عرفت فؤاد مطر منذ عمرين، لان كلاً منا عاش زمنين، بل اكثر، في قلب دوامة الاحداث التي شهدها الوطن العربي بأقطاره جميعاً بعدما تعددت عواصمه: من قاهرة جمال عبد الناصر+ دمشق، إلى القاهرة منفردة، حين تبدت وكأنها عاصمة كوننا، إلى بغداد صدام وغزواته التي ذهبت بالعراق، إلى طرابلس ـ ليبيا ومعمر القذافي يحتكر السلطة والفكر والثروة والسلاح فيها وكل ذلك لم يفد في حمايته، إلى السعودية واحداث الحرم، حين تبدى جهيمان العتيبي اقوى من الملك وذهبه وجيشه والحرس الملكي الذي تسترهن فيه الاسرة المالكة ابناء شيوخ القبائل لاستتباعها بحيث لا تجرؤ على التمرد، إلى يمن علي عبدالله صالح وانقلاباته المتوالية على نفسه وشعبه ودول الجوار الخ..
خرج فؤاد مطر من “النهار” وباسمها ليغطي احداث الانتفاضات والتحولات، الثورات المنتصرة والانتفاضات المحبطة فسجل وارشف كل صورة، وكل حديث مع مسؤول، في مشارق الارض ومغاربها، مزوداً بحقيبة فيها الزيتون واللبنة والبن، تاركاً لزوجته الصابرة امتثال جويدي أن تقترب من مهنة المتاعب حتى الانخراط فيها..
وبعد عمر من اللقاءات والتحقيقات وكنوز من الوثائق والاوراق السرية عن حكومات بل عهود عدة في العواصم العربية، انتقل فؤاد مطر إلى لندن ليصدر مجلته “التضامن” في حين اصدرت زوجته مجلة نسائية..
أما انا فقد اصدرت في بيروت جريدة “السفير” التي عاشت في قلب الازمات والحروب الاهلية والاجتياح الاسرائيلي وعمليات النسف التي ذهبت بالمطابع اكثر من مرة، ومحاولة اغتيال كادت تذهب بي لولا لطف الله ورعايته، ثم ضربني ضيق السوق وتضاؤل الاعلانات وتراجع الثورة العربية، وانطفاء نار الثورة الفلسطينية (الرسمية) وسوق المنظمة إلى المعتقل الاسرائيلي رهينة.. وبالتالي لم يعد خيار الاستمرار متاحاً، وكان على “السفير” أن تموت واقفة وهكذا قررنا وقف اصدارها من بداية سنة 2017 لنريح ونرتاح!
ولان فؤاد مطر دقيق ومتقن، ويؤرشف بنفسه كل ما يحصل عليه من وثائق وأوراق واحاديث لكبار المسؤولين العرب، من نوع “ليست للنشر”، فقد تمكن من أن يجمع كنوزا من المعلومات، بعضها لم يكن للنشر الا حين يمكن نشرها.. وهكذا فقد عكف في السنوات الاخيرة على إتحافنا بما في جعبته الوازنة من كنوز المعلومات الشخصية واسرار القادة العرب، ملوكاً ورؤساء وامراء وكتَّاباً كباراً بعنوان استاذنا محمد حسنين هيكل..
…وهكذا عودنا فؤاد مطر، الكاتب بلسان الموثق وليس المؤرخ، على أن يصدر كتابين او ثلاثة كل عام تحتوي على ما يمكن اعتباره إعادة تأريخ لمرحلة الثورة العربية إبان توهجها المضيء، ثم خلال تعثرها حتى إنطفائها بالانقلابات العسكرية والانقلابات السياسية (وهي الاخطر!) والتدخل الاجنبي، وفراغ او إفراغ الشارع من مناضليه الحالمين بالتغيير..
ها نحن امام الكتاب الجديد لفؤاد مطر (608 صفحات)، وقد اختار له عنوانا مثيراً: “أنياب الخليفة وانامل الجنرال”، المتزامن صدوره مع مئوية انور السادات بعد مئوية جمال عبد الناصر، وفيها محاولة للإضاءة على وقائع وخفايا مرحلة بالغة الاهمية، عاشتها مصر، وواكبها فؤاد مطر كصحافي اخذت التطورات من متابعته واهتمامه الكثير.
يقع الكتاب، وهو السادس والثلاثون في مكتبة فؤاد مطر اكثر من ستمائة صفحة، وفصوله تؤرخ لمراحل عدة في تاريخ مصر والمنطقة، تبدأ بعهد جمال عبد الناصر بعد اغتيال فكرة الوحدة العربية ونتائج حرب اكتوبر (10 تشرين الاول 1973) التي بدأت بشارة بالنصر ثم تكشفت عن صفقة بين السادات وكيسنجر لبيع النصر بالخيانة.. وذهاب السادات إلى فلسطين المحتلة ليخطب امام الكنيست الاسرائيلي، مبشراً بعصر السلام، متخلياً عن رفيق سلاحه في هذه الحرب الرئيس السوري حافظ الاسد، وعن صاحب القضية، منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات الخ الخ الخ..
واضح أن الباحث المنقب والمدقق والموثق فؤاد مطر قد اطلع على كنوز من المعلومات يتضمنها اكثر من ارشيف رسمي وخاص حتى استطاع تغطية تكاد الاخطر في هذا العصر العربي المقتول غدراً… وهي قد شملت عهد حسني مبارك “الذي حاول بلسمة الجراح المعنوية لروسيا بوتين، ومن بعده الرئيس عبد الفتاح السيسي”..
الكتاب غني جداً بالمعلومات حتى ليشبه إعادة تأريخ لمرحلة مهمة، بل لانقلاب خطير على المفاهيم والقيم والمبادئ حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم: على حافة القعر، نتنكر لماضينا، ونخاف حاضرنا ويخاف منا مستقبلنا.
انه جهد اضافي لهذا الباحث المدقق، الذي لم تغادره الصحافة، ولم ترهقه كمية المعلومات الدقيقة والمتفجرة التي وفق إلى جمعها وتنسيقها في “مكتبة” جامعة تشكل بعض فصول هذه المرحلة السوداء من تاريخنا المعاصر.
مبارك نتاجك يا فؤاد، والى كشف المزيد من صفحات تاريخنا السري الذي طمسوه حتى لا نعرف ما جرى لنا وكيف وبمن حتى كدنا نضيع عن هويتنا وعن مستقبلنا..
عافاك الله، وجهدك مشكور، دائماً.
لتكن لك الصحة مع رفيقة عمرك القافزة من فوق السور: امتثال جويدي!