبة منا في كيانها السياسي ووحدتها الوطنية، كما في العراق، أو في قضيتها ووطنها وحلم الدولة كما في فلسطين؟!
وعلى »خطورة« الصراع فوق مزبلة السلطة المحتدم، في لبنان، فإن ما يتهدد العراق، بعد فلسطين ومعها، يتهددنا بمخاطر أشد وأدهى بما لا يقاس من صراع الديكة الحكام الذي تشبّع به اللبنانيون حتى الملل..
وقد زاد من هذه المخاطر الاقتراح السعودي، الذي تبنته الإدارة الأميركية بسرعة لافتة تدفع إلى الريبة، وخلاصته أن يجري العمل لإحلال قوات عربية وإسلامية مكان قوات الاحتلال الأميركي، المموّهة ببعض التشكيلات المستقدمة من دول فقيرة لتموت نيابة عن الجنود الأميركيين والبريطانيين، فضلاً عن مجاميع المرتزقة الذين تم تطويعهم بتعجل للمهمة »المقدسة« ذاتها، وإضفاء بعد دولي مموه بقرار من مجلس الأمن استصدرته الإدارة الأميركية بقوة الاقناع على قاعدة »العرض الذي لا يمكن رفضه« الشهيرة والتي مثلها الراحل مارلون براندو أفضل تمثيل في »العرّاب«…
ومن الصعب الافتراض ان هذا الاقتراح سعودي المنشأ. ولعل التوضيحات التي بادر إلى اطلاقها وزير خارجية السعودية، الأمير سعود الفيصل، بحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، الذي استدعي على عجل، تؤكد على ان الإدارة الأميركية هي المصدر الفعلي للاقتراح، وأنها قدمته »كعرض لا يمكن رفضه« مرة أخرى، للحكم في السعودية، الذي يتعرض منذ ثلاث سنوات لضغوط أميركية شديدة، عنوانها المعلن اتهامه بمسؤولية غير مباشرة عن تفجيرات 11 أيلول 2001، التي ارتكبها »إرهابيون« سعوديون بأكثريتهم، وإن كانت تنشئتهم وتدريبهم وتمويلهم وتسليحهم قد تمت بالأصل برعاية أميركية مباشرة.
وهكذا فقد وجد الحكم في السعودية نفسه بين المطرقة الأميركية وسندان »القاعدة«، ومعظم المنتسبين إليها، وإلى ما ماثلها من التنظيمات القائمة على سلفية مغلقة، إنما يتحدرون من »مدارس« تُحل التعصب العدائي لكل مختلف معها محل الوعي السياسي، وتتوجه بإرهابها إلى من خالف أو اعترض أو رفض احتكارها للنطق باسم الدين، في حين أن الإسلام أرحب من ان يكون حكراً على فئة يعميها انعدام الوعي وتخلف الفكر السلفي عن فهم الدين بسماحته وتوجهه إلى الناس جميعاً.
ومع الأخذ بالاعتبار التحفظات السعودية على المقترح الأميركي الخبيث الذي يريد تحويل احتلاله العراق إلى حروب مفتوحة بين العرب والمسلمين على أرض العراق وفي مواجهة شعبه المحطوم الإرادة والمضيعة قدراته ومقدراته، فإن مجرد طرحه يدل على عمق المأزق الذي تعاني منه الادارة الاميركية نتيجة لجريمة احتلالها العراق.
وحتى لو افترضنا ان هذا الاقتراح الخبيث الذي يراد تمويهه بالعباءة السعودية، انما هو مجرد »حركة مسرحية« تقدم خدمة ثمينة للادارة الاميركية في الانتخابات الرئاسية المحتدمة والتي يتهدد فيها جورج بوش خطر السقوط لاسباب عديدة (معظمها داخلية، على الارجح) لكن عنوانها يظل »التورط« في عملية مكلفة ومهددة بالفشل الذريع في عراق ما بعد صدام.
… حتى في ظل هذا الافتراض يظل الاقتراح الاميركي ورطة جدية ترمى على السعودية التي لا ينقصها المزيد من الهموم، بعدما تفجرت فيها بالارتداد الازمة التي حاولت تصديرها برعاية اميركية مشهودة الى أفغانستان قبل ربع قرن تقريباً.
اي ان الادارة الاميركية التي أغوت السعودية بالتورط في افغانستان، ثم عاقبتها مرة اولى على نتائج ذلك التورط، بالموقف السياسي الحاد والضغوط القاسية التي فرضتها عليها خلال السنوات الثلاث الماضية، تصل الآن بالعقوبة الى اشدها اذ تفرض عليها ان تتحمل الوزر الثقيل لانقاذها من الغرق في المستنقع العراقي وذلك بأن تفتديها فتغرق وتُغرق معها العرب والمسلمين فيه، مكتفية بشرف إنقاذ المحتل الاميركي من النتائج السوداء لتورطه في بلاد السواد.
النفط للاميركيين، والهيمنة على المنطقة بأجمعها من ادنى الارض العربية الى اقصاها للاميركيين، بالشراكة مع الاسرائيليين… اما العبء، من الدم الى المال، فيقع على العرب
والمسلمين تحت شعار: موتوا لتحظوا بالرضا الاميركي ومعه الصفح الاسرائيلي عما تقدم من ذنوبكم وما تأخر!
»أطرف« ما في هذا المقترح الاميركي انه يقدم، عبر السعودية، الى العرب والمسلمين، بينما الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين يواصل إغراقها بدماء ابنائها: يصادر ارضها بالمستعمرات التي يستقدم لها وحوش المستعمرين من اقصى الارض، ويعزل الام عن ابنها والاخ عن اخيه والحي في المدينة الواحدة عن الحي الآخر، والمدرسة عن القرية، والجامعة عن طلابها، بجدار الفصل العنصري…
كل ذلك والعرب والمسلمون، الذين اكتشفت الادارة الاميركية ان لديهم جيوشاً عاطلة عن العمل (الا في القمع الداخلي)، يتجنبون النظر في اتجاه فلسطين… وقد منعهم الارهاب الاميركي، المعزّز للاحتلال الاسرائيلي، حتى عن ارسال معونات طبية او غذائية او كتب مدرسية الى اطفال فلسطين، فضلاً عن التبرع لهيئاتها الاهلية (وبعيدا عن سلطتها) بما يمنع الناس من ان يموتوا جوعاً.
إن المقترح الاميركي يستهدف ان يرمي دماء العراقيين، امس واليوم وغدا، على العرب والمسلمين، لكي يبرّئ الادارة الاميركية من هذه الجريمة الدولية التي تمت وقائعها تحت انظار العالم اجمع.
الغُنم لاميركا (وإسرائيل) والغُرم على العرب والمسلمين…
فهل بعد هذه عدالة؟!
اما الحديث عن الامم المتحدة ودورها، ومحاولة استخدامها مرة اخرى كغطاء للاحتلال الاميركي، بشرعنة القوات العربية الاسلامية المقترحة، فليس اكثر من محاولة تزيين الخطيئة بالادعاء ان الزانية حبلى قليلاً، وأنها بالتالي لا تستحق الرجم، بل مساعدتها على أن تلد ابناء الزنى.
ومن أسف أن أخطاء السفّاحين تحت شعار المقاومة، والتي ترتكب يوميا في مختلف أنحاء العراق، والتي كانت جريمتهم ضد المسيحيين فيه بالامس، عيّنة فاضحة لبشاعة أفكارهم قبل أدواتهم، قد تستخدم ذريعة لتوريط العرب والمسلمين في حروب لا تنتهي تحت شعار إنقاذ العراق، في حين أن مثل هذه المهمة القذرة لا تنقذ غير الاميركيين، وتكون تجسيداً للمثل القائل »رمتني بدائها وانسلّت«.
ومن أسف ان العرب والمسلمين لا يملكون ما يقدمونه لانفسهم في اقطارهم، فكيف يمكن ان يقدم بعضهم العون للبعض الآخر، وجلّهم ضحايا الطغيان الداخلي والتخلف الفكري وانعدام الوعي نتيجة للحركات السلفية العمياء بالتعصب، اي في وضع مشابه لما كان عليه العراقيون ايام الطاغية صدام حسين الذي اختار وريثه فإذا هو الاحتلال الاميركي.

Exit mobile version