طلال سلمان

مع الشروق هجوم بالذهب على الثورة: من ليبيا إلى اليمن مروراً بمصر وتونس

لم تدم طويلاً إغماءة الخوف التي أصابت أهل السلطان في تلك البقاع الصحراوية الجرداء التي جعلها النفط دولاً ذات حصانة. لقد تقدم منهم بعض أصدقائهم الكبار بنصيحة لا ترد، مفادها: على مر التاريخ كان الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع، وأنتم قادرون ومؤهلون على التحرك لوقف المد الذي تتخوفون منه، وربما نجحتم، أيضاً في احتوائه ومن ثم توجيهه الى ما يفيدكم فيطمئنكم وينقل الذعر او الرعب الى معسكر الخصوم.
قال لهم الناصحون: لو أنكم دققتم في أسباب الانتفاضات، لانتبهتم الى انها قد وقعت جميعاً في الدول الفقيرة بمواردها، أو المحروم فيها رعاياها من الدخل حافظ الكرامة الإنسانية… وهذا ليس حالكم، فدخولكم القومية تفوق أي تقدير، وأعداد رعاياكم في معظم الحالات متواضع، بل ان مجموع الرعايا في مجلس التعاون الخليجي لا تزيد كثيرا عن عدد سكان مدينة كالقاهرة، فلماذا تخافون؟
وقال لهم الناصحون، انتم محصنون بالذهب، لا تأتيكم رياح التغيير لا من خلفكم ولا من قدامكم، إذا انتم أحسنتم التصرف وفتحتم صناديقكم فنثرتم بعض ذهبها على رعاياكم. إن الثروة تصد عنكم الدهماء وأبناء السبيل أمثال الملايين الذين تجمعوا في الميدان في القاهرة او في تونس او في صنعاء وتعز، او الآلاف الذي خرجوا او يخرجون كل يوم جمعة في مختلف المدن السورية للمطالبة بإسقاط النظام.
هكذا فتح السلاطين الصناديق ورموا بعض الذهب في الداخل: ضاعفوا مرتبات كبار الموظفين وصغارهم في القطاعين العام والخاص، وأقروا منحاً للطلاب، ذكوراً وإناثا، ثم خصصوا مكافآت للعاطلين عن العمل وأبناء السبيل!
ثم كانت النصيحة الثانيــة: ان الذهب يشــتري كل النــاس. تصرفوا! فحيثما وقعت الثورات العربية وجد الثوار ان خزينة بلادهم خاوية، لقد نهبها أهل النظام، وهكذا فإن تلك الدول بحاجة إليكم. لا تتهيبوا ولا تخافوا! هيا تقدموا! لوحوا لهذه الدول بالذهــب، ابهروا قياداتها المؤقتة، وقبل ان يستتب الأمر للثوار الذين ما زالوا تائهــين في قلب الميدان عن الطريق الى السلطة، ثم ماذا يمنـعكم من شراء الرأي العام والتحـكم في توجهاتـه؟ اعرضوا علــيهم قروضـاً هم بأمسّ الحاجة اليها، وإذا لزم الأمر قدموا بعض الهبات المدللة على تعاطفكم وحسن نواياكم تجاه الإخوة الفـقراء. والخطوة الثالـثة الضـرورية تقدموا، طالما أن الأمر مـتاح، للتوغـل في مجال الأعمـال وركزوا على الإعلام. كم تتكلف الفضائية؟ ثلاثين من الفضة؟ هيا، أطلقوا عشرات الفضائيات، ولا بأس أن يجري تمويهها لتبدو وكأنها تنطـق باسم الثورة. لا تخافوا من هذه الكلمة ما دمتم قادرين على إفراغها من مضمونها بالثروة!
ولقد صدع أهل السلطان فاندفعوا يعرضون التسهيلات حيناً، وشطب الديون حيناً آخر، ويظهرون استعدادهم لتمويل بعض المشروعات الحيوية، بشرط الحصول على ضمانات بأن لا تأميم بعد اليوم.
تلك وقائع يعرفها تفصيلاً بعض من وضعتهم الانتفاضات العربية في مركز القرار في كل من مصر وتونس.
وإذا كان المسؤولون في مصر قد أصــروا على إعــادة بناء الـعلاقات علــى قاعـدة من الوضـوح والصــراحة، مما عطل التنـفيذ او أرجأه، فإن بعض المسؤولين في تونس كانوا أعظم ليونة واستعداداً للبحث في الأمر.
أما المفاجأة الصاعقة، التي جاءت من خارج التوقع، فهي إقدام بعض الطموحين من أهل السلطان المذهب على إعلان الاستعداد، ثم على المشاركة في العمليات العسكرية التي قادها الحلف الأطلسي لتحرير ليبيا من قائدها الأبدي معمر القذافي وكتائب أنجاله.
ليس الأمر سراً، فأمير الدوحة أعلن بلسانه ان بعض طيرانه الحربي قد شارك في قصف «أهداف معادية» في طرابلس وسـرت وبني وليد ومناطق أخرى في ليبيا، مقدماً نفسه كشريك في القدرة للحلف الأطلسي جميعاً، الذي يضم الى الولايات المتحدة الاميركية معظم دول أوروبا الصناعية وتلتحق به تركيا، وان لم تكن في صلب القرار لعيب في تكوينها الإسلامي.
أما في البحرين، حيث كانت الغلبة الشعبية للمعارضة الوطنية فكان لا بد من الهجوم الصاعق للقضاء على الفتنة في مهدها، فلو تركت نار الاعتراض تتمدد في الهشيم لأحرقت الأرض جميعاً، وهكذا أوفدت قوات درع الجزيرة بقيادتها السعودية لقمع الانتفاضة، حتى لو كان الثمن ان تسيل دماء نساء وأطفال وشيوخ، وان تسقط العضوية عن نواب منتخبين، وان يتم اعتقال المئات، حتى تكون المعارضة الشعبية في البحرين عبرة لمن تسول له نفسه الانتفاض او رفع الصوت بالاعتراض في تلك البقعة من الأرض التي رملها ذهب اسود وأمواج خليجها من الذهب الأبيض.
في اليمن كان الوضع دقيقاًَ جداً: فالسلطة ممثلة بالرئيس علي عبد الله صالح ومن معه في حزبه وفي القبائل، وكذلك المعارضة بأحزابها وقبائلها، جميعهم من «الأصدقاء»… ومن تعذرت استمالته بالسياسة وجد نفسه أمام إغراءات لا تقاوم اذ هي تمتد لتشمل الذهب والسلطان.
على هذا كان لا بد من موازنة دقيقة في المواقف بحيث لا تكون خسارة مهما تعددت الاحتمالات. فالأهداف واضحة: دعوا الصراع ينهك الأطراف جميعاً، وكلما ضعف طرف فكاد يخرج من الميدان تتم المبادرة الى إنعاشه حتى لا يسقط.
وحين وقعت المفاجأة بتفجير مصلى قصر الرئاسة بأمل القضاء على الرئيس وكبار معاونيه من القادة العسكريين والوجاهات القبلية والرموز السياسيين، كان من الضروري غسل اليدين جيداً، واستنكار هذه العملية الإجرامية، والمبادرة الى نقل ضحايا التفجير جميعاً الى مستشفيات في الرياض ورعايتهم حتى تكتب الحياة لمن إصابته قابلة للعلاج فإذا ما دهم الموت بعضهم تم تشييعهم بمنتهى الإكرام.
الطريف ان الناجي الأهم من بين ضحايا التفجير كان: المبادرة الخليجية..
لكن الدم غيّر المواقف، وعزز النزعة الى الثأر عند الرئيس ومن ومعه ضد من يتهمهم بالمسؤولية عن التفجير. وهكذا تعطلت المبادرة الخليجية، مخلية الساحة لمزيد من الإنهاك المزدوج: للرئيس ومن معه كما للمعارضة ومن معها.
فالمهم، أولاً وأخيراً، تعطيل اليمن عن الفعل وإشغالها بهمومها الثقيلة… حتى لو كانت هذه الهموم تهدد بانفراط هذا البلد العريق وعودته الى واقعه المزري قبل الثورة (1962) التي أخرجته من الجاهلية الى العصر، ثم عززته الوحدة بين شماله والجنوب فصار مشروع دولة قابلة للحياة، اذا ساسته الحكمة اليمانية.
كانت النصيحة التي قدمت لأهل السلطان المذهب: اشتروا الثورات قبل ان تتكامل قدراتها وتستعيد المبادرة على الصعيد العربي والدولي، فإن تعذر الشراء فلا اقل من تعطيلها بتعزيز خصومها والمتضررين منها، بدءاً بخوض معركة الدفاع عن عهد مبارك وتعطيل عملية وصول الثوار الى السلطة ببرنامجهم للتغيير، مروراً بمحاولة اختراق المجتمع سياسياً باستخدام الدين والحركات السلفية والإعلام المضلل، وانتهاء بالضغوط الاقتصادية، كإطلاق الوعود عن الاستعداد للمساهمة في إعادة بناء الدولة المعطوبة في مؤسساتها، وبناء جبهة إعلامية مضادة «تنطق» باسم الداخل، وتحاول تخريب «الداخل»، تارة بمحاولات لإثارة الفتنة الطائفية (استغلال حالة القلق عند الأقباط).. وطوراً باللعب على الفروق بين الجماعات الإسلامية، او محاولة تجميعها في مواجهة الثورة، او بكل ذلك معاً.
في هذه الحالة من أين نأتي بالوقت ثم بالجهد الذي تحتاجه قضية فلسطين؟
فالمطلوب في هذه اللحظة الحصول على الدعم الاميركي المطلوب لعملية تدجين الثورات. ولا بد من الذهب العربي مع النفوذ الاميركي والإفادة من الطمع الغربي باستعادة أمجاده في شمال أفريقيا بداية (وتونس هي المثال)، ثم في المشرق العربي (وسوريا ومعها لبنان هما المثال الثاني)… هناك يكون للاقتصاد دوره الفاعل، أما في سوريا، تحديداً، فلا بد من تجميع المعارضين (على اختلاف أنواعهم وانتماءاتهم) لإعداد البديل الشعبي عن النظام الذي لا يتعب الرئيس ساركوزي من الطعن في شرعيته.
أما بالنسبة للبنان فقد بلغ الأمر بالرئيس الفرنسي حد التصادم مع البطريرك الماروني بشاره الراعي، قافزاً من فوق موجبات المضيف، ليطالبه بالجهر بالدعوة لإسقاط النظام السوري، بينما البطريرك يعيش – كما الأكثرية الساحقة من اللبنانيين- حالة من القلق ألممض حول كيف تكون سوريا ما بعد إسقاط النظام، وهل تذهب وحدتها في حريق الحرب الأهلية، وكيف تكون حالة لبنان اذا اتخذت تلك الحرب طابعاً طائفياً ومذهبياً. وهواجس البطريرك تتصل بالمسيحيين أساساً في حين ان اللبنانيين، بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، يعيشون هذا القلق في غياب من يستطيع ان يطمئنهم الى المستقبل.
ولسوف يظل هذا القلق في حالة تفاقم حتى تستعيد سوريا حياتها ويختفي شبح الحرب الأهلية، التي مدخلها التدخل الخارجي، من الأفق.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version