طلال سلمان

مع الشروق ما بعد سقوط الجمهوريات الأمنية وما قبل انتصار الثورات

من تونس الى اليمن تتهاوى هياكل بعض «الجمهوريات» العربية التي غالباً ما قامت في أعقاب ثورات شعبية، أخطرها حالة مصر، أسقطت أنظمة طغيان ملكية كانت تحبس شعوبها في ظلام جاهلية القرون الوسطى، فتمنع عنها الشمس والهواء وأسباب التقدم.
اليوم يتكرر المشهد، وان بملامح عصرية، فتندفع الشعوب الى الشوارع وتتلاقى جماهيرها في الميدان، تواجه الدبابات ورصاص «البلطجية» أو «الشبيحة»، مطالبة بإسقاط النظام الذي يأخذ من «الجمهورية» شكلياتها بينما مضمونه كما ممارساته تتجاوز الملكية الى دكتاتورية الفرد أو القبيلة أو الطائفة، أو كل ذلك معاً مصفحاً بالحماية الأجنبية، أو باللعب على التناقض في المصالح الدولية.
يصبح مشروعاً والحال هذه أن يطرح العرب على أنفسهم سؤالاً طريفاً: هل عرفنا، حقاً، النظام الجمهوري؟
يستولد السؤال – المفتاح أسئلة تفصيلية ولكن لها الأهمية ذاتها:
هل مارسنا الديموقراطية بأي من أشكالها، سواء في الأنظمة الملكية أم الجمهورية؟
هل عرفنا حقاً الانتخابات التي يختار فيها الناس نوابهم وممثليهم في البرلمان أو حتى في البلديات؟
هل اكتفى أي رئيس جاءت به المقادير، أو فاز عبر اقتراع شعبي بولاية واحدة أو باثنتين، حتى لو مدد الولاية من أربع الى سبع سنوات؟
إن نماذج الرؤساء الذين أسقطتهم الثورات، أو هي تتهددهم بالسقوط، تدل على أن معظمهم قد حكم بشخصه، أو بالوراثة، لمدة قد تنقص قليلاً عن نصف قرن ولكنها تتجاوز بالتأكيد ربع القرن!
بل ان بعض هؤلاء قد حكم لمدة تزيد عن عهد أي من الملوك الذين تصادف أن كانوا في زمانه، وبعضهم قد «استهلك» أكثر من ملكين أو ربما ثلاثة، وهو يجد لنفسه ولايته التي لم تكن تنتهي إلا بالموت أو بالخلع.
الفارق الأساسي هو أن الملوك يحكمون باسم الحق الإلهي معززاً بالسيف والدينار، في حين أن رؤساء الجمهوريات الذين يصلون الى العرش بالانقلاب العسكري غالباً، يحكمون ثم يمددون ولاياتهم بقوة «الإرادة الشعبية» وعبر استفتاءات تعلن نتائجها قبل إجرائها لأن السيف وحده صاحب… الأصوات!
بل ان المعادلة الجمهورية تتجاوز المعادلة الملكية، كما دلت تجارب تونس ومصر وكما ستدل تجارب أنظمة أخرى، فالسيف للرعايا، أما الدينار فهو حق حصري للسلطان، وليس من حق أحد أن يحاسبه وذريته الصالحة وأعوانه المخلصين… وما همّ أن يعيش الشعب فقيراً. إنه فقير منذ دهور وهو قد تعود أن يستعين على فقره بالصبر وبالدعاء، توكيداً لعميق إيمانه.
الأخطر أن الأنظمة الجمهورية القائمة على قاعدة «الرئيس مدى الحياة» ونجل الرئيس هو الرئيس المقبل بالاستفتاء المنظم تعبيراً عن الديموقراطية الشعبية، قد فرضت على مجتمعاتها التخلف الى ما قبل الأنظمة الملكية أو الإمامية.
كثير من المجتمعات العربية أعيدت – بالسيف – الى البداوة الجاهلية. لقد فسخت الدكتاتورية وحدة المجتمع وأعادته الى مكوناته الأصلية. مزقت الروابط المدينية، وأعادت الاعتبار الى الطائفية والمذهبية والنسب القبلي، وريفت المدن بحيث تقاسمت أحياءها الجماعات المستقدمة من الأرياف لتسند صاحب السلطان في مواجهة البرجوازيين والذين يعملون لإفساد المجتمع وتشويه تقاليده العريقة بتقليد أشوه للغرب حيث الانهيار الخلقي والخروج على القيم!
تختصر الجمهورية بشخص الرئيس. ولان حماية الرئيس هي قاعدة الحكم يصير الأمن هو الأساس. يشحب دور الجيش الذي مع انتفاء القضية أو مع طمسها، يتحول الى قوة إسناد للأمن، في حال الضرورة… وهكذا يصير طبيعياً أن ترتفع أعداد المنتسبين الى الأجهزة الأمنية، بما في ذلك المباحث وأمن الدولة، وأن تزيد قدراته عن أعداد القوات المسلحة (الجيش) وعن قدراتها… ما دام قد أسقط العدو – الوطني والقومي – من الحساب، استناداً الى «تفاهمات دولية» أو معاهدات صلح غير متكافئة تفرض سلاماً بالأمر، وضمانة الدول. فلماذا الجيوش الجرارة بالدبابات والطيران والبحرية وأسلحة البر التي طالما كانت مصدر خطر على النظام بشهادة القائم بالأمر التي استخدمها للوصول، ويفرض عليه الحد الأدنى من بعد النظر أن يلغيها حتى لا يستخدمها غيره ضده!
خلاصة الأمر: ان العرب لم يعرفوا بعد، النظام الجمهوري.
لقد عرفوا رؤساء يتجاوزون بصلاحياتهم وبمدة تربعهم فوق سدة الحكم الملوك والسلاطين..
لكنهم لم يعرفوا كل ما هو بديهي في النظام الجمهوري كما يطبقه الكفرة في سائر أنحاء الدنيا!
الجمهوريات العربية هي أنظمة ملكية مشوهة! فكيف بالجماهيرية التي ابتدعها «الأخ العقيد» في ليبيا لتكون استثناء فريداً في بابه لا مثيل لها ولا شبيه في أربع رياح الأرض؟
بداية، اصطنع الرؤساء الذين وصلوا الى سدة الحكم، أحزابا أو هم استخدموا التراث المحفوظ لأحزاب كان لها دور تأسيسي ذات يوم، فأبقوا لافتاتها على أبوابهم ومشوا الى الملكية مطمئنين الى متانة القناع وتاريخيته. ولأنهم يحكمون باسم أحزاب تموه مصادر سيطرتهم، عسكرية أو قبلية أو طائفية أو مذهبية، فمن الطبيعي أن يصادروا العمل الشعبي باسم حزبهم، فإن كان لا بد من وجود أحزاب أخرى فعليها أن تنضوي تحت عباءة الحزب القائد، وإلا فالسجن يتسع لها جميعاً.
ولان الرئيس هو الوطن يصبح منطقياً أن يكون الوطن، بأرضه وبحره، مُلكاً للسيد الرئيس الخالد والأبدي. حزبه هو الحزب الحاكم، وكلمته الدستور، والقانون رهن بحركة أو إيماءة من رأسه بالرفض أو القبول.
..ولأن النظام جمهوري فلا بد من برلمان. والديموقراطية واسعة المدى، لذلك يحتشد في أفيائها الازلام والمخبرون والمرتزقة، وإن ظل قيادها في أيدي نخبة مدربة، تعرف كيف يخدم التشريع السلطان.
أما الحكومة فأمرها هين: لرئاستها واحد من الأتباع المخلصين الذي يفهم بالإشارة، أما الوزراء فخليط من الانتهازيين والامعات وأصحاب أسماء لامعة لكنهم بلا هوية. هي أشبه بالديوان الخاص للسيد الرئيس. تستمع منه الى رغباته ورؤاه الإصلاحية الباهرة فتنفذها بلا نقاش. فإن تصادف أن وقع خطأ فدخل جنة الوزارة صاحب رأي أو صاحب فكر مختلف فسرعان ما تشن عليه الصحافة المملوكة للسلطان حملة تشهير قاسية تجعله يختفي من الحياة العامة، هذا اذا ما ترأف به السلطان فلم يحاكمه بتهمة هدر المال العام.
الحكم للحاكم. أما أداة الحكم فهي»الأجهزة» التي تتعدد وتتوزع المهمات: بعضها للتنصت، وبعضها لشراء المعارضات أو تدجينها بوسائل إقناع مبتكرة، وبعضها للهجوم المسبق على العناصر التي من المحتمل أن تكون خطرة على النظام. والقاعدة الثابتة: ان يراقب كل جهاز الجهاز الآخر، وان يفيد الرئيس – السلطان من وشايات قادة الأجهزة على بعضهم البعض.
هكذا يتحول كل «مواطن» الى «مخبر» على أهله، حزبه، الجمعية الثقافية التي هو فيها، الإدارة التي يعمل فيها… يصير الشعب جمهوراً من المخبرين يتبادلون الوشايات فتفسد الحياة العائلية والصداقة والزمالة… ويطمئن «السيد الرئيس» الى إخلاص شعبه الوفي، فينام ملء جفنيه!
[[[[[
ليست إقامة النظام الجديد مهمة سهلة: فلا أسس النظام القديم تصلح. وليست الدولة المخربة من داخلها قادرة على النهوض بعبء تجديد ذاتها، ولا التشريعات والقوانين التي شرعنت الفساد وحمت الانتهاكات وبررت الفساد تصلح قاعدة لبناء العهد الجديد.
ثم انه من المستحيل أن تبدأ من الصفر، فثمة إدارة يجب أن تعمل، وثمة مصالح للوطن وشعبه يجب أن تصان، وثمة الملايين بحاجة الى الخبز والخدمات العامة يجب أن تلبى، ولا مجال لفترة سماح..
هذا قبل أن نتطرق الى «الدول» ومصالحها التي قد ترى في النظام الجديد تهديداً لها.
وها نحن أمام مشهد فريد من نوعه: الممالك تحاول شراء الجمهوريات عن طريق استغلال حاجتها الى «العملة الصعبة»، أو الى توفير فرص عمل لأبنائها الكثر الذين يستحيل عليها أن توفر لهم مجالات كافية لاستيعاب أعدادهم الهائلة، بينما هي تحاول ترميم الإدارة المنهارة، ومنع التخريب في المنشآت العامة واستعادة الأموال العامة المهربة أو المخفية في انتظار فرصة لتهريبها.
لقد انهالت الوعود على الجمهوريات المستولدة حديثاً بعشرات المليارات من الدولارات. لكن الوعود هي الوجه الظاهر، أما الوجه المعتم فهو شروط منح هذه المليارات، وهي أوضح من ان تحتاج الى شرح: أعطونا في الموقف السياسي فنعطيكم في الاقتصاد!
والترجمة البسيطة: أعطونا الثورة نساعدكم في بناء الدولة الجديدة.
وفي علاقات الدول: لا تبرعات ولا هبات ولا صدقات.
إنه موسم شراء الثورات التي أسقطت الجمهوريات الملكية، والتي تباشر طريقها الصعب والمليء بالألغام لبناء جمهوريات الشعوب.
والمهمة نبيلة، وتستحق كل تضحية تبذل من أجلها.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version