طلال سلمان

مع الشروق ## نظـرة عـربيـة إلـى مصــر ـ الميــدان: حــــرب أكـتـــوبـــر و«الإخــــوان»

يستذكر العرب، في مختلف أقطارهم، حرب العبور في السادس من تشرين الأول – أكتوبر 1973، بكثير من الاعتزاز والتقدير للقوات المسلحة المصرية ومعها شريكها بالدم، الجيش السوري، وسائر الفرق أو الكتائب التي أكدت وحدة المعركة القومية ودخلتها بما تيسر من قدراتها، قادمة من ليبيا والجزائر والعراق والمغرب، ومعها جميعاً، القرار الشجاع للملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز بإدخال النفط كسلاح في معركة المصير.
لقد انخرط الجميع في تلك الحرب التي جاءت رداً باهراً علــى هــزيمة الخامس من حزيران – يونيه 1967، وإن ظلت الجبهة المصرية هي الأخطر واضطرار القوات المسلحـة المصرية الى التــقدم في ارض مكشوفة، في ظل تفوق طيران العدو المعزز بقدرات اميركية مفـتوحة.
على أن الجيش الذي كان قد أعيد بناؤه على قواعد متينة، والذي انخرطت فيه أجيال شابة ومؤهلة علمياً ومؤمنة بقداسة هذه المعركة الهادفة لرد الاعتبار للقوات المسلحة، بل وللشعب المصري، وصولاً الى الامة العربية جمعاء، التي شاركت جميعاً فيها، كل بقدر طاقته، قد واجه ما يمكن اعتباره خديعة أو كميناً سياسياً، تسبب في أن يظل النصر ناقصاً، مما مكن العدو الإسرائيلي من الرد بهجوم مضاد أضاع الكثير من إنجازات القفزة الأولى البطولية، كما مكنه ـ في ما بعد – من التفرغ، بكتلته العظمى، لصد القوات المسلحة السورية التي كانت قد حققت قفزة مهمة باستعادة قمة جبل الشيخ والمرصد الإسرائيلي فيه، وكادت، تصل الى بحيرة طبريا، في معارك التهمت أكثر من أربعة آلاف دبابة، وانتهت بتثبيت احتلاله لهضبة الجولان السورية.
ولا يقبل المواطن العربي إغفال دور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في إعادة بناء الجيش المصري، والتفرغ لإعداده للرد الفاصل، حتى آخر يوم في حياته… كما انه يحفظ بالتقدير العالي ادوار قادته الأبطال، سواء من استشهد عشية النصر، كالفريق الشهيد عبد المنعم رياض ورفاقه، أو من قادوا المعارك الضارية لوقف الهجوم الإسرائيلي المضاد الذي تتم قراءته بالسياسة أكثر مما بالعلوم العسكرية، كالفريق سعد الدين الشاذلي، ويحتل فيه وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر موقعاً متميزاً جداً، كما تشهد مذكراته، فضلاً عن يوميات الرئيس الراحل أنور السادات، سواء في ما أملاه أو في ما كتبه عن تلك الحرب المجيدة التي حالت ظروف عديدة دون تمكــين مصر وســوريا وســائر العــرب من تحقيق نصر مؤزر، يفترض الخـبراء والمؤرخون انه بالإمكان إنجـازه.
قد يكون ذلك حديث في الماضي وعنه… ولكن الحاضر يشهد أن الكلفة السياسية للنتائج التي انتهت إليها، أو أنهيت بها تلك الحرب التي كان مقدراً لها أن تفتح باب مستقبل عربي أفضل، كانت مغايرة تماماً للمأمول منها. بل أن البعض يرى أن تلك النتائج مكنت لإسرائيل في الأرض العربية أكثر مما كان مقدراً لها أن تتمكن.
بالمقابل فإن نتائج مفجعة ترتبت على وقف تلك الحرب المجيدة بالقرار السياسي، لتندفع بعدها القيادة المصرية منفردة في طريق المفاوضات غير المتكافئة، تقديراً منها أن 99 في المئة من الأوراق في يد الإدارة الاميركية التي كانت شريكة لإسرائيل في الحرب، ومن ثم راعية لقرار وقف إطلاق النار، ومن بعد للمفاوضات المصرية ـ الإسرائيلية، التي مهدت لها «الزيارة» التي رأى فيها كثيرون تفريطاً من الرئيس السادات بدماء الشهداء المصريين في المواجهات مع العدو الإسرائيلي منذ 1948، والتي استمرت وإن بأشكال أخرى حتى اليوم.
ذلك من التاريخ ومتروك له، ربما… ولكن التكريم المتأخر للرئيس أنور السادات، الذي اغتاله بعض المتحدرين من تنظيمات أصولية إسلامية، يتبدى للعرب ـ في هذه اللحظة ـ وكأنه انحياز من الحكم الحالي في مصر، إلى من وقع معاهدة الصلح مع إســرائيل، بشــروط أقـــل ما يقال فيها إنها مجحفة وتنتقص من كرامة الجيش المصري وشهدائه الأبرار في المواجهة التي قدر له أن يخوضها وجهاً لوجه مع عدوه الإسرائيلي.
وبين دلالات هذا التكريم المتأخر، مع إغفال متعمد لدور جمال عبد الناصر في الإعداد لتلك الحرب المجيدة، والإصرار على محو عار هزيمة 1967، أن يتم اعتماد سياسة السادات تجاه إسرائيل في «العهد الجديد» الذي استولده «الميدان» وقد رفعت فيه صور العديد من أبطال حرب العبور وبينهم صور عبد الناصر، ولم ترفع فيه صورة واحدة للسادات.
ليس الماضي هو بيت القصيد، لكنه المستقبل. وفي الماضي عزل الصلح المنفرد الذي أقدم عليه السادات مصر عن عالمها العربي، وأخرج الجامعة العربية منها، وأفقد مصر دورها الذي لا يقدر عليه غيرها في قيادة الوطن العربي، وهي التي كانت قبلة العرب السياسية وموضع فخارهم، فضلاً عن أنها كانت جامعتهم وأغنى مصادر ثقافتهم وساكنة وجدانهم من خلال إبداع شعبها في مجالات الفنون المختلفة، رواية وشعراً وغناء ومسرحاً وسينما ورسماً ونحتاً وصحافة وصولاً الى الكاريكاتور.
لقد انتظر العرب مصر ـ الميدان دهراً… واستقبلوا ثورتها باللهفة والشوق الحبيس والاستبشار بغد أفضل لهم جميعاً، وفي مختلف أقطارهم.
وقد يبالغ العرب في حبهم لمصر وفي مطالبهم منها، ولكن هذه المبالغة تؤكد تسليمهم بدورها القيادي، وثقتهم بأهليتها له وبقدرتها على ممارسته…
ومع الأخذ بالاعتبار حق التنظيمات الإسلامية وأبرزها «الإخوان المسلمون» في التصدي لأدوار قيادية طالما ان ذلك يتم بالإرادة الشعبية، فإن العرب خارج مصر لا يرون أن «الإخوان» يمكنهم ان يختصروا مصر… بل إنهم يعرفون أن «الميدان» الذي شهد ولادة الثورة لم يكن إخوانياً، وان مطامح الشعب المصري تتجاوز كثيراً برنامج الإخوان المسلمين، وبين هذه المطامح أن تستعيد مصر قرارها الوطني، فلا تخضع لهيمنة اميركية ولا تسمح لإسرائيل بأن تستمر في أن تفرض عليها شروطاً تنتقص من سيادتها الوطنية وتمنعها من ممارسة دورها العربي الذي لا تعوضه فيه أية دولة عربية أخرى.
ولعل تجربة الأحداث الدموية في سيناء وتداعياتها السياسية قد أكدت استمرار إسرائيل في ممارسة عتوها، عبر محاولتها استغلال الوضع لإجبار السلطات المصرية على إعادة توكيد التزامها باتفاق «كامب ديفيد» وملاحقه التي تتضمن الكثير من الإساءات الى السيادة المصرية واستقلال قرارها الوطني في كل ما يتصل بأمنها القومي.
إن الوطن العربي بأقطاره كافة يعيش مرحلة انتقالية خطيرة جداً.. والانتفاضات الشعبية التي بشرت بفجر جديد ما تزال مهددة بمخاطر هائلة، بينها الضغوط الخارجية، وبالتحديد من خلال استغلال أزماتها الاقتصادية، إذ أن عهود الطغيان التي فجرت الثورات قد نهبت خيرات البلاد وأفقرت شعوبها وجعلتها في عوز قد يضطرها الى قبول القروض و«المساعدات» الدولية، الاميركية أساساً ومعها الخليجية، بتنازلات عن مبادئ الثورة الشعبية وأهدافها التي أوجبت تفجرها، ناشرة الأمل بغد أفضل.
وإذ يحفظ المواطن العربي حرب أكتوبر- تشرين الأول في وجدانه باعتبار انطلاقتها دليلاً – بالدم القاني – على القدرة وعلى إمكان تحقيق النصر، فإنه يرى في النتائج السياسية التي أنهيت بها إساءة إلى دماء الشهداء الذين اندفعوا عصر ذلك اليوم المجيد الى تحرير أرضهم وإرادة وطنهم، ويرى أن «الميدان» – بملايينه – مؤهل لإنجاز ثورة شاملة تعيد مصر إلى دورها الذي لا بديل منها فيه كقيادة للغد العربي، متخففة من أثقال مرحلة الطغيان التي مكنت لانحرافها عن ذلك الدور أو تخليها عنه.
ويخطئ قادة «الإخوان المسلمين» إذا ما افترضوا أنهم سيحظون بمزيد من الشعبية، وبالتالي الشرعية، إذا ما قرأوا مستقبل مصر من خلال تجربة الرئيس الذي اغتيل على منصة الاحتفال بحرب أكتوبر المجيدة.
ولن يستطيع الرئيس محمد مرسي بحركته الاستعراضية في استاد القاهرة يوم السبت الماضي أن ينسب الى «الإخوان» دوراً في حرب أكتوبر، ولن يفيده أن يستذكر الفريق البطل سعد الـدين الشاذلي متغافلا عمن أساء الى كرامته واضطهـده الى حد النفي ثم المـحاكمة، ليمكنه من بعد تجاوز أية إشارة الى جمال عبد الناصر وجهده في إعادة بناء جيش العبور العظيم الذي حوله أنور السـادات «عبوراً» إلى العدو وليس إلى الانتصار المترجى.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version