طلال سلمان

مع الشروق ## مسؤولية شعب مصر في انتخاب رئيس المستقبل العربي

تتركز الأنظار الآن، عربياً وإسرائيلياً ودولياً، على مصر. يتابع الجميع حراكها الثوري، بإنجازاته وإخفاقاته واضطراب سياقه نتيجة الضغوط المتقابلة والمتوازنة، وهي ثقيلة بتأثيرها على الداخل.
صارت «معركة اختيار» الرئيس هي عنوان الصراع بين مختلف القوى السياسية في الداخل، والقوى الخارجية التي تحاول تمويه تأثيرها وضغوطها بعناوين داخلية، بينها الدين والاقتصاد والأحوال الاجتماعية.
ولأنها المعركة الأولى التي لا سابق لها فلا تقاليد تحكم الصراع بين المرشحين ولا مرجعيات فكرية وسياسية يمكن القياس عليها إلا التاريخ الشخصي لهذا المرشح أو ذاك… خصوصاً أن بين المرشحين من يتقدم باسم حزبه الذي لا يمكنه الادّعاء انه يمثل المصريين جميعاً، وبينهم من يتقدم باسمه الشخصي وليس له من تاريخه ما يمكن اعتباره برنامجاً، وإن تمايز المرشحون – في نظر الناخبين – بما يحفظون لهم من مواقف إزاء النظام الدكتاتوري الذي أسقطته الثورة.. لكنه تمايز لا يرقى إلى مستوى قطع الشك باليقين.
الصورة لا تكفي هوية للمرشح، لا هي وعد بالالتزام بالمبادئ والشعارات التي نادت بها الثورة، ولا هي تصلح عنواناً لبرنامجه، خصوصاً أن العديد من المرشحين كانت لهم مواقعهم في النظام الذي عجل فساده في تفجير الثورة لإسقاطه، يستوي أن يكون «موظفاً» يعمل بالأمر، أو حليفاً اضطرارياً جيء به في لحظة دقيقة لتخطي مأزق أو لتمويه سياسة منحرفة.
وفي الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، يتابع الجميع – ومن داخل الاضطراب السائد في دنياهم – معركة الرئاسة في مصر، بقلوبهم وأفكارهم، بتمنياتهم ومخاوفهم وقلقهم على المصير في أقطارهم المهدد معظمها بحروب أهلية، يحمل بعضها نذر «الفتنة الكبرى» مجدداً.
بعضهم من يتابع من قلب خوفه على مصر، وبعضهم يتابع وهو خائف من مسار التطورات في مصر وتأثيراتها المحتملة على نظامه الذي كان حليفاً للمخلوع في مصر وظل معه حتى اللحظة الأخيرة، ثم حاول بعد سقوطه أن يمنع محاكمته، وأن يطوق شباب الميدان بحملة الشعار الإسلامي وبتردد الجيش في الحسم وخوفه من اتهامه بمصادرة الثورة وخشيته من أن تمس الثورة امتيازاته وموقعه في النظام الجديد.
إنها لحظة ولادة جديدة، تعاظمت فيها الضغوط، وتفاقمت فيها الالتباسات، وغالباً بقصد مقصود، حتى يسود الغموض وتتداخل الألوان وتتماهى الآراء والأفكار فيضطرب القرار في غياب اليقين… وكل ذلك ليس في مصلحة الثورة ولا مصر ـ الغد.
بالمقابل هي، بالافتراض، نقطة نهاية لمرحلة يريد المصريون أن يطووا صفحتها، بقدر ما يريدون أن يستشرفوا غدهم الجديد، عبر القادرين والمؤهلين والمزودين بأفكار ومبادئ وثوابت وقواعد تؤسس للدولة الجديدة، وتمكن وحدة الشعب، وتفتح باب المستقبل الأفضل.
فمعركة الرئيس الجديد تلخص معركة الدولة الجديدة بهويتها ودورها.
إنها ذروة المعارك السياسية التي دارت على امتداد عام ونصف قريباً في ميادين مصر بعاصمتها ومدنها الكبرى وأريافها وصعيدها: فهي ستحدد المسار إلى الغد الأفضل، بالتمييز بين الأخ الشقيق والصديق، بين العدو والحليف، وهي التي سوف ترسي ركائز العلاقات بالمبادئ والمصالح الوطنية العليا. وهي هي التي ستؤكد الهوية عبر تحويلها هتافات الجماهير في الميدان إلى سياسات مؤهلة لتحقيق الشعارات المرفوعة.
هي، في التمني، ذروة القطع مع نظام الطغيان وتحالفاته، بحماته وصداقاته وارتباطاته.
وهي، بالمقابل، المدخل إلى توضيح معالم النظام الجديد، نظام الثورة وسياساته، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
لقد تم القطع، بين زمان الثورة ومجتمعاتنا، منذ عهد بعيد.
بل إن فكرة الثورة قد تم تشويهها من خلال ربطها بأشخاص أو بأحزاب قدمت نموذجاً رديئاً عن أداة التغيير.
فمع سقوط الاتحاد السوفياتي تم تشويه الكثير من القيم والأهداف العزيزة على قلوب الناس، وتم تسفيه كل ما يتصل بالاشتراكية وتمت تزكية مجانية للنظام الرأسمالي. صار النظام الاميركي بكل تقاليده وشعاراته وتطبيقاته العملية هو النموذج وهو الهدف المرتجى.. حتى إذا جاءت «غزوة» أيلول» التي ارتكبها عتاة المتطرفين الإسلاميين في تنظيم القاعدة فرض على المسلمين عموماً، وبينهم العرب، ان يقبعوا في موقع المتهمين وصار الطريق لإثبات براءتهم من الإرهاب أن يبتدعوا نسخة جديدة من الإسلام تقرها وتعتمدها الإدارة الاميركية.
ومع التنويه بالأسلوب الحضاري الذي اعتمده الإعلام المصري، الفضائي تحديداً، بشقيه الرسمي والخاص، في المناظرات بين المرشحين، فلا بد من الإشارة الى اللمسة الاميركية فيها.. بدءاً بالعلم الوطني على صدر المرشح، مروراً بالتشابه المقصود مع المناظرات بين المرشحين للرئاسة في الولايات المتحدة الاميركية.
بالمقابل فلا بد من التوقف أمام الهجوم المضاد الشامل على الثورة، بشعاراتها الأساسية، وعلى حملة هذه الشعارات أو المنادين بها، حتى من قبل أن تكتسح الميدان: لقد استخدم الهجوم المضاد الأسلحة جميعاً، التقليدي منها والاستثنائي، بما في ذلك «القدس» وأولها الشعار الديني، سلفياً أو بصياغاته الحديثة.
وللشعار الديني من يموله ويرعاه، ومن يسلحه ويساعد على تنظيم أتباعه، سلفيين ومحدثين.
ثم هناك الضغط الاقتصادي، وهو الأعظم تأثيراً على القرار السياسي.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا الضغط قد شمل جبهات ثلاثاً: الولايات المتحدة الاميركية ومعها إسرائيل، ثم أهل النفط العربي.
وإذا كانت حركة إسرائيل مكشوفة، برغم أنها حاولت جاهدة الاحتجاب وعدم الظهور على مسرح التطورات، حتى إنها «تواضعت» في رد فعلها على قرار وقف تصدير النفط والغاز إليها، فإن الولايات المتحدة لم تتورع عن التلويح بوقف المساعدات (وهي تخص الجيش أولاً وأساساً) وعن المضي في معركة الجمعيات الأهلية إلى النهاية، فارضة التراجع عن أحكام قضائية ضد بعضها، وبطريقة فظة.
بالمقابل، فإن أهل النفط العربي قد لعبوا ورقة المساعدات الاقتصادية، بما في ذلك القروض التي كانوا قد تعهدوا بتقديمها لمصر، قبل الثورة، ثم جددوا التلويح بها، لضمان وقف محاكمة حسني مبارك أو إرجائها إلى ما بعد معركة الرئاسة وكان لهم ذلك.
هل يمكن التغاضي عن اندفاع أهل النفط إلى تحويل مجلس تعاونهم إلى اتحاد، ولو كونفيدرالياً، في هذه اللحظة بالذات، وموقعه في سياق الضغوط التي تمارس على حركة التغيير التي تجتاح الأرض العربية وتسقط الأنظمة الدكتاتورية، ولو كانت «جمهورية».. فالطغيان واحد، ملكياً كان أم جمهورياً.. والنظام العربي الذي كان قائماً قبل تفجر الأرض العربية بالانتفاضات تبدى كالبنيان المرصوص يساند بعضه بعضاً، لا فرق بين الجمهوري فيه والملكي، بين السلطاني والأميري.
إن أهل النفط يتصرفون بمنطق: نحن الأغنى والأقوى.. أما الآخرون، فننأى بأنفسنا عنهم بذريعة إيران وادّعائها «فارسية» الخليج. هنا، في مواجهة إيران نحن العرب. أما مع «العرب» فهم الفقراء رعايا الجمهوريات، دعاة القومية والاشتراكية والعلمانية وغيرها من شعارات الكفر. معنا الاميركان والغرب كله وإسرائيل ضمناً. فما لنا بهؤلاء الفقراء القائلين بالثورة والذين يريدون تهديم الاستقرار ونشر الفوضى في المنطقة كلها.
ضمن هذه الخطة يندرج هذا التبني العلني، بالمال والسلاح والتحريض على العنف في سوريا، بذريعة مواجهة النظام الدكتاتوري وشراسته الدموية في التصدي لمعارضيه.
ضمن هذه الخطة تندرج الحملة على حكومة العراق ومحاسبتها على الانتماء الطائفي لرئيسها وليس على سياساتها، مع التجاهل التام لهوية رئيس الدولة، والأخطر: مع التغاضي عن الحركة الانفصالية للشمال (الكردي).
أما في البحرين، فالحملة تتركز على المعارضين وليس على النظام، وتطرح التبريرات المذهبية علناً… بل يصل الأمر إلى حد المناداة بالوحدة بين «المملكة الصغيرة» و«المملكة الأم» ـ السعودية، بذريعة حماية عروبة البحرين التي حماها شعبها على الدوام، وأبرز المحطات كانت في الاستفتاء الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة في العام 1971، والذي حسم شعب البحرين موضوع هويته العربية رافضاً الالتحاق بإيران.. وكان فيها الشاه الذي عامل حكام تلك المنطقة جميعاً بوصفهم بدواً متخلفين، لا يستحقون أن تكون لهم دول وكانوا يتقبلون منه تلك المعاملة.
[[[[[[
نعود إلى مصر بوصفها معركة الغد العربي في كل الأرض العربية وليس لأبنائها في ارض الكنانة وحدهم.
ومع الوعي بأن الظروف السائدة، لم تمكن شباب الميدان من استكمال ثورتهم، نتيجة النقص في جاهزيتهم لاستلام السلطة، وتضاؤل قدراتهم المادية، وضعف تنظيماتهم الشبابية، فإنهم يملكون السلاح الأقوى: أصواتهم، لنصرة المرشح الأقرب إلى مبادئهم وأفكارهم وطموحهم إلى مستقبل أفضل.
ويتمنى العرب، خارج مصر، ان ينتصر وعي الناخب المصري على الخدع البصرية وعلى الضغوط المادية والمعنوية، فيحسن اختيار مرشحه للرئاسة. انه إنما ينتخب بصوته رئيس الغد الأفضل.. وهذه مسؤولية جسيمة سترسم معالم المستقبل العربي جميعاً.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version