طلال سلمان

“مفاوض نفسه”المتواطىء على اخية

مع كل جولة جديدة من هذه المفاوضات المفتوحة على المجهول والتي لا تنتهي جولاتها بيقين ولا تستقر طاولتها في مكان، يتخلى المفاوض «الفلسطيني» عن بعض فلسطين وبعض مقومات هويته الوطنية، ناهيك بالقومية.
ولم تعد كلمة شمعون بيريز الشهيرة «إننا نتفاوض مع أنفسنا» نبوءة حالم متفائل، وإنما باتت واقعد سياسيد ثقيل الوطأة، فليس ثمة وفدان يأتيان إلى اللقاء من تاريخ مثقل بالدم والخراب والاضطهاد والاحتلال والتمييز العنصري، بل هما وفد واحد متعدد التيارات!
أليس التفاوض بين «ليكود» نتنياهو و«عمل» إسحق رابين أقسى وأشق بما لا يقاس من تفاوض «أبي قريع» الفلسطيني مع «قريع» الإسرائيلي؟!
لا تتقدم المفاوضات بين الوفدين إلا بمقدار ما تنقص فلسطينية الفلسطيني، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لاطمئنان الإسرائيلي إلى «شرعية» وراثته الأرض الفلسطينية و«اتصال» ملكيته لها منذ الملك سليمان وحتى الملك عرفات!
والفلسطيني، هنا، لا يتخلى عن فلسطين وحدها، بل عن الهوية العربية لأرضها ولكل الأرض المحيطة بها. إنه يتواطأ مع «العدو» على أشقائه في الدم وفي المصير إضافة إلى أنه يتواطأ على أجياله الآتية ويتنازل باسمها وسلفد عن حقها في أرضها.
بالمقابل يكتسب السوري في كل جولة جديدة من حرب التفاوض مع الإسرائيلي مزيدد من المشروعية العربية الشاملة.
إنه اليوم أكثر تجسيدد للإرادة العربية، أو ما تبقى منها، منه في أي يوم مضى… فالجولان، الضئيل المساحة والفقير بعدد السكان كما بطبيعة الأرض الصخرية وشبه القاحلة، هو رمز قومي الآن.
إن كل حبة تراب تختزن الحق التاريخي للعرب في أرضهم،
ليست المساحة هي المسألة بل الهوية.
والحاضر ليس مقطوعد عن الماضي، والمستقبل لن يأتي من الغيب، بل يصنعه أهله. من يفرّط بشبر يفرط بوطن كامل. ومن يُسقط حقه في قطرة ماء يصعب عليه من بعد أن يدافع عن أنهاره جميعد.
ربما لهذا تعطّل إسرائيل المفاوضات الصعبة مع سوريا، وتنقلب للضغط على «الوسيط» الأميركي بحيث لا يعود وسيطد نزيهد بل «شريكد كاملاً» لها وحدها.
وإسرائيل التي تستخدم اليوم ياسر عرفات شخصيد أداة ضغط على الموقفين السوري واللبناني، وتجعله يحرّك موضوع الجولان الفلسطيني لتبتز سوريا في جولانها ولبنان في جنوبه، إسرائيل هذه تنكر على السوري أن يتنبّه إلى أن الانتخابات فيها قد تكون موسمد للمزايدة والمناقصة فيحاول منع استخدامه ـ وأرضه ـ فيها، فإذا كان لا بد من ذلك فليكن هو مَن يوظف وهو مَن يحسن الشروط ومَن يربح الجائزة!
إن عرفات يطارد الفلسطينيين، بعد، في رزقهم وفي دمائهم.
إنه يحرّض عليهم كل إخوتهم العرب بسلوكه التآمري مع إسرائيل ضد مصالحهم الوطنية وضد حقوقهم الطبيعية في أرضهم.
إنه يحاول التغطية على تفريطه بأرض فلسطين بالمزايدة على السوري (واللبناني) وكل مَن يصر على استخلاص حقه من المحتل الاسرائيلي.
المفرّط بالقدس ومعظم فلسطين لا يجد ما يطالب به الآن إلا تلك الشطيرة من الأرض التي سقاها الدم السوري مع الدم الفلسطيني العام 1948، والتي يحاول المفاوض السوري الآن استخلاصها حتى لا تبقى للمستوطنين الإسرائيليين.
وهكذا فإن عرفات يخدم إسرائيل مرتين: مرة بالتنازل غير المحدود في مفاوضاته المفتوحة وغير المحددة والضائعة العناوين معها، ومرة ثانية بالمزايدة لإحراج المفاوض العربي الجدي الذي ذهب إلى المفاوضات مع إسرائيل بوصفها آخر الحروب مع «العدو».
وبعض الدم الذي يدفعه أهل جبل عامل الآن هو في رقبة عرفات، الذي لم يعرف كيف يقاتل لأنه كان يطلب التفاوض لا التحرير، وهو لا يعرف كيف يفاوض الآن لأنه يطلب الحكم بأي ثمن ولو على شبر واحد من الأرض، حتى لو ذهبت من أجله كل فلسطين وكل بلاد العرب الآخرين.
ملاحظات على
«العائلة الواحدة في دولتين»
مع الاحترام لأحزان الرئيس رفيق الحريري، فلا بدّ من بعض الملاحظات على محادثاته في فرنسا، بكل ما حفلت به من مبالغات شخصية في تكريمه من قبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ومن تلميحات وثوريات وإيماءات فيها من ماضي العلاقات السياسية الشوهاء بين البلدين أكثر مما فيها من المستقبل الموعود.
أولى الملاحظات يتصل بحكاية «العائلة الواحدة في دولتين» التي طلع بها علينا الرئيس الفرنسي، والتي نظن أن الاعتراضات عليها في فرنسا لن تكون أبدد أقل منها في لبنان.
لم ينظر الفرنسيون إلى اللبنانيين مطلقد على أنهم «غربيون» مثلهم كما كان البعض من هؤلاء يتمنى أو يريد أن يكون، فكيف بأن يعتبروهم فرنسيين مثلهم؟!
وبرغم كل محاولات المتفرنسين من اللبنانيين للخروج من جلدهم والدخول في جلد «الغول»، وتقليد الفرنسيين في كل شيء، في اللباس والسلوك واللهجة، بما فيها اللثغة بحرف «الإر»، واعتماد المطبخ الفرنسي والتفقّه بشؤون النبيذ واشتقاقاته من «الكير» إلى الشمبانيا وانتهاءً بالكونياك…
وبرغم ادعاء نوع من القربى بين «مار شربل» و«جان دارك»، عند بعض قصّار النظر والمغلقة قلوبهم بالتعصب أو بالتنكّر لحقائق حياتهم، وفيها التاريخ والجغرافيا والثقافة والموروث الديني (بما في ذلك ما لدى نصارى المشرق)،
برغم هذا وذاك لا صار اللبناني فرنسيد ولا ذاب الفرنسي في لبنان، بل ظل «أبو طنوس» مثل «أبي محمد» عربيد غريبد في نظر الفرنسيين، وظل الفرنسي مستعمرد قديمد يحمِّله اللبنانيون هذا القدر أو ذاك من المسؤولية عن «الهجانة» داخل بيئتهم العربية، وعن «أدلجة» تنوّع مجموعاتهم (الطائفية) بحيث باتت مشروعد تقسيميد مفتوحد على خطر الحرب الأهلية بذريعة التعددية والانشطار بين الديانتين والحضارتين المصطرعتين (الغربية ـ المسيحية والإسلامية ـ العربية ـ المشرقية)..
{ ثانية الملاحظات على بعض التجاوزات السياسية التي تضمنتها المبالغة في الرغبة في تكريم الوفد اللبناني، وتسهيل مهمة الرئيس الحريري في الحكم.
وإلا فما معنى دعوة العميد ريمون إده، الذي يكن له اللبنانيون بمجموعهم تقديرد خاصد، إلى مائدة رئيس الجمهورية الفرنسية، وهو الرافض الاعتراف بشرعية النظام القائم في لبنان… فهو ينكر شرعية المجلس النيابي، وينكر على هذا المجلس حقه في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ويعترف برئيس الحكومة من دون حكومته، ويلفّق نظرية مبتذلة للاعتراف بالجمهورية من دون مؤسساتها..
{ ثالثة هذه الملاحظات تتصل بطبيعة المساعدات والقروض والهبات الفرنسية، والتي تأتي ردد لجميل رئيس الحكومة الذي يشترط لإقرار أي من صفقات التلزيمات الكبرى أن تكون للشركات الفرنسية الأولوية المطلقة، فإذا تعذر عليها توفير الشروط المطلوبة، ضغط لكي تكون شريكد أساسيد في كل التزام.
ولما لم يكن في الصفقات والتلزيمات والمقاولات مجاملات بل مصالح فلا بد من التدقيق قليلاً في الأرقام لكي نعرف ماذا ربح لبنان وكم ربح الفرنسيون من هذه الصفقات المفتوحة بعد طالما اتصلت عملية إعادة الإعمار.
إن اللبنانيين بمجموعهم يريدون صداقة فرنسا ويطلبون تصحيح التأريخ الأشوه للعلاقة الماضية، المحكومة بالتراث الانتدابي، كما بسياسة محاولة التحالف مع لبنان ـ الخرافة ضد لبنان ـ الحقيقة والجغرافيا والتاريخ والهوية.
ومع التقدير لجهد الرئيس الحريري، ولتوظيفه صداقاته الشخصية في خدمة علاقات لبنان الدولية، إلا أنهم يريدون أن يطمئنوا إلى حسن استقبال الفرنسيين لهذا المجهود.
هــل مـات الجنـرال غـورو فعـلاً فـي لـبنـان؟!
وهـل مــات الجـنرال ديغول فعلاً في فرنسا؟!
وهل كان ذلك شرطد للاعتراف «بالعائلة الواحدة في دولتين»؟
ثم… أين هي الدولة الثانية؟!

Exit mobile version