طلال سلمان

مع الشروق مستقبل العرب و«دولهم» بين السودنة والعرقنة واللبننة

لا تشقق السودان الى»دولتين»، على الأقل، بانفصال جـنوبه عن شماله، رسمياً، خلال أيام، يمكن أن يكون نهاية المأساة الدامية التي يعيش في إسارها هذا البلد المصنف عربياً، الغني نظرياً بموارد للثروة هائلة، والفقير حتى العظم، واقعياً، وبشهادة الظروف القاسية التي يعيشها أهله.
… ولا التحايل على حفظ وحدة الكيان العراقي بتقسيمات جهوية أو عرقية أو طائفية قد تحمي «وحدة الدولة» برغم الاعتراف بانقسام أهلها وتوزعهم «شعوبا»، يمكن أن يطمس عمق الأزمة الكيانية التي تعصف بالأرض التي بدأ فيها التاريخ الإنساني والتي تبدو الآن وكأنها في طريقها للخروج من التاريخ.
كانت زيارة عابرة الى السودان تكفي لأن يداهمك الإحساس بأن كيانه السياسي قد تم اصطناعه وتركيبه بعيداً عن إرادة «شعوبه» التي أريد لها أن تكون ضمن هذه «الدولة» الممتدة بحجم قارة، مع تجاهل مقصود لتهاوي الروابط في ما بينها، ومع تجاوز لواقع أن «الدولة المركزية» لم تصل في أي يوم الى سائر أنحاء السودان التي تكاد الجهات الأصلية فيه أن تكون هويات لقبائله وأعراقه المختلفة: فالجنوب مختلف كلية عن الشمال، لوناً وتركيبة سكانية، ودينا، والشرق مختلف عن الغرب في الكثير مما يتجاوز الدين… ثم ان الشمال عاصمة وبعض المدن، أما الباقي فهو متروك للنيل متى وهب، يعيش أهله حياة بدائية ويمر بهم الزمن فلا يحفل بهم ولا هم يحفلون.
هل من المفيد أن نستذكر التاريخ وكيف أقام الاستعمار البريطاني وحدة مصر والسودان تحت عرش أسرة محمد علي، مع قفز عن حقائق التاريخ والجغرافيا والتركيبة السكانية في «وادي النيل» وهي تتكون من عناصر مختلفة لا يجمع بينها جامع غير الارض التي رسم حدودها أجنبي لا يهتم إلا بمصالحه، وبالتالي فهو قد وجد في تلك الصيغة حلاً مؤقتا يحمي تلك المصالح تاركا المستقبل لله.
هل يتذكر أحد أن أياً من المصــريين أو الســودانيين لم يظـهر اعتراضاً أو يرفع صوته بالاحتجاج حين أعلنت ثورة 23 يوليه/تمــوز في مصر إنهاء تلك الوحدة الشكلية، والاعتراف باستقلال السودان، محاولة أن تعوض بعلاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة عن «وحدة» أقيمت من فوق رؤوس الشعبـين ثم أسقــطت من دون ان يبكيــها مواطــن واحـد في القطرين الجارين اللذين كانا «حتة واحدة» ثم عادتا دولتين مستقلتين؟
واذا كانت الحكومة في مصر قد تصرفت – حاليا – بفهم واقعي لانفصال الجنوب عن الشمال، مؤكدة حرصها على إقامة «علاقات طبيعية» مع الدولة، المستنبتة حديثاً، فإن الرئيس الاميركي الأسمر بجذوره الأفريقية باراك اوباما، قد بادر الى توجيه النصح الى قادة الجنوب بأن يحرصوا على التعاون مع الشمال.
بالمقابلن لا تخفي الإدارة الاميركية رعايتها الرسمية لانفصال الجنوب، بل ان الرئيس اوباما قد استخدم الهاتف في حديثه الى رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت ليؤكد له «تمسك واشنطن بأن يجري الاستفتاء بهدوء وفي موعده المحدد»… بل وهو قد حث سلفاكير على التعاون مع حزب المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس عمر البشير لحل المسائل العالقة.
في الوقت ذاته كان نائب الرئيس الاميركي جوزف بايدن يتصل بنائب الرئيس السوداني علي عثمان طه، ليبلغه التزام الولايات المتحدة الاميركية بإجراء الاستفتاء في وقته المحدد، كما شدد على أهمية التزام السودان بدفع المسار التفاوضي في ما يتعلق بالنقاط العالقة في اتفاق السلام الشامل.
لكن لا الرئيس الاميركي الأسمر ولا نائبه الأبيض كانا معنيين بكيف سيعيش جنوب السودان بعد الاستفتاء الذي سيجعله «دولة مستقلة»، ولا بماذا سيصيب الشمال بعد انفصال الجنوب، خصوصاً أن ثمة دعوات علنية تطالب بانفصال جهات أخرى من هذه الدولة – القارة التي لم تكن في أي يوم دولة موحدة.
في الوقت ذاته، وفي ما عدا الموقف المصري الرسمي الذي تعامل مع الانفصال واقعياً، فأوفدت القاهرة مسؤولين يبحثون مع قادة الدولة المستجدة مستقبل العلاقات في مختلف المجالات، مع تركيز على مسألة مياه النيل باعتبارها قضية حيوية لمصر، فإن أيا من الدول العربية لم تقل كلمة في هذا الموضوع الخطير، تاركة الأمور تأخذ سياقها الطبيعي… والأمر لله من قبل ومن بعد!
ولم يكن الاجتماع الطارئ الذي انعقد في الوقت الضائع في الخرطوم وجمع قيادات كل من مصر وليبيا والسودان (وموريتانيا التي لم تعرف لها صفة في هذا الاجتماع لدول الجوار) إلا محاولة متأخرة للبحث في التداعيات المحتملة لتفسخ السودان الى دولتين (قد يليه تفسخ آخر)، ثم الانفضاض من دون أية مقررات تطمئن الى الغد عبر خطة ما، مشروع ما لمواجهة ما قد يحدث تمهيداً للانفصال أو اعتراضاً عليه أو اتخاذه منطلقاً لمزيد من التفسخ في الخريطة العربية الرسمية.
[[[[[[
ما حصل في السودان، وما قد يحصل في العراق وله، وما قد يحصل في اليمن ولها، وما يلوح كخطر محتمل على وحدة الكيان السياسي للبنان، له «أصل» في طريقة إنشاء أو إقامة هذه الدول العربية بالذات وغيرها… ففي ما عدا مصر التي كان لها عبر التاريخ «كيانها» السياسي تحميه الجغرافيا، فإن معظم الكيانات السياسية، وفي المشرق العربي على وجه التحديد، لم يكن لها ما يبرر إقامتها كدول إلا مصلحة القوى الاستعمارية التي ورثت السلطنة العثمانية.
أنشئت دول المشرق العربي بتقاسم معلن بين الإمبراطوريتين اللتين ورثتا عن الإمبراطورية العثمانية «أملاكها»، ولذا فلم يكن التقسيم مستنداً الى حدود طبيعية أو الى وحدة عناصر الشعب في كل من تلك الدول، أو الى قدرة «الدولة» الجديدة على توفير أسباب الحياة «لشعبها» فضلاً عن حماية كيانها السياسي.
لذا، أمكن زرع الكيان الإسرائيلي في فلسطين، بالقوة، دون ان تملك «الدول» العربية المحيطة ما يمكنها من درء هذا الخطر الذي زعزع مرتكزات وجودها المفتعل ذاته، فعاشت منذ 1948 حتى اليوم وهي تخاف القوة الإسرائيلية المعززة دولياً والمحمية بقوى الاستعمار القديم ثم الإمبريالية الاميركية.
لكن العسكريين الذين نجحوا في الاستيلاء على السلطة وجدوا ان تحرير فلسطين مهمة صعبة جداً، فقرر كل حيث ملك ان يبني دولته القوية، وانشغل بهذه المهمة عن التحرير، خصوصاً ان رفاقه كما خصومه من الضباط كانوا يعملون لخلعه بتهمة التخلي عن المهمة القومية والتفريط بالهدف المقدس… وتدريجياً، صار الحفاظ على الحكم بشعار التحرير أهم من العمل للتحرير، ثم تطور الأمر اذ اعتبرت المناداة بالتحرير مزايدة على الحكم الثوري واتهاماً له بالتقاعس، وهذه تهم تودي بمن توجه اليه الى التهلكة.
تكفي مراجعة كشوف الضباط الذين سيقوا الى ميادين الإعدام، في دول المشرق العربي، للتثبت من ان المئات وربما الآلاف من الضباط المؤهلين الذين كان يعدهم النظام – دعائيا – أو يعدون أنفسهم عملياً لمعركة تحرير فلسطين، قد شطبوا فأعدموا بتهم خطيرة أعظمها «التآمر على النظام» أو «التواطؤ مع الأجنبي لإضعاف الكيان السياسي» والتمكين لهيمنة الأجنبي على البلاد!
يمكن، هنا ايضا، مراجعة كشوف الضباط الذين أعدموا أو سجنوا ثم أحيلوا على التقاعد «المبكر» في السودان على امتداد الحقب التي تولى فيها الجيش الحكم، عبر مسلسل الانقلابات التي توالت منذ عهد «عبود» وحتى عهد «البشير»، والتي كانت «فلسطين» تحتل مع الجنرالات الأوائل موقع الصدارة ثم صارت «الشريعة» في هذا الموقع وضاع السودان، بدولته ووحدة شعبه بين الشعارين.
أما في العراق الذي استقر فيه الحكم، نظرياً، لحزب حاكم منذ أواخر الستينيات، وحتى الأمس القريب، فإن كشوف «الرفاق» من الحزبيين الذين أدينوا فأعدموا قبل المحاكمة أو حوكموا وحكموا بالإعدام خلال ساعات، تشهد بأن الصراع على السلطة قد دمر الحزب والجيش ووحدة الشعب، ثم انتهى بأن فتح الطغيان الباب على مصراعيه أمام الاحتلال الاميركي الذي دخله بفرية مبتدعة: انه يملك أسلحة نووية يهدد بها الأمن الإسرائيلي وبالتالي السلام الكوني!
وتشهد تلك الكشوف بأن الحاكم الفرد لم يتردد في إعدام أقرب الناس اليه، أبناء عمومة وخؤولة، ورفاقاً بل قادة لحزبه، إضافة الى الآلاف من المواطنين العاديين الذين اتهموا بالتواطؤ مع دول أجنبية أو التجسس لحساب جهات ودول لا يعرفون أين تقع على الخريطة.
[[[[[[
…ويحدثونك عن « الدولة المركزية»، ضعفها أو قوتها، نجاحها أو فشلها.
ان معظم دول المشرق العربي يمكن اعتبارها – بالتصنيف العالمي – دولاً فاشلة، سواء في دخلها القومي، أو في توزيع الدخل الوطني على أهلها، أو في أهليتها لرعاية مجتمعها.. ثم انها دول «الشخص» ملكا كان أم رئيساً مالكاً.
لكن ثمة في هذه الأخبار ما يفرح: لقد زاد عدد الدول «العربية»، وزاد عدد أصواتنا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزاد مهرجان الأعلام الوطنية علماً، صحيح أنه لن يكون عربياً صافيا، لكنه علم يشابه بزركشة ألوانه الأعلام العربية… وهذا يكفي: من قال إن المضمون أهم من الشكل؟

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version