طلال سلمان

مع الشروق ## نحو الخروج من الدوامة الدموية: العرب يتطلعون إلى مصر

يستقبل الوطن العربي العام الجديد وأقطاره تنزف دماء أبنائها… فحيث لا حرب أهلية طاحنة تتفجر الصراعات حروباً أهلية عربية – دولية كما في سوريا، أو جهوية، كما في ليبيا، أو طائفية، كما في العراق، أو مزيجاً من هذه وتلك، كما في اليمن، أو «سياسية» يظللها الشعار الإسلامي كما في مصر، أو متنقلة بعبواتها الناسفة أو برصاص الاغتيال السياسي الملتبس لأن هدفه طائفي أو مذهبي كما في لبنان.
اختفى الصراع السياسي براياته الخفاقة وشعاراته مولدة الشعور باستحقاق الغد الأفضل، وتحولت الحياة السياسية إلى برزخ من الفتن المدمرة التي يعجز عن إنتاجها العدو الإسرائيلي.. فالأحقاد المستعادة من ماضي التخلف والجهل والعصبيات الجاهلية مؤهلة لأن تدمر الحاضر والمستقبل، لا سيما متى صارت لها وظيفة مؤكدة في صنع السياسات والقيادات والزعامات والتحولات في محطات تاريخية فاصلة.
من بيروت حيث دماء الاغتيال السياسي تعيد تأجيج الصراع على السلطة في لبنان بتوظيفه العصبيات الطائفية والمذهبية في سياقه، بينما «الدولة» في أضعف حالاتها، تكاد تتهاوى تاركة «الكيان» يعود إلى حماية مبتدعيه من «أهل الاستعمار القديم» كمحطة مراقبة لمحيطه العربي.
إلى سوريا حيث الدماء تغطي «قلب العروبة النابض» والمحافظات خارج العاصمة «مشلعة»، بعضها يخضع لتنظيمات إرهابية ترفع شعاراتها معلنة تبعيتها لتنظيم «القاعدة»، وبعضها الآخر تتحكم فيه ميليشيات إسلامية الشعار، دموية السلوك، ترى في كل من والى النظام كافراً يستحق الإعدام علنا وأمام كاميرات الفضائيات التي تتوالد كالفطر لتكمل المشهد كصراع بين الأمس المزعوم إسلاميا وغد التقدم المصنف كفراً.
إلى العراق الذي تنزف عاصمته وبعض نواحيه دماء شعبه الجاري تمزيق وحدته بالتمييز بين مكوناته، قوميا وطائفيا ومذهبيا، فإذا العربي غير الكردي، وإذا السني غير الشيعي، وإذا الاشوري أو الكلداني وهو الأصفى في عراقيته يعاني خطر التصفية أو التشريد ليبرز من «يستضيفه» لدمغ العرب بالعنصرية واضطهاد الأقليات.
…فإلى اليمن حيث يتدفق الدم غزيراً في أنحاء مختلفة من هذا البلد الذي كان في ماضيه مميزاً بوصفه «السعيد»… ويختلط القتلة فإذا بينهم أميركيون بطائرات من دون طيارين وقتلة محترفون بشعارات «القاعدة» وقبائل مصطرعة على مناطق النفوذ، لا سيما تلك التي تختزن أرضها النفط، وإذا «الدولة» تكاد تتهاوى تحت ركام «التسويات» التي أطاحت «رئيسها التاريخي» علي عبد الله صالح من دون أن تنجح في استيلاد البديل القادر على إعادة تجميع شظايا هذه الجمهورية التي استولدتها الثورة في قلب مجتمع قبلي ممزقة أوصاله بالاستعمار و«السلاطين» الذين عادوا الآن يحاولون استعادة «ملكهم» ولو تحت شعار جمهوري!
فإذا ما انتقلنا إلى «عرب أفريقيا» طالعنا المشهد المأساوي في ليبيا التي تمزقت أراضيها وضيّعت مواردها، بل نهبت، وتهاوت وحدة شعبها وغطت الدماء خريطتها شرقاً وغرباً وجنوباً، وتركز صراع «الدول» على النفط بمنابعه وخطوطه ومرافئ تصديره، ولو ذهب شعبها إلى الجحيم.
أما مصر التي اشتهر أهلها بالتسامح، دينياً، ولم يألفوا العنف الدموي في حياتهم السياسية، فقد شهدت تحولاً في المزاج الشعبي، بعد الثورة الأولى في «الميدان»، وهكذا وجد من يسيل الدم في المرحلة الانتقالية… وتزايد سيلانه في «السنة الإخوانية»، وها هو يغطي أنحاء مختلفة من «المحروسة»، تمتد ما بين سيناء ومدن القناة وصولاً إلى القاهرة وجامعة الازهر التي تعرضت بعض كلياتها للحرق المتعمد، وما خلفها حتى لا يضيع حق «المنصوره» التي يمكن اعتبار «الهجوم» على مديرية الأمن فيها نقطة تحول في مسار الصراع بين السلطة الجديدة ومخلفات «السنة الإخوانية» التي سيؤرخ بها لسقوط الحكم الديني في المنطقة العربية جميعا.
لا مساحة لفلسطين في هذه الصراعات والمواجهات التي احتل صدارتها الشعار الإسلامي… ولقد باتت «أخبارها» عادية، حتى والشهداء ما زالوا يتساقطون فوق أرضها المباركة برصاص العدو الإسرائيلي.
ماذا يراد قوله من خلال هذا العرض للصراع وقد اتخذ أبعاداً دموية خلال العام المنصرم، وتساقط فيه الضحايا بعشرات الألوف؟
ثمة من يتخوف من أن تكون الدماء قد أهدرت ولا قضية، أو خارج الميدان الأصلي للقضية…
فالصراع يكاد يكون، في الغالب الأعم، عبثياً وعلى السلطة، واجهته محلية، وفي الخلف مصالح لدول كبرى، لا تهتم كثيرا لسقوط الضحايا.
إنه ليس صراعاً بين المبادئ والأفكار والقيم والبرامج والنظريات.
ليس صراعاً بين الإسلام والماركسية والشيوعيين الذين وصل التشهير بهم في فترة سابقة إلى حد اعتبارهم «كفرة»…
كل الأطراف في الصراع الذي كان سياسياً ثم تم تحويره بل تزويره ليصبح أقرب ما يكون إلى الفتنة بين المسلمين، سنة وشيعة، هم من المسلمين… ثم انه ليس صراعاً حول الولاء للغرب (الأميركي) أو الالتحاق بالشرق (السوفياتي).. فالاتحاد السوفياتي صار من الماضي وفيه، وليس بين المتصارعين من يجهر بعدائه للغرب، وقد صارت روسيا الأرثوذكسية منافساً سياسياً واقتصاديا للولايات المتحدة الأميركية البروتستنتية كما لأوروبا الكاثوليكية.. بل ان بطريرك موسكو يكاد ينافس بابا روما في مجال التبشير بالدين، في قلب السياسة، وليس بعيداً عنها.
إن الأمة العربية في محنة، قد تكون أخطر من محنة هزيمتها أمام العدو الإسرائيلي وحماته الغربيين في فلسطين.
لقد تهاوت الشعارات التي حكمت بها الأنظمة أو تحكمت على امتداد نصف قرن أو يزيد، واختفت الهتافات الحزبية: وحدة، حرية، اشتراكية، أو معكوسة، وتتزايد يومياً المساحات التي تحتلها الشعارات الدينية.
وفيما كانت شعارات الأحزاب في النصف الثاني من القرن الماضي تأخذ إلى الصراع السياسي بالمبادئ، كالإصرار على وحدة الأمة، والعدالة الاجتماعية وقضية الحرية، حرية الوطن والإنسان، فإن الشعارات التي تدوي الآن لا تأتي على ذكر الأوطان، ولا هي تشير إلى العدو الإسرائيلي أو إلى «الاستعمار» ولو بتسميته الحديثة «الامبريالية»، بل تركز على بعض الدين، أي على مذهب منه وبتفسير مستحدث، لم يعرفه المسلمون إلا في الحقبات الظلامية، يوم تعاظم الانشقاق مستولداً حروباً أهلية أنهكت الأمة وفتحت الباب أمام الهيمنة الأجنبية.
على أن هذه اللوحة المعتمة لا تعني أن أبواب الأمل بالغد قد سدت تماماً، وان كان فتحها على مستقبل أفضل يحتاج إلى مزيد من الوعي والإصرار على متابعة النضال من أجل الغد الأفضل.
..وتظل مصر مصدر الأمل، برغم خطورة المرحلة الانتقالية التي تجتازها في تخطي الحكم بالشعار الديني الذي يخفي أغراض التنظيمات الإسلامية التي ثبت بالتجربة المعيشة أنها لا تملك برنامجاً ولا منهجاً للحكم بعيداً عن الشعارات المطلقة… ثم انها تستعدي المسلمين قبل أتباع الديانات الأخرى الذين تعتبرهم من «الكفرة».
لقد أكدت التجربة المباشرة والمكلفة أن المصريين ما زالوا على طبيعتهم السمحة، وعلى إيمانهم العميق الذي لا يعرف التعصب..
ومن هنا الأمل بمصر التي أثبت شعبها وعيه الأكيد وبعده عن التطرف، تعصباً في الدين، أو انغلاقاً على الذات وابتعاداً عن الآخرين بنفس عدائي.
ثم إن لمصر في تاريخها القريب تجربة مميزة بنجاحاتها في مواجهة الخارج، حتى حين اتخذ شكل «العدوان الثلاثي» – بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لمن نسي – كما في بناء الداخل بشهادة الألف مصنع والإصلاح الزراعي الذي فتح أبواب العلم أمام أبناء الفلاحين، وهم الأكثرية، ثم بناء الجيش القوي وإعادة بنائه بعد هزيمة 1967 استعداداً للعودة إلى الميدان و«العبور» إلى سيناء المحتلة يوم السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973.
من هنا ان العرب، في مختلف ديارهم، يتطلعون وهم يغوصون في أعماق أزماتهم، إلى مصر، إلى تسامحها ونبذها للتعصب، والى وعيها بالعصر ومستلزمات التقدم نحو الغد الأفضل.
وكل عام وأنتم بخير..

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version