يفرض الخامس من حزيران ظله الثقيل علينا اليوم!! وتطل الذكرى الأربعون لهزيمة العرب ومشروعهم القومي أمام الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولإرادتهم في التحرر والتحرير، وقد تحوّل دخولهم في ليلها الطويل إلى ما يشبه الخروج من التاريخ.. وحتى من الجغرافيا إذا ما نظرنا إلى ما يجري في ما تبقى من فلسطين، أو خاصة إلى ما يجري للعراق وفيه، فضلاً عما جرى ويجري وسيجري للسودان وأقطار أخرى…
أما لبنان فحديثه متصل منفصل، وسنعود إليه بعد استعراض سريع لأبرز وقائع اليوم السابق على الذكرى:
? لأمر ما، اختار (؟) الرئيس المصري الذي كان مقاتلاً في ماضيه يوم 4 حزيران لاستقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية التي استولدها الترف الديموقراطي عند العدو في غياب عدوه ، متمثلاً في السلطة الفلسطينية المنشقة على ذاتها، والمحاصرة عربياً، والمجوّعة بقرار دولي.
? المذابح المنظمة لاستيلاد الفتنة في العراق تبلغ ذروة جديدة: الإعدام على الهوية داخل المساجد، وتمدد الفتنة بفتاوى الزرقاوي القاتلة المستدرجة لردود من الطبيعة ذاتها تحوّل العراق إلى أرض رافدين من دم.
? تيري رود لارسن يعود إلى المنطقة مجدداً، وقد تعوّدنا منه ألا يعود إلا لتنظيم فتنة جديدة، أو لتعميق بل تأصيل أسباب الخلاف ليكون اشتباكاً مفتوحاً بين لبنان الجريح وسوريا المفروضة عليها عزلة دولية لأسباب يبدو لبنان عنواناً فيها لأغراض شتى.
فأما في لبنان فإن الظل الثقيل للهزيمة يطاول بقعة الضوء التي كان الأمل أن تتوسع وعداً بنهار جديد. فلقد انتصرت المقاومة بدماء مجاهديها وبالتفاف الشعب بأكثريته المطلقة من حولها، وبالتزام الدولة (ومعها سوريا) تأمين ظهرها، على العدو الإسرائيلي، وأجبرته على الجلاء عما كان احتله من أرض لبنان منذ العام 1978 (ما عدا الشريط في مزارع شبعا)…
وكان انتصارها البهي للبنان والعرب جميعاً، أعطاهم العيد الذي غادرهم منذ عهد بعيد.
وبالتأكيد فإن مناخ الحريات السائد في لبنان نتيجة للتنوع وبفضله، قد وفر شيئاً من الحماية لهذه المقاومة التي كانت بعض الأطراف السياسية لا تقبل منطقها، من حيث المبدأ، ثم سلّمت بوجودها بعد الانتصار على أمل أن تلتهمها التشققات والصراعات التي تستقوي بحقوق الطوائف والمذاهب فتلتهم الدولة ومؤسساتها الديموقراطية (السياسية منها والقضائية والأمنية)…
ومنذ الانتصار وتلك الأطراف السياسية تتربص بالمقاومة، وتحاول استعداء الجمهور ضدها، فتطالب بأن تصرف من الخدمة ، باعتبارها قد أدت ما عليها مشكورة وعليها أن تترك السياسة لأهل السياسة، وأن تسلم سلاحها الذي أنجز ما عليه مع العدو وتحوّل إلى بعبع يخيف أهل الداخل.
وكانت الجهود دائبة، في الداخل ومن الخارج، لإسقاط هالة الإنجاز الوطني القومي عن صورة المقاومة، وإعادتها إلى قوقعة طائفية بل ومذهبية، لتنسجم مع الموضة اللبنانية حيث لكل طائفة أو مذهب حزبها/ حزبه السياسي، وإغراقها بالتالي في المستنقع الطائفي…
لكن قيادة المقاومة ممثلة بالأمين العام ل حزب الله السيد حسن نصر الله، كان لها من الوعي والحكمة وصدق الوطنية ما عصمها من أن تكون حزب الشيعة ، وأن تتقوقع داخل المذهب ، وأن تحبط المحاولات الحثيثة لجرها إلى صدام في الداخل، مع أي طرف… وقد بلغت هذه المحاولات ذروتها مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي تحفظ له قيادة المقاومة، بإعزاز، جهده الممتاز في سياق الإنجاز التاريخي المتمثل في تفاهم نيسان 1996 والذي كان بمثابة المقدمة لكتاب النصر.
ولقد تحمّلت قيادة حزب الله (وأمينه العام تحديداً) العديد من حملات التجني بلغت حد التشهير والاستهانة بالإنجاز، والطعن بوطنيتها، واستمرت في جهدها لحماية ضمانتها ممثلة بالوحدة الوطنية خصوصاً وقد حصنتها بالنصر المؤزر على العدو الإسرائيلي وتحرير الأرض ومعها الإرادة المحتلة.
وكانت أشرس الحملات وأقذعها تلك التي ركزت على علاقة المقاومة بسوريا، التي وفرت لها دعماً مفتوحاً طوال مرحلة الجهاد من أجل التحرير… فأصحاب المنطق الذين انقلبوا على الإدارة السورية للبنان ورأوا فيها من بعد جلائها احتلالاً، وجدوا في الهجوم على المقاومة مدخلاً إلى العهد الجديد برعاته الأميركيين والفرنسيين.
لكن ذلك كله لا يبرر لمن يعتبر بين جمهور المقاومة ما صدر عنه ليل الخميس الماضي من تصرفات خاطئة ومعيبة ومسيئة إلى صورة المقاومة ورموزها، بل وإلى لبنان وصورته في عيون أهله العرب والعالم.
إن هذا الجمهور الذي يضفي قداسة مطلقة على المقاومة ورجالها يسيء إليها بادعاء انتسابها إليه وحده، وهذا غير صحيح بالمطلق، ثم إنه يصور الآخرين وكأنهم خارجها أو خصومها، وهذه إهانة للمقاومة وللناس عامة في لبنان، وكلهم يعتز بالمقاومة وقيادتها.
ولا يخفف من الخطأ في هذا الموقف أن يقال إنه رد فعل على من استهانوا بدماء الشهداء أو بكفاءة القيادة الممتازة التي أنجزت التحرير.
ثم إن هذا الجمهور الذي تحركه في العادة عاطفته، وأحياناً أحقاده الطبقية، قد اندفع مع الإهانة التي استشعرها موجهة ل سيد المقاومة كرمز ديني فضلاً عن موقعه السياسي القيادي ليرتكب الخطأ المطلق: استعداء الآخرين (وهم ليسوا أعداءً في أي حال!!)… فاندفع إلى الشوارع هائجاً، بغير وعي، وبغير رادع، فأساء إلى الأهالي (أهله) وإلى عاصمته، فضلاً عن إساءته إلى المقاومة.
وببساطة يمكن القول: لم يكن ثمة أصلاً ما يستدعي خروج هذا الجمهور إلى الشارع، ولا كانت المقاومة بحاجة إلى هذا النوع من الدفاع الذي يسيء إلى قضيتها وقيادتها وسلاحها ويستعدي عليها الناس، وهم بحرها، ويجعلها طرفاً وهي قد نجحت في أن تكون مرجعية وطنية يقر لها اللبنانيون بكفاءتها فضلاً عن صدق وطنيتها وحرصها على وحدة البلاد شعباً وأرضاً ودولة.
لقد ألحق هذا الجمهور غير المنضبط وغير المسيّس والمقاد بعاطفته أو بغريزته الأذى الفادح بالمقاومة كقضية وكمرجعية، وبالتالي فقد أسهم في إضعاف موقعها عند اللبنانيين عموماً وعند أهل بيروت خصوصاً، ونقل بذلك المقاومة إلى موقع دفاعي في حين أنها كانت قد نجحت في إظهار خصومها من القوى السياسية متهاونين في شروط حماية لبنان من عدوه، ومتساهلين كثيراً مع الدول التي عادت تحاول فرض وصايتها على لبنان.
? ? ?
في 5 حزيران 2006 علينا أن نسجل إساءة بالغة إلى الإنجاز الوطني العظيم الذي كان يتشرف به لبنان والمتمثل في أنه بالمقاومة، وبهذه القيادة الكفوءة قد أحدث خرقاً في ليل الهزيمة سيكون له ما بعده.
على أن أمر اليوم يبقى هو هو: واجب حماية المقاومة، من المبالغين في ادعاء الحرص عليها إلى حد استعداء الآخرين، كما من المبالغين في مجابهتها بعداء دفين، لأنهم ضد الدولة الواحدة الموحدة وضد هوية لبنان وانتمائه الأصيل.