طلال سلمان

مقاومة الاحتلال بالعروبة

أعتذر، بداية، عن العنوان المبتسر الذي وضعته متعجلاً، وقبل كتابة النص لهذه الندوة(*) التي افترضت أنني مطالب فيها بأن أستشرف معكم وأمامكم بعض ملامح المستقبل الذي يتقدم نحونا بالفرض بأكثر مما نتقدم نحوه بالقدرة على تحقيقه وفق ما نتمنى او ما نفترض أننا نستحق.
وعسى المضمون يعوض عن الابتسار الذي أحتفظ، على أي حال، بالكلمات المفاتيح التي تظل قادرة على تلخيص اللحظة السياسية الراهنة: المقاومة، الاحتلال، والعروبة.
ويسعدني، أيها الأخوة، أن يصادف وقوفي أمامكم، هنا، في دمشق، الذكرى الرابعة لعيد التحرير في لبنان، بإجلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي عن أرضه المطهرة بدماء المجاهدين الذين جاؤوا الى المقاومة من كل التنظيمات والتشكيلات القومية والتقدمية والوطنية وان انتهت قيادتها والأعباء العظمى في إنجاز المهمة المقدسة الى »حزب الله« الذي يصعب حصر هويته في الإطار الديني البحت، وان كان له من اسمه نصيب.
وعيد التحرير في لبنان عيد قومي مجيد، يذهب بشيء من مجده كما من دروسه الى كل مواطن عربي، ولا سيما أهلنا في فلسطين الذين أمدتهم المقاومة في لبنان بشيء من الروح اذ وجدوا فيها حليفاً ومسانداً ورافعة للمعنويات بعدما عزّ النصير.
وبديهي أن اسم الرئيس العربي الراحل حافظ الأسد يقترن بهذا الإنجاز اقتران السبب بالنتيجة، فهو قد خاض في السياسة حروباً أشرس وأقسى لحماية مبدأ المقاومة وشرعيتها، وهنا لا بد من استذكار تفاهم نيسان الذي يجسد واحدة من أنجح المعارك الدبلوماسية في تثبيت حق المحتلة أرضهم في المقاومة، وفي الإقرار بحزب الله طرفاً أساسياً بين أقوى الدول.
… وما زالت سوريا بقيادة الرئيس بشار الأسد تواصل هذا النهج الذي تأكدت سلامته وتزايدت الحاجة الى تعزيزه بعد الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولة تطويع سوريا بالتهديد المباشر والعقوبات الاقتصادية والمحاسبة السياسية.
وبديهي أن نستذكر بالشكر دور الثورة الإسلامية في ايران بالدعم المفتوح الذي قدمته، بالتنسيق مع سوريا وتحت إشرافها، لهؤلاء المجاهدين الذين عاهدوا الله على المقاومة حتى التحرير ووفوا بالعهد حتى الشهادة، يدعمهم احتضان شعبهم في لبنان والتزام الحكم بإسناد جهدهم وتغطيته سياسياً.
أما المصادفة الأخرى فهي وقوع هذا اللقاء غداة اختتام القمة العربية السادسة عشرة في تونس، بكل ما حفلت به من وقائع بعضها مثير للحنق بتفاهته، وبعضها مشين بتهافت السلاطين جبناً او سعياً لاستنقاذ رؤوسهم ولو على حساب الأمة جميعاً، وبعضها الثالث مكرر ومعاد يكاد يوحي بأن الشلل الذي ضرب مراكز القرار في الوطن العربي قد حجّرها فغدت اعجز من أن تتحرك ان لم يكن لإنقاذ أوطانهم فلحفظ كراماتهم الشخصية، وهذا أضعف الإيمان.
وليس تعجلاً في الاستنتاج الافتراض أن جامعة الدول العربية الى اندثار، فالجدل المثار من حولها، والذي يشارك فيه بالاعتراض او بالتشهير، سلاطين معظمون وقادة يرفضون ألقاب الرئاسة لأنهم يرون فيها تصغيراً لشأنهم.
إن الجامعة العربية، على ضعف قدراتها وهامشية دورها، مرفوضة الآن من الخارج القوي ومن الداخل المتهافت: يرفضها المهيمن الأميركي، ويفتقد دورها الأوروبي الذي كان صديقاً يطمح الى الشراكة مع العرب فلما وجدهم قد التحقوا بالسيد الأميركي بأكثريتهم تجاوزهم ليتفاهم عليهم مع من بيده القرار.
إن بعض من في الجامعة يريد التحرر نهائياً من هويته القومية، وليس السياسية فحسب. انه لا يريد قيداً من عروبته على ارتهانه، أو ان السيد الأميركي يرفضه عربياً ويقبله بكيانيته سواء أكانت ليبية أم أردنية ام كويتيه أم جزائرية… الخ.
وعلى عجز الجامعة وضمور دورها فإن تغييبها لن يتم لأن سلاطين العرب يريدون مؤسسة أقدر على تكتيلهم والتقدم به كقوة إقليمية ذات شأن، او لأنها عجزت عن تحقيق تطلعهم الى الوحدة او التكامل في مجالات الاقتصاد والدفاع المشترك والتنمية والثقافة والتعليم والمواصلات والأخذ بأسباب الثورة العلمية… بل لأن معظمهم لا يريد أن يشارك غيره من أخوته السابقين في أي عمل مشترك قد تضيفه اسرائيل في خانة المجهود الحربي او في الحرب على السامية التي تستهدفها، بينما قد ترى فيه الإدارة الأميركية اعتراضاً او تخريباً على مشروعاتها التي كثرت تسمياتها وتوسعت امداؤها لشطب »العرب« وكل ما يتصل بهويتهم من أي تصور مستقبلي لهذه الأرض المنداحة ما بين المغرب واندونسيا.
ومن المضحك المبكي أننا نجد أنفسنا، في محطات محددة، نسحب تحفظاتنا او اعتراضاتنا على بعض وجوه القصور التي سبق أن سجلناها على بعض مؤسساتنا الرسمية، في هذه الدولة او تلك، او كما هي الحال مع الجامعة العربية، حتى لا نحقق لقوى الهيمنة الأجنبية هدفها في فرض شروطها المهينة علينا.
لنعترف بداية بأن الأمة جميعاً محتلة، بإرادتها كما بأراضيها. فبين المغرب واليمن تنتشر مجموعة من المحطات التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي تتولى التنسيق مع الحكومات وأجهزة المخابرات في مختلف الدول العربية هذه، تعززها بعض القواعد العسكرية البرية والبحرية في غير قطر عربي. وذلك يشمل المغرب والجزائر وتونس (وليبيا حديثاً) ومصر والسودان وجيبوتي. أما أقطار الخليج فباتت تضم مراكز القيادة والقواعد الثابتة لجيوش الاحتلال المنتشرة ما بين سلطنة عمان والعراق، والتي لما تكمل إعادة انتشارها في السعودية.
إن حال الأمة بمعنى الخضوع للهيمنة الأجنبية هي أسوأ مما كانت عليه مع بدايات القرن الماضي، حين اهتدت الطلائع المستنيرة الى الهوية الجامعة لهذه الشعوب المقهورة والمضيَّعة منذ ألف عام او يزيد، وهي العروبة بمعنى الانتماء الى أرض بذاتها، والى رابط متين من التاريخ، والى تراث فكري وثقافي واحد على تعدد تلاوينه.
كانت العروبة تحررا من التتريك من دون الخروج على الإسلام كدين ومن دون السقوط في شرك الغرب.
ولم تكن العروبة دعوة سلفية تنادي باستعادة الخلافة من العثمانيين، ولا هي كانت اندفاعاً للالتحاق بالغرب الذي طالما قاتلها ليحتلها من قبلُ تحت شعار الصليب ثم عاد اليها مستعمراً منتدباً نفسه لتمدينها، بوصفه وريث سلفه المهزوم.
وكان على الرواد الأوائل أن يخوضوا معارك متعددة الجبهات، بعضها لتوكيد اتصال العروبة بالإسلام بوصفه بعض وجدان الأمة وبعض زادها الفكري، فضلاً عن كونه دين الأكثرية، وبعضها لتوكيد الفصل بين السياسة والدين تمكيناً لإقامة الدولة العصرية، دولة جميع مواطنيها من دون تمييز بسبب من الدين او العرق او اللون.
وكان على هؤلاء الرواد أن يتلقوا السهام المسمومة من الجبهتين فيُتهموا في دينهم او يتهموا في وطنيتهم، فإذا هم يصوَّرون مرة كفاراً خارجين على الإسلام، وطوراً يصورون كملحقين بالأجنبي يأخذون عنه القومية والعلمانية او الشيوعية وينسون عروبتهم فضلاً عن خلود كياناتهم التي اصطنعها الاستعمار فصار لها مستفيدون يدافعون عنها بتخوين الوحدويين.
لكأننا في مرحلة إعادة تأسيس حياتنا، ومجتمعاتنا، وطموحاتنا، وإعادة تحديد أهدافنا.
لكأننا في أرض خراب، كل ما حولنا يكاد يكون حطاماً، في السياسة كما في الاقتصاد، وفي الثقافة والاجتماع كما في التعليم والرياضة (لا نستطيع ان نستضيف المونديال!!).
فالهوية الجامعة تكاد تندثر بالتمزيق او التشويه او التحقير، حتى ليكاد العربي ينكر بشرته السمراء، بلون أرضه.
ثم إن الكيانات المشطرة والمقطعة وفق مصالح الأجنبي تقبل بالاحتلال رفضاً للعروبة، وتقبل بالشرق أوسطية بديلاً من جامعة الدول العربية، وتقبل بالحلف الأطلسي بديلاً من معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتقبل بإسرائيل مهيمناً وسيداً ويرفض بعضها بعضاً.
يلتفت المواطن العربي من حوله فلا يجد مصدراً للأمل، ولا يجد اطاراً للعمل، ويأخذه شعوره الممض بأنه مستفرد الى التسليم بالأمر الواقع يأساً، او الى الانعزال وتقديم سلامته على سلامة مجموع الأمة.
فحاصل جمع الكيانات لا يؤدي الى وحدة او اتحاد او تضامن على قاعدة: سيروا بخطى أضعفكم.
ثم إن الفكر القومي في اجازة مفتوحة بعد مسلسل من المغامرات والمناورات والمؤامرات أدت الى اندثار الأحزاب والحركات القومية في غياهب السلطة، حيث رفعت شعارات الاحزاب لتمويه فردية الحاكم. والفكر هو الأساس.
وحين اختلّ الأساس الفكري للدعوة القومية، ولم يُستكمل بناؤه بمزيد من التثقيف والنضال والتعلم من الشعب، وتعجلت أحزابها الوصول الى السلطة، تشطرت هذه الحركات الوحدوية الى حد التقاتل تحت الشعارات ذاتها، او انها اغتربت فاستوردت شعارات هجينة ليست لها ولا يتقبلها مجتمعها، فكان الصدام دموياً ومدمراً (كما حدث في عدن).
توالت الإنذارات بأن البناء الفكري للعقيدة القومية لما يكتمل، كما تأكد عبر التجارب المكلفة ان تصورها للدولة القطرية كخطوة على طريق الوحدة مخادعة للنفس او خديعة للوحدويين من أهل العروبة.
وانتهى الأمر بأن تهاوت فكرة الوحدة مطعونة بحراب العروبيين، ثم إن الدولة القطرية التي تم بناؤها على تعجل ظلت أعجز من أن تصمد لمتطلبات الحياة في منطقة مغرية، بموقعها كما بمواردها، وبتخلفها كما بخلافاتها، لكل طامع قادر، سواء أكان الإسرائيلي الذي احتل بعضها فبنى دولته، او للمحتل الأميركي الذي رأى انه قادر على أخذها جميعاً وبغير مقاومة تقريباً، فتقدم جهاراً نهاراً ليدمر بلداً عظيماً كالعراق بذريعة تأديب طاغيته الذي كان الى حد كبير صنيعته وحليفه.
لقد نالت العروبة من التشهير والتحقير ما كان يمكن ان يقضي على الفكرة ومضمونها.
نسبت اليها الأنظمة خطاياها جميعاً،
ونسب اليها جمهورها كل أخطاء القصور الفكري.
البعض تطلب منها أن تكون غاربالدية، وبعض آخر طالبها بأن تكون بسماركية، لكن أحدا لم يكن يقرأ ليعرف بالدقة كم تختلف ظروف حياته في مجتمعه عن تلك الظروف الاقتصادية الاجتماعية الفكرية الدينية السياسية التي أنبتت هناك هذه الدعوات الوحدوية، وأقامت دول الوحدة (بالقوة).
كانوا يقفزون من فوق تاريخ الصراعات والانتفاضات الشعبية المتواترة والحروب الأهلية التي أعادت صياغة المجتمعات، والتي تزامنت مع الثورة الصناعية والصدام بين الملكية والإقطاع والكنيسة، والتي أنجبت الفصل المطلق بين الدين والدولة، والتي أنجبت أيضا »المواطن« كصاحب دور شرعي ومشروع في كل ما يتصل بشؤون وطنه.
كانت الدولة قد ترسخت في الأرض، وعاد القديسون الى السماء، وانسحب الكاردينال والبطاركة الى كنائسهم يطورون أساليب استقطابهم للعامة كمواطنين في الدولة وليس كرعايا بل كخدم لاقطاعاتهم، وكان المواطن الفرد قد انتزع الإقرار بحقه في أن يكون له رأيه المختلف، وفي أن يكون صوته هو مصدر شرعية القرار.
أما في بلادنا فقد كان على الحركة العربية الوليدة ان تواجه كل تلك المهام معاً، وهي تكاد تكون بغير سلاح.
فلا مفهوم الدولة واضح لديها، لأنها لم تعرفه من قبل في بلادنا التي تنقلت أقطارها كولايات بين امبراطوريات عدة، بين الأمويين والعثمانيين، مروراً بالعباسيين والتشققات التي جعلت من كل مملوك او والٍ أميراً ورئيساً لإقطاع دولة مدينة في انتظار أن يتقدم اليه مملوك أقوى منه فيخلعه مُرجعاً الأمر كله الى الخليفة السلطان الإمبراطور الذي لم يكن يهمه من ذلك كله الا الضرائب التي ينالها، مكتفياً بسلطته على المركز مجيراً الى ولاته صلاحياته في البعيد يحكمون كل بحسب قدرته.
ثم إن الدين ظل عبر استخداماته السياسية مصدر الشرعية فالسلطان الخليفة امير المؤمنين، الملك ولي الأمر الرئيس، والخارج عليه كافر او مرتد، والمرتد يضرب عنقه. صارت المعارضة ارتداداً وكفراً.
وكان مستحيلاً على دعوة فكرية وليدة هدفها تأكيد الانتماء الى هوية بالذات، وتمييز شعب بمكوناته ومصالحه عن شعب او شعوب أخرى في بلاد أخرى، أن تنجز كل تلك المهام معاً: إعادة صياغة المجتمع وقيمه، التصدي لمهمة خطيرة كالفصل بين الدين والدولة في عالم أكثريته الساحقة ممن يدينون بالإسلام، والإسلام كما آمنوا به وتعلقوا به، لا سيما في دهور التمزق والضياع، هو مرجعية الدين والدنيا، الدولة والمجتمع، السلطة والمعارضة… بل لعله كان، بما بقي منه من طقوس ونصوص جامدة بالجهل او مجمدة بسوء القصد، يعتبر الاجتهاد في تفسيرها ارتداداً او تواطؤاً مع المحتل او تزكية لحكم غير شرعي.
لجم الخوف من سوء التفسير الثورة، فغلب النص الاجتهاد، وهرب »العلمانيون« من المواجهة اذ رأوا الظروف غير مؤاتية، وهكذا، فإننا نجد الدعوات ذات الشعار الديني اليوم أقوى، برغم الضربات التي كيلت لها من بعض أطراف الحركة القومية برموزها السياسية التي احتلت مواقع السلطة.
هُزمت القومية بغير أن ينتصر الإسلام.
لكن قوى التسلط الداخلي صارت أقوى عليهما معاً، أما قوى الهيمنة الأجنبية فصارت أقوى من ذلك الثالوث المصطرعة أجنحته.
لم تصمد الدولة القطرية، وتعذرت إقامة الدولة الوحدوية، وصار الانفصال كيانية معادية للعروبة، وتمزق الإسلام بين الحاكمين باسمه وبين المنتفضين عليهم لخروجهم على النص وانحرافهم مضطرين للتسليم بدولة علمانية ما.
علينا أن نعترف بأن العالم الخارجي يقرأنا بواقعنا، لا بتمنياتنا أو بأحلامنا المجهضة.
العالم لا يرى في بلادنا دولاً. يرى زعماء او قادة، ملوكاً أو رؤساء، اذا تفاهم معهم بالرضا او بالقسر، تم له ما أراد… فلا مؤسسات يرجعون اليها، فترفض او تقبل، باسم الشعب. والشعب أشتات مبعثرة، محطوم الإرادة بالقهر او بالفقر او بالجهل او باليأس، او بكل ذلك معاً، معطل القدرة على الفعل، عاجز عن الاعتراض.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فحين اتخذت الإدارة الاميركية قرارها بالهجوم على العراق فإنها أسقطت من حسابها الشعب العراقي، لان صدام حسين كان قد شطبه من زمان فأخرجه من معادلات المواجهة المحتملة.
وحين بدأت جيوش الاحتلال هجومها تهاوت كل تلك المؤسسات الوهمية التي كان يزين بها صدام حسين نظامه، الحزبية منها وشبه الحزبية، المدنية منها والعسكرية، ووجد المواطن العراقي الفرد نفسه في العراء تماماً: لا دولة، لا مؤسسات، لا حزب ولا نقابات ولا اتحادات مهنية، لا شرطة ولا جمعيات خيرية، لا اطفائية ولا اسعاف.
كانت الدولة رجلاً فرداً، خلى قصره لوريثه المحتل وخلى تماثيله للغاضبين وخلى متاحف التاريخ للسوقة والناهبين والغوغاء، وخلى علم العروبة المطعم بعد الهزيمة الأولى بالشعار الإسلامي »الله أكبر« لمن يريد ان يحرر العراق من العروبة ومعها الإسلام.
لم تكن ثمة دولة. لم يكن ثمة حزب، فضلاً عن الأحزاب التابعة، لم تكن ثمة أي مؤسسات لا رسمية ولا شعبية، برغم توفر المباني الحديثة واللافتات الضخمة، والمنتسبين بقوة السلاح او بانكسار الاحتياج.
تبدت الهزيمة وكأنها شاملة ماحقة: للدولة، للحزب ذي التاريخ النضالي العريق والذي دمرته سلطة القائد الفرد، للعروبة التي كان الحزب حامل رايتها، وللإسلام الذي استعار منه الطاغية شعار الجهاد… المستحيل!
صار الحاكم الطاغية الملك الرئيس الإمبراطور الوالد البطريرك المفتي الفرد في لحظة، أولئك جميعاً. ولحقت الهزيمة من ثم بأولئك جميعاً.
وهكذا وجد الشعب نفسه أشتاتا بالملايين من البشر الهائمين على وجوههم لا يقدرون على مقاومة احتلال يموه نفسه بثياب المنقذ، وهم بحاجة الى الوقت لكي يستعيدوا وعيهم بأنفسهم بواقعهم، بطبيعة المرحلة الجديدة التي أسقطت عليهم من الطائرات.
لكن هذا الشعب نفسه سرعان ما استعاد وعيه وباشر نهوضه لإثبات حضوره وحقه في القرار.
هذا في العراق. أما في ليبيا فقد قرر العقيد الذي اكتشف فجأة انه نبي عليه ان يكمل رسالة الإسلام نقصا في القومية العربية التي أمنه عليها جمال عبد الناصر، فعدل التاريخ الهجري، وطلع بالنظرية العالمية الثالثة، ولما لم يقبله الغرب قاتله بشذاذ الآفاق ثم صالحه على التعويض على ضحاياه، وارتد لينتقم من العرب فاقتحم بذهبه افريقيا… ثم فجأة ومن دون سابق انذار، لجأ الى بريطانيا لتسلمه الى الإدارة الأميركية تائباً يستغفرها عما تقدم من ذنوبه وما تأخر…
كل ذلك في غياب الشعب الليبي ومن دون علمه، ومن دون التوقف لحظة لمعرفة رأيه.
فالقائد يُغْني عن الشعب، وعن الأمة، وواشنطن تغني عن الإسلام ورب العالمين.
ان العروبة هي تمام الوطنية، بمعنى أنها اكتمال الانتماء الى الأرض والتاريخ واكتمال الوعي بوحدة المصير. والعروبة هي تمام المقاومة، بمعنى أنها رفض للهيمنة الأجنبية، نفوذاً وسيطرة اقتصادية او احتلالا بالجيوش التي تملك أكثر الأسلحة تطوراً وفتكاً.
إن الأرض هي هوية الإنسان، وبها يرتبط تاريخه ووجدانه.
والمقاومة فعل إيمان بالانتماء الى هذه الأرض، والمواجهة ولو بالسلاح من أجل تحريرها، ليكون إنسانها حراً.
لكن المقاومة لا تتم تحت ظل الطغيان الذي يلغي كرامة الإنسان وقراره الحر ومصدر اعتزازه بانتمائه الى أرض بالذات، والسعي الى مستقبل أفضل فيها وبها ومعها.
لا مقاومة بلا عروبة. والمقاومة الإسلامية في لبنان لم تقصر يوماً في تأكيد التزامها بانتمائها القومي، وان اعتبرت ايران حليفاً استراتيجياً كبيراً ونصيراً عظيماً، وبعض نجاحها انها وظفت الزخم الثوري للإسلام في ايران لرابطة نضالية أوثق مع العرب المتطلعين الى التحرير… ولو ان العرب التقطوا دلالات اللحظة التاريخية مع انفجار ايران بثورة الإسلام ولاقوها بعروبتهم، اذن لتغير تاريخ العالم، انطلاقاً من هذا الشرق…
ولا مقاومة بلا ديموقراطية. فالإنسان المسحوق لا يقاوم. من لا يشعر بأن إرادته حرة وأن وطنه له وليس ملكاً لطاغية هو عبده، لا يمكن ان يقاوم. الفروق بين الطاغية »الوطني« او المحلي وبين الاحتلال الأجنبي لا تستحق التضحية بالروح.
وبالتأكيد، فإن الهامش الديموقراطي الذي يحفظ للنظام السياسي في لبنان بعض مشروعيته قد ساعد على اندلاع حركة المقاومة وعلى تناميها وعلى استقطابها التأييد الشعبي برغم معارضاتها الكثيرة والقوية.
والمقاومة الفلسطينية، بقياداتها العليا، كانت تعاني على امتداد تاريخها من نقص فاضح في عروبتها، لم يعوضه رفع الشعار الإسلامي وادعاء التحالف مع المعسكر الاشتراكي في محاولة مكشوفة لاستدراج العروض الأميركية للتسوية.
ومن أسف أن التخلي العربي الرسمي عن هذا الشعب العربي العظيم قد عزز النزعة الكيانية لدى سلطته، فتبدى وكأن واشنطن أقرب اليها من القاهرة التي لم يهتم الحكم فيها حتى بحماية رفح المصرية من الاجتياح الذي اغتال في اسبوع واحد أكثر من أربعمئة بيت في الشطر الآخر، الفلسطيني، من رفح ذاتها، وان كانت داخل فلسطين.
والعراق المقاوم عربي، بالضرورة، حتى لو تصدى لإطلاق شرارة المقاومة سلفيون ومعممون من أهل السنة والشيعة، يستندون الى العشائرية كما الى استثارة الحمية بالعتبات المقدسة.
أما البن لادنية التي تذبح اميركياً فتكاد تبرر الفظائع التي يرتكبها جند الاحتلال الاميركي مع المعتقلين كما مع الطلقاء، وفي الفلوجة كما في النجف وكربلاء، وفي الموصل وكركوك كما في الديوانية والناصرية وصولاً الى البصرة، فليست من المقاومة في شيء بل هي مقاوِمة للمقاومة.
والسلفية ليست حركة مقاومة. إنها تستخدم منطقاً منحرفاً ومشوها يكاد يبرر الاحتلال وجرائمه.
ولم يكن اسامة بن لادن في أي يوم، ولن يكون بطلاً للتحرير.
ان العروبة مضطهَدة ومطارَدة ومقموعة في الكثرة الغالبة من الدول العربية. لقد اجتمعت عليها سيوف القوى جميعاً: الأجنبي الطامع، والطغيان، والتخلف الفكري الذي يريد جرنا الى الخلف بذريعة الإيمان بأن الآخرة خير لكم من الأولى.
وهذا دليل قوة العروبة وتجذرها في يقين الناس وفي اندفاعهم الى مقاومة الاحتلال والطغيان والتخلف ممثلاً بالشعار الإسلامي الذي يفرز المواطنين الى مؤمنين وكفار، وهذا ابشع مما يمكن ان يقدم عليه الاحتلال الأجنبي او حتى الطغيان الذي يلغي المواطنية ويحيل الناس الى رعايا منهم الخدم والحشم والحرس وحملة الشعار المزور.
ان الطالبانيين حيثما وجدوا قد قدموا للاحتلال ذرائعه، وقد تسببوا في حملة التشهير العالمية بالعرب والمسلمين، واستعدوا عليهم العالم كله، من أقصى يساره الى أقصى اليمين فيه.
ان الطالبانيين والبن لادنيين وسفاحي التنظيمات السلفية قد أساؤوا الى العرب والمسلمين إساءات لا يمكن محوها إلا عبر نضال طويل قد يمتد أجيالاً.
لقد أعطوا المسوغ »الشرعي« للحكم على العرب والمسلمين بأنهم غير جديرين بأن يكونوا من أبناء هذا العصر، ومن المساهمين في تقدم الإنسانية وفي انتصارها على الطغيان والاحتلال وسائر اشكال الهيمنة التي تلغي كرامة الإنسان.
إن التحرير لا يتم إلا بالعروبة باعتبارها الإطار الطبيعي الناظم لمقاومة جدية، وعيها الوطني عال، وتصورها للمستقبل واضح ومبني على قواعد علمية وليس على الحماسة الدينية او العرقية التي تقسم الشعب بدلا من ان توحده، وتضيف الى رصيد الاحتلال وتمكن له بدلا من ان تكون قوة طاردة له ولمن معه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يكن للعروبة في أي يوم مشكلة مع الاقليات عموماً، القومية كالكرد والآشوريين والتركمان والكلدان، او الدينية كالمسيحيين بطوائفهم المختلفة، بل لقد كان هؤلاء جميعاً شركاء نضال ورفاق سلاح في العمل لتحرير الوطن، وقدمت بعضهم الى مواقع القيادة مزهوة بابناء هذه الأرض الواحدة الموحدة التي تتسع للجميع وتحفظ لكل طرف موقعه بحسب جهده وايمانه بحقها في التقدم نحو حياة أفضل.
فالعروبة، في هذه اللحظة، هي المقاومة وهي وعد التحرير سواء في فلسطين التي خضبت ضمائرنا بدمها، او في العراق الذي ينزف قدراته أمام عيوننا فلا نملك الا التحسر عليه.
ان المقاومة، في هذه اللحظة، هي ذروة الإيمان بالعروبة، ومن تخلف عنها كان كمن يخون غده وليس اليوم فقط. والمقاومة هي العروبة، لا تكون بغيرها، والا اجتهد الاجنبي ومعه بعض السلاطين الخائفين على عروشهم على نشر مناخ الحرب الأهلية التي سيكون الاحتلال راعيها والمستفيد الأعظم من حرائقها المدمرة للمجتمعات وللطموحات وللحقوق الطبيعة لهذه الأقوام المتناثرة فوق هذه الأرض العربية الفسيحة.
(*) مداخلة أُلقيت في النادي العربي دمشق في 26 أيار 2004.

Exit mobile version