طلال سلمان

مع الشروق نهايات غير مبهجة لعام الانتفاضات العربية

لم يعرف العرب في تاريخهم الحديث سنة مثقلة بالانتفاضات الشعبية ومشاريع الثورات التي لم يقدر لها أن تكتمل، والتحولات التي بادرت إليها بعض الأنظمة لمخادعة الجماهير الغاضبة والعائدة الى «الميدان» بعد طول غياب، كهذه السنة التي تطوي «عصرها» المديد، مخلية الطريق أمام الآتي الذي يصعب تصوره بدقة وتحديد مساره بالضبط، وإن كانت «طلائعه» لا تبشر بخير عميم.
إنها سنة – دهر، تقلّب فيها العرب بين الزهو والغضب وخيبة الأمل، بين الاطمئنان الى قدرتهم على مباشرة التغيير وبين عجزهم عن إتمامه وفق ما يتصورون او يطمحون اليه.
ها هم الآن يحصون الخسائر والأرباح، وقد ذهب الزهو وهبطت أثقال المسؤولية على أكتاف شباب الميدان في معظم العواصم العربية، مغرباً ومشرقا، واندفعوا الى مراجعة شاملة، قد يرى البعض فيها ترفاً، ولكنها ضرورية جداً لكي يتعرفوا الى مواقع الخلل او الخطأ، وليتجرعوا مرارة سوء التقدير وتهوين شأن الخصوم الذين طالما تبدّوا أصدقاء.
ليس من «نظام» الآن، على حاله قبل عام، وليس من شعب من أي من بلدان الأرض العربية مطمئن الى غده…
بعض الأنظمة تخلت عن «رأسها» أو أنها افتدت نفسها برأس النظام (مثال مصر)… ، ثم خرج «الوريث» الذي احتفظ لنفسه بالشرعية يطالب الثوار بالانصراف لأن الثورة قد انتصرت، وجاء وقت العمل والإنتاج لتعويض ما خسرته البلاد نتيجة للفوضى… ملمحاً الى أن شباب الميدان يتحملون مسؤولية هذه الخسائر الفادحة!
ثم إن «الميدان» قد بات، مع الانتخابات، ميدانين، احدهما يتخذ أكثر فأكثر صورة «المشاغبين»، مدمري المنشآت الحيوية ومعالم الرقي في مصر، كمكتبة المجمع العلمي التي تكاد تكون أخطر ما يشهد على سبق مصر الى الحضارة المعاصرة واحترامها التراث الإنساني وحرصها على كنوز التقدم العلمي.
وهكذا فإن المرحلة الانتقالية في مصر لم تنته بانتصار الميدان الذي شكل ظاهرة تشهد لشعب مصر إيمانه بالديموقراطية، والحرص على سلمية الثورة، والرقي الحضاري في تسليمه بنتائج الانتخابات التي اختلستها الأحزاب القديمة ذات الشعار الإسلامي المنظمة والمنضبطة حديدياً منذ أجيال، والغنية بما يتجاوز قدراته، او تلك التي جاءت من الجاهلية المموهة بحجاب أو لحية كثة وبدع ليست من الإسلام في شيء، لكنها «عصرية» التنظيم، ثم أنها غنية لأن لها في الخارج من هم أغنى من داعمي الإخوان وأعظم ثراء.
ومؤكد أن معركة الميدان لمّا تنته، وإن كان التقدير أن شبابه الذين عاشوا لحظات الزهو بالقدرة على فرض التغيير قد انتبهوا الى أنهم لم يكونوا يملكون برنامجاً موحداً ينقلون به مصر من حالة التسليم بالطغيان الى إسقاطه في الميدان، تمهيداً للاندفاع – عبر مرحلة انتقالية محددة ومحدودة الوقت – نحو «النظام الموعود» الذي طالما تحدثوا عنه بأفصح الكلمات لكنهم لم يعرفوا كيف يتقدمون نحوه… خصوصاً أنهم آتون من مناخات مختلفة، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، ولم توفر لهم ظروف المرحلة الانتقالية الهدأة المطلوبة لتوحيد الرؤية.
السؤال الآن: الى أين من هنا؟ فشباب الميدان يعرفون أن معركتهم لمّا تنته، وأنهم سيواجهون نظاماً غير الذي كان هدف نضالهم. و«المنتصرون» أصحاب خبرة، ثم إن لهم شبكة من العلاقات العربية والدولية التي تحصنهم وتساعد على حماية انتصارهم الانتخابي الذي سيشكل استثماراً مجزياً في جهات أخرى من الوطن العربي.
ولعل غياب البعد العربي عن حركة شباب الميدان وفر لخصومهم الإسلاميين الفرصة لطمس موضوع الصراع – العربي الإسرائيلي، كقضية وطنية مصيرية، مما أغرى السلفيين بالاندفاع الى حد مغازلة إسرائيل وليس طمأنتها فحسب.
ومع أن تونس تبقى دولة هامشية، فإن السقوط السهل لطاغيتها الجبان، الذي تتحكم بقراراته أطماع زوجته وبطانة السوء، قد وفر للمعارضة التاريخية فرصة التقدم برعاية غربية ملحوظة. وإذا كان من الظلم اتهام إسلاميي تونس بأنهم اميركيون فالمؤكد أنهم ليسوا – في نظر واشنطن كما في مسلكهم – في صفوف من تعتبرهم أعداءها. ولعل هذا الواقع بين ما سهل نقل السلطة من نظام سيئ السمعة ومكروه شعبياً الى نظام عصري بواجهة إسلامية معتدلة سياسياً في موقفها من الغرب عموماً وأميركا خصوصاً.. مع التنبه دائماً الى «خصوصية» العلاقة، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، بين تونس ومستعمرها القديم فرنسا.
أما ليبيا فليس من المبالغة القول إن ما جرى فيها كان «مؤامرة» لعبت فيها الجامعة العربية دور المحلل الشرعي للتدخل الدولي. وبغض النظر عن طغيان معمر القذافي وأبنائه وأعوانه فإن ما وقع في ليبيا مذابح سيكون لها ما بعدها في القريب: وليس من باب التخوف أن يشار الى أن ثمة حرباً أهلية تتوالى فصولاً في هذه الدولة العربية التي لم يكن يهم الغرب منها إلا استمرار تدفق نفطها إليه.. أما وقد ضمن هذا المطلوب فلن يبذل أي جهد لمنع الاقتتال بين الجهات بقبائلها وجيوشها التي يكاد يستحيل توحيدها…
ويفرض التزامن على الأقل التوقف أمام ما حدث للسودان من تقسيم مر بهدوء عربي (وإسلامي) شامل، مع وعي الجميع أن جنوب السودان سيكون مستعمرة إسرائيلية، بالمعنى الحرفي للكلمة. وها هو رئيس هذه الدولة الوليدة يزور إسرائيل ليجهر باعترافه بفضلها على استيلاد هذا الكيان الذي حدوده من رمال وقبائل يصعب اعتبار أفرادها «مواطنين» في أية دولة من دول وسط أفريقيا.
لقد افتدى نظام البشير وجوده عبر الاعتراف بتقسيم السودان وقيام «دولة» مستقلة عن الشمال في جنوبه، أملا بأن يحظى بالرضى الأميركي وبتدفق أموال النفط العربي على الخرطوم… وهو ماض في «البازار» حتى النهاية، لا يهتم إلا لدوامه حاكماً أبدياً للسودان الذي ما زال مهدداً بمزيد من العمليات الانفصالية التي قد تشمل شرقه وغربه، مستبقياً لهذا الحاكم الذي يرفع – بدوره – الشعار الإسلامي، الخرطوم وضواحيها في الشمال…
أما في المشرق فإن الأزمة الدموية في سوريا لم تجد، حتى اليوم، مدخلاً الى حل يحفظ وحدة البلاد ذات التاريخ والدور القومي العظيم.. فلا نظامها يطرح، جدياً ودفعة واحدة، برنامجه للإصلاح الذي كثيراً ما تحدث عنه ووعد بإطلاقه، وجل ما أصدره من قرارات حتى اليوم تظل جزئية وتعالج هوامش المشكلة وليس جذورها… ثم إن استمرار الدم في التدفق، عبر المواجهات المسلحة التي تتزايد ضراوتها ومساحة ميادينها، وانسداد آفاق التسوية السياسية، أقله بالسرعة المطلوبة، كل ذلك يطرح مخاطر من طبيعة فوق او تحت سياسية: فالمواجهة المفتوحة تطرح المسألة الطائفية والمذهبية، كبند رئيسي على أي مشروع للحل قد يقدم.
وجديد أن يسمع الحديث بتعابير طائفية بل وعنصرية في سوريا التي كانت تتبدى دائماً كالبنيان المرصوص، لا اثر للطائفية او العنصرية او الجهوية فيها. وفي صفوف المعارضة من يطالب بحقوق للأقليات، كالأكراد والآشوريين والتركمان، فضلاً عن العرب، مع ضرورة استعادة السنة مركز القيادة، بوصفهم الأكثرية الساحقة من أهل بلاد الشام، مع توفير الضمانات الكافية لطمأنة العلويين والمسيحيين والدروز والإسماعيليين وصولاً الى اليزيديين!.
ثم ان احتدام الأزمة السياسية في العراق، الذي بلغ ذروته متزامناً مع انسحاب آخر جندي من قوات الاحتلال الاميركي الذي امتد لتسع سنوات، يعيد طرح المسألة الطائفية، خصوصاً أن القرار المباغت للمالكي الذي لا تفسير مقنعاً له بتقديم نائبه الى المحاكمة بتهمة التآمر لاغتياله، ثم لجوء هذا الشريك «السني» الأبرز في الحكم الى مشروع الدولة الكردية في الشمال، قد أضاف المزيد من التعقيدات على الوضع المأزوم اصلاً في العراق.
وطبيعي أن يستولد هذا القرار ردات فعل من طبيعة مذهبية، وأن يعتبر كثرة من العراقيين ان القرار بمحاكمة نائب الرئيس إنما يستهدف حصتهم في حكم العراق، وأن يضفوا عليه طابع «الاحتكار الشيعي» للسلطة، وأن يرفعوا أصواتهم – مجدداً – مطالبين بتقسيم العراق الى «أقاليم» لمن يمثلون «المذهب» لا الوطن ودولته المتصدعة والمهددة بمزيد من التفسخ…
تبقى اليمن.. ومسلسلها لمّا ينته فصولاً، وحاكمها الداهية اختار «منفاه» في واشنطن، ربما في انتظار ان يستدعيه الورثة المختلفون على جنة السلطة بينما هم في جحيم الاقتتال الأهلي..
إن الصورة مع نهاية العام الأول لميدان الثورة ليست مشرقة..
وبديهي أن إسقاط أنظمة الطغيان التي استمرت في السلطة عقوداً طويلة لا يعني – وبصورة آلية – انتصار الثورة. بل إن هذا السقوط السريع قد يعقد مهمة الثوار الذين لم يستعدوا كفاية لهذا النصر الذي باغتهم بتوقيته.
ويظل الأمل في مصر، فهي الرائدة… وهي ضمانة التغيير المنشود في أنحاء الوطن العربي بمغربه ومشرقه جميعاً.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version