طلال سلمان

مع الشروق من فلسطين المضيّعة إلى جنة اليونسكو المفقودة: كشف أولي بالهزائم الجديدة للنظام العربي

لا بد أن قادة النظام العربي، بمجملهم، قد تجرعوا كؤوساً مترعة بالمرارة، في الأيام القليلة الماضية التي حفلت بانتكاسات خطيرة لآمالهم أو تمنياتهم سواء في ما يتصل بالقضية ـ الأم ـ فلسطين، أو بمسائل كانوا يفترضونها أسهل منالاً كالفوز بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو.
وبالتأكيد فإن من راهن على الإدارة الأميركية الجديدة قد يستشعر غصات عديدة وهو يتابع وقائع الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، بدءاً بخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، مروراً بخطاب الفجور الانتصاري لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وانتهاء بالخطاب الاعتذاري البائس لرئيس السلطة التي لا سلطة لها في بعض أراضي فلسطين المحتلة محمود عباس.
لقد تبخرت تعهدات الرئيس الأميركي التي حملها مبعوثه الخاص جورج ميتشل وجال بها، مرات عدة، على بعض قادة النظام العربي والقيادة الإسرائيلية، مبشراً عبر ابتسامته البلاستيكية بأنه إنما جاء لمهمة محددة هي: وقف الزحف الاستيطاني الإسرائيلي على ما تبقى من الأرض التي كانت مخصصة ـ نظرياً ـ لمشروع الدويلة الفلسطينية الهزيلة… فلما جوبه بالتعنت الإسرائيلي الذي تبعه تراجع مفجع للرئيس الأميركي عن تعهداته «الفلسطينية» تجرع قادة النظام العربي المرارة، مجدداً، وحولوا وجوههم الى الجهة الأخرى ليصعدوا حروبهم الشرسة على … النووي الإيراني!
بل إن رئيس الحكومة الإسرائيلية قد تجاوز نقض ما كان قد «وعد» به منتقلاً الى الهجوم على ما تبقى من ثوابت القضية الفلسطينية، بكل التعهدات أو الضمانات الدولية التي كان العرب يفترضون أنهم قد نجحوا في الحصول عليها عبر الإدارة الأميركية أو عبر الرباعية الدولية، بعدما دفعوا ثمنها غالياً عبر المبادرة العربية التي مزقها حكم التطرف في إسرائيل فأخرجها من النقاش غير عابئ بالتهديد الضمني لصاحبها الملك السعودي بأنها لن تبقى على الطاولة الى الأبد.
لم يعد الموضوع ـ دوليا ـ حقوق الشعب الفلسطيني في بعض أرضه، ومن ضمنها رفع الحصار القاتل عن المليون ونصف مليون فلسطيني المتروكين لريح الموت والجوع والمرض ونقص الغذاء وانعدام الدواء في قطاع غزة.
تم تحوير المسألة جميعاً فصارت: حق يهود العالم بأن يجيئوا من أربع رياح الدنيا الى أرض شعب فلسطين لتكون «دولة يهود العالم»… ولان مساحتها محدودة، فلا بد من أن يخليها الفلسطينيون ليتحقق «الوعد الإلهي» الذي أقطع «أرض الميعاد» لليهود جميعاً، سواء أكانوا من فالاشا الحبشة أو أرثوذكس الاتحاد الروسي أو كاثوليك بعض أقطار أوروبا أو بعض المتحدرين من أصول مغربية مختلطة نتيجة تمازج العرب واليهود في الأندلس.
لقد أقدم النظام العربي على سلسلة من التراجعات المفجعة، سواء نتيجة انبهاره بالإدارة الأميركية الجديدة، الناتجة من سوء تقديره وقراءته المغلوطة لطبيعة العلاقة القائمة والدائمة بين المؤسسة الأميركية الحاكمة وبين الكيان الإسرائيلي، أو نتيجة غرقه في جهله بموقع هذا الكيان في الاستراتيجية الأميركية.
فالنظام العربي لا يملك من أمر قضاياه شيئاً. إنه ينتظر صدقات الإدارة الأميركية بعدما أولاها ثقته، وربط مصيره بقراراتها، مع وعيه أنه أعجز من أن يؤثر في هذه السياسات، خصوصاً بعدما انقسم هذا النظام الى معسكرات متواجهة فخسر بعض قيمته المفترضة وكل قدرته على التأثير.
بل ان هذا النظام العربي، العاجز بحكم تكوينه، قد ألغى مصادر قوته حين تحول الى مجرد تابع منفذ لأغراض السياسة الأميركية، وبين أهدافها العظمى حماية إسرائيل كقوة مقررة في المنطقة العربية.
ثم انه خسر المزيد من عناصر قوته المفترضة حين اندفع يغطي الاحتلال الأميركي للعراق، بكل تداعياته، سواء على الوحدة الوطنية في هذا البلد العربي العريق والعظيم القدرات، أو على المحيط العربي للعراق.
فجأة، وبغير سابق إنذار، تناسى النظام العربي إسرائيل، التي تعاظمت قوتها بقدر ما تعاظم ضعفه نتيجة احتلال العراق، وتناسى معها حقيقة أن العراق بات تحت الاحتلال، بكل ما نجم عن هذا الاحتلال من تمزق لأسباب وحدة أرض الرافدين، ومن نفخ في رماد الفتنة بحيث اندفع العراقيون المنهكون بالحكم الطويل للطغيان يبحثون عن الأمان، فلم يجدوا غير طوائفهم وعشائرهم التي حلت محل الدولة بتشجيع مباشر من الاحتلال الذي انهمك مع أعوانه وعملائه من العراقيين في نهب خيرات أرض الرافدين تاركاً الشعب المقهور دهراً يتفكك فيفقد أواصر وحدته ويغرق في دمائه عبر حرب أهلية مفتوحة.
ولقد كان سهلاً، في ظل هذه الفوضى الدموية التي فتحت العراق أمام كل طامع، أن يتم تحويل الاهتمام عن واقع الاحتلال الأميركي الى احتمالات الخطر الآتي من إيران، التي كان بديهياً أن تحمي نفسها من تداعيات هذا الاحتلال بأن تتقدم لتشارك في الغنيمة، استجابة لثأر قديم من حرب صدام حسين التي فاجأتها مع اندلاع ثورتها الإسلامية فأنهكتها وأسست لعداء جديد بين العرب والإيرانيين يستمد بعض مبرراته من وقائع كانت نائمة في بطون التاريخ.
تحول الاحتلال الأميركي الى حليف للنظام العربي في مواجهة خطر محتمل يتمثل في إيران..
وكان المستفيد الأعظم من هذا التحول العدو الإسرائيلي، الذي أخذت صورته تتبدل في عيون بعض النظام العربي، فإذا هو «خصم» وليس عدواً، ثم انه قد يفيد ـ اذا ما تم تهدئة الخصومة معه ـ كحليف محتمل في مواجهة الخطر الإيراني.
صار الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين حليفين محتملين إن لم يكونا مؤكدين، للنظام العربي.
وكان بديهياً والحالة هذه أن تتبدل أدوات اللعبة، فإذا الخطر يكمن في «الهلال الشيعي» وليس في غيره، واذا الاحتلال ـ أميركيا وإسرائيليا ـ في موقع الحليف لمواجهة هذا الخطر الجديد.. الداهم!
[[[
لا بد أن الرئيس المصري حسني مبارك يستشعر أسفاً عميقاً لأنه أكرم من لا يستحق التكريم فشرف من لم يعرف عنه الوفاء أو حتى الحياء، بنيامين نتنياهو، بدعوته الى مائدته في إفطار رمضاني.. محتملاً عبء هذا التكريم الاستثنائي لسفاح محترف وعنصري جلف مثل بنيامين نتنياهو.
بل لعل الرئيس مبارك يحس بخيبة أمل مريرة نتيجة رهانه على الوعود المعسولة وإن ظلت دلالاتها مبهمة والتي سمعها من الرئيس الأميركي باراك أوباما حول «عملية السلام» عموماً، ومدخلها الحتمي وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية التي لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، وان اعتبرت ـ شكلاً ـ تابعة لسلطة لا سلطة لها على تلك القطعة من أرض فلسطين المحتلة التي تذوبها حركة الاستيطان فتلغي هويتها الوطنية وتشرد أهلها، منذرة بنكبة جديدة سوف تحل بهذا الشعب المضيعة حقوقه في بعض البعض من أرضه، فضلاً عن امتهان إنسانيته بتشريده داخل ما كان وطنه، من غير أن ننسى أن أكثرية هذا الشعب مشردة أصلا خارج وطنها نتيجة للحرب الإسرائيلية المفتوحة.
لقد حقق نتنياهو نصراً مجانياً على العرب مجتمعين، بعنوان مصر، ولن ينفع الفلسطينيين لوم الرئيس الأميركي الذي أطلق سلسلة من الوعود والآمال التي اضطر الى التراجع عنها بل الى التنكر لها من قبل أن يجف حبرها… ولن تنفع أصداء كلماته في خطابه جميل العبارة في جامعة القاهرة في التخفيف من وطأة الشعور بالمرارة والخذلان الذي يغرق فيه عرب الاعتدال، على وجه الخصوص، بل ان رمز التطرف الإسرائيلي قد أفاد من التراجعات العربية عامة، والفلسطينية خاصة، لكي يندفع الى الأمام فيواجه الرئيس الأميركي الذي تراجع أمامه ـ مجبراً أو مختاراً، لا فرق!! ـ فشطب إسرائيل من قائمة الدول المطالبة بإخضاع منشآتها النووية لرقابة الدولية.
إن العديد من الأنظمة العربية يواجه شعوبه ويغفل عن عدوه الحقيقي، بل لعل بعض هذه الأنظمة قد سقط في موقع الحليف الفعلي للعدو الإسرائيلي.
إن هذا النظام العربي يهرب من مواجهة عدوه، الى مواجهة شعوبه.
إن الأرض العربية تشهد نذراً بمجموعة من الحروب الأهلية التي سوف تستنزف قدراتها وتهدد كياناتها بمخاطر التمزق والاندثار: من اليمن الى السودان، مروراً بالعراق، وصولاً الى لبنان، فضلاً عن فلسطين.. كل هذه الأقطار مهددة في وجودها كدول.
ان إسرائيل موجودة كعنصر تخريب.
انها تعمل على تدمير العراق ولا بد أن لها يداً في حرب اليمن.
وهي موجودة قطعاً في السودان، بل ان بعثاتها تجول في أفريقيا تحرّض ضد مصر ودورها الطبيعي الذي كان عاملاً مساعداً وأحيانا حاسماً في تحرير العديد من أقطار أفريقيا.
كما أنها تحرض ضد اللبنانيين الذين بذلوا عرق الجباه والزنود في معظم أقطار أفريقيا، وساهموا في بناء مدنها وعمرانها.
لقد باتت إسرائيل عنصر تخريب داخلياً في معظم الأقطار العربية.
إنها ما زالت تقاتل على كل الجبهات لتدمير قضية فلسطين وإرادة شعبها وروابطه مع أهله العرب.
ومن أسف أن العديد من هذه الدول تساعد إسرائيل في حربها هذه… وحتى السلطة بضعفها تساهم في تعزيز الموقف الإسرائيلي.
[[[
… ونعود الى مصر التي فجع نظامها، برئيسه ومؤسساته جميعاً، بالهزيمة النكراء التي لحقت بها في معركة اليونسكو.
لم تنفع الزيارة الرئاسية الى واشنطن واللقاء مع خطيب جامعة القاهرة، الرئيس الأميركي ذي الجذور الأفريقية باراك أوباما.
لم ينفع التحالف مع الإدارة لمواجهة الخطر الشيعي ـ النووي ممثلاً بإيران، والذي خدم مجاناً إسرائيل ومكن لها أكثر فأكثر في المنطقة، عبر استقبال رؤساء حكوماتها ووزرائها مراراً وتكراراً في القاهرة وشرم الشيخ، بينما أياديهم ملطخة بعد بدماء الفلسطينيين في غزة وسائر أنحاء فلسطين، كما في لبنان بجنوبه وشرقه وعاصمته بيروت وضاحيتها النوارة.
لم ينفع التنازل عن المبادرة العربية وتجاوزها الى ما يشبه «الصداقة» مع إسرائيل، بل التعاون معها على من يقاومها.
لقد ضاع ذلك كله هباء، وخذل الحلفاء والأصدقاء جميعاً مصر بشخص فاروق حسني، فمنعوا وصوله الى رئاسة اليونسكو.
طيب. ماذا بعد؟ ماذا عن الغد؟!
هل تعّلم النظام العربي شيئاً؟!
ليس في الجو ما يوحي بذلك مع ذلك فلتأمل خيراً فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. وبالذات وليس بالغير.
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version