طلال سلمان

مقاومة لا كاتيوشا

قبلت إسرائيل »تفاهم نيسان« كارهة، ومجبرة إلى حد ما، لتغطي فضيحتها العسكرية وجريمتها البشعة بارتكاب مجزرة قانا بضحاياها المئة والخمسة، وكان بينهم علم الأمم المتحدة وجنودها ومجلس الأمن الدولي وقراراته ولا سيما القرار 425، والمدنيون بمن فيهم النساء والأطفال والشيوخ.
وقبلت الولايات المتحدة الأميركية صيغة »تفاهم نيسان« محرجة، فإذا كانت لا تستطيع الوفاء بتعهداتها وبرسائل الضمانات التي وزعتها على الأطراف لطلب السلام برعايتها من مؤتمر مدريد، فلا أقل من أن تضمن حياة الناس ومرافق البلاد المدعوة إلى إنهاء الصراع التاريخي بتسوية سياسية اضطرارية.
أما فرنسا فقد فرضت نفسها طرفاً في »التفاهم« مستفيدة من الخطأ السياسي الفادح الذي ارتكبته حكومة شيمون بيريز في إسرائيل، ومستفيدة من الحرج السياسي الذي استشعرته الإدارة الأميركية متأخرة، وليس إلا بعد وقوع المجزرة، فعاد وزير خارجيتها آنذاك، وارن كريستوفر »على السمع« بعدما كان أعلن أنه سيكون مشغولاً بغيرنا عند الطرف الآخر للدنيا: الصين!
ولعله لم يكن يحسب أن »عناقيد الغضب« الإسرائيلي الذي أخذ علماً بتفجيرها في لبنان وباللبنانيين ستترك وراءها بحوراً من الدم لا يمكن التعامي عن تأثيراتها السياسية في العالم كله.
كان »التفاهم« هو التعويض الرمزي اليتيم عن كل الخسائر البشرية والاقتصادية التي تكبّدها لبنان نتيجة اجتياح نيسان 1996.
وكان تعويضاً من طبيعة سياسية، إضافة الى أنه شكّل »بوليصة تأمين« ضد المخاطر الإسرائيلية، لضمان حياة المرافق الحيوية ومنشآت البنية التحتية والمواطنين اللبنانيين الذين أجبرت نيران الموت الإسرائيلي أكثر من نصف مليون منهم على هجر بيوتهم المدمرة أو المهدّدة بالدمار، والمطفأة الأنوار والمقطّعة طرقها والمقطوعة عنها المياه، وترك أراضيهم بمحاصيلها المحروقة في الجنوب.
على أن المكسب السياسي الباهر تمثل في دخول المقاومة طرفا في الاتفاق، وانتزاع الاعتراف الدولي (والإسرائيلي) بمشروعيتها، وهو مكسب حققته ببسالتها في التصدي للاجتياح وصمودها البطولي حتى توقف العمليات العسكرية، وبفضل الاحتضان الشعبي والرسمي لجهدها الممتاز،
.. كما بفضل الرعاية السورية الكاملة، والتي أبقت القيادة في دمشق مستنفرة ومتيقظة ونشطة التحرك حتى استقطبت الحركة الدولية جميعا، فاستقبلت في وقت واحد وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وإيران، إضافة الى موفدين آخرين عرب وأجانب جاءوا لإعلان التضامن أو التبرع ببذل المساعي الحميدة.
كل ذلك معزّزاً بتعاطف الرأي العام العالمي الذي أفزعه منظر الجثث المقطعة الرؤوس والأطراف، والتي سقطت داخل »ملجأ الأمان« أي في معسكر قوات الأمم المتحدة، التي جاءت أصلاً لتطبيق قرار يقضي بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية التي اجتاحتها قبل ذلك بثمانية عشر عاما،.. ثم عجزت حتى عن حماية معسكراتها!
هل يمكن تعديل »تفاهم نيسان« وفي أي اتجاه؟!
من السذاجة السياسية، وتحديدا في هذه اللحظة، الحديث عن »سقوط« تفاهم نيسان، فليس من مصلحة أي طرف وبالتحديد الطرف الإسرائيلي أن يسقطه عامداً متعمداً، وإن كان قد دأب على محاولة التملص من تحديداته، أو إعادة تفسيره بما يبقي يده حرة في الرد على عمليات المقاومة ضد جيش الاحتلال.
لكن »تعديل« مفهوم »التفاهم« وارد، خصوصا إذا كانت مصلحة »الراعي الكبير« للتفاهم ومن قبل »للعملية السلمية« برمتها أن يعدله وفق منظوره أو بما يتناسب مع روزنامته الخاصة لاستئناف المفاوضات على المسارين اللبناني والسوري، وقراءته الخاصة لعبارة »من حيث توقفت«، في ضوء تقديره الخاص لدور إيهود باراك ورعايته المباشرة لنجاحه في الانتخابات ثم في تشكيل الحكومة بشروط مناسبة، تمهيدا لذلك اليوم الموعود: إنجاز اتفاقات تضع حداً »للصراع التاريخي« أقلّه في المدى المنظور.
ما زالت ثمة حاجة إلى »تفاهم نيسان«، ولو بطبعة منقّحة ومعدّلة عن تلك التي أنجزت في ظل ضغط الدم والفشل البيريزي المدوي قبل ستة وعشرين شهرا.
فالتفاهم، هو في المحصّلة الأخيرة، نتيجة معادلات سياسية محددة في لحظة سياسية محددة، تستند إلى معطيات عسكرية محددة عبّرت عن ذاتها على الأرض مباشرة.
وهو اتفاق يبقى بحاجة الأطراف إليه، أو باضطرارهم الى الإبقاء عليه، ولو معدّلاً، أي ضعيفاً، في انتظار »الاتفاق الأصلي« العتيد… والذي يفترض أننا نعيش عشية تحوله من احتمال إلى أمر واقع.
أي أنه اتفاق يبقى طالما استمرت الحاجة إليه، وفي انتظار »اتفاق آخر« على حد ما قال وزير خارجية سوريا فاروق الشرع.
لبنان بحاجة إلى التفاهم، وسوريا معه، وفرنسا حكماً.
أما الولايات المتحدة فتريده »معدّلاً« أو منقّحاً، في ضوء المعادلة الجديدة التي فرضتها الضربة الأخيرة لبنيامين نتنياهو والتي يمكن أن يوظفها باراك من دون أن يتحمّل مسؤوليتها، وخلاصة المعادلة الجديدة: البنى التحتية مقابل الكاتيوشا!
وبهذا المفهوم فإن إسرائيل باراك ما زالت بحاجة إلى تفاهم نيسان، أقلّه بالقراءة الأميركية الجديدة.
والأرجح أن إسرائيل ومعها أو ربما قبلها واشنطن ستعمل على استدراج مواقف لبنانية سياسية تستهول احتمال سقوط التفاهم لتلتفت الى المقاومة تحملها المسؤولية وتطالبها بالاستغناء عن الكاتيوشا.
ولن يكون مستغرباً أن ترتفع نغمة المطالبة بإخراج الكاتيوشا من الصراع وكأنها السبب في قتل الكهرباء والجسور والاطمئنان الهش والمؤقت الذي كان يعيشه اللبنانيون ويحبّون أن يفترضوا أنه دائم وأبدي وأزلي مثل الأرز!
مرة أخرى، علينا أن نحمي المقاومة، فرأسها المطلوب، من أجل أن يكون »السلام« الموعود مجرد استسلام على الطريقة العربية، فلسطينية مثلاً، أو ما يعادلها.
المقاومة لا الكاتيوشا هي القضية.
طلال سلمان

Exit mobile version