طلال سلمان

مع الشروق ## « لبننـة» الوطـن العربـي كمحميـات إسـرائيليـة: العراق نموذجاً لدويلات الطوائف والمذاهب والعناصر غير المتحدة!

في حين كان اللبنانيون يأملون في أن يساعدهم إخوانهم العرب في تحويل «كيانهم» السياسي المهدد دائماً في وحدته الى «دولة» منيعة تقدم المثال والنموذج الناجح للانتصار بالعروبة الموحدة على الانفصالية بذريعة اختلاف الانتماءات الطائفية والمذهبية، فإنهم يتجرعون الآن مرارة انتشار «اللبننة»، مدمرة «الدول» ووحدة الشعوب الشقيقة من حولهم، بدءا بالعراق وصولاً الى اليمن، بغير أن ننسى السودان وما جاوره.
وبالتأكيد فإن اللبنانيين كانوا الأكثر اضطراباً بين العرب وهم يتابعون مجريات اللعبة السياسية في العراق تحت الاحتلال الاميركي، وهي تدفع الى التوغل داخل أسباب الشقاق او الافتراق او الاختلاف العنصري والطائفي والمذهبي… فهم كانوا يدركون ـ بالوعي كما بغريزة الخوف على المصير ـ ان وطنهم الصغير سيعاني من نتائج هذه المقامرة بوحدة العراق ككيان سياسي، وبوحدة شعبه التي صمدت لهزات كثيرة وخطيرة تحت حكم الطغيان، الذي أورث ارض الرافدين للاحتلال الاميركي بغير قتال. فتفتيت العراق على قاعدة طائفية ـ مذهبية ـ عنصرية سيكون، إذا ما نجح ـ لا سمح الله – قاعدة التعامل مع الأقطار العربية الأخرى، التي تعاني شعوبها من طغيان حكامهم الذين لن يتورعوا عن ضرب وحدة البلاد بذريعة حماية أنظمتهم الدكتاتورية من السقوط في الفوضى الدموية.
ها هي، إذن، مرحلة جديدة تبدأ في العراق متمثلة في إعادة تجميع النثار والمزق المبعثرة لبناء دومينو جديد من المربعات والمثلثات والمكعبات تحت لافتة الوحدة الوطنية المزركشة بأعلام الاحتلال الاميركي والنفوذ الإيراني والتودد التركي، وحرص بعض النظام العربي تحت مظلة المبادرة الكردية التي أزاحت المبادرة السعودية، بعدما اعتبرتها «الأكثريات»، المدخل الى تسوية ستليها تسويات عديدة ودائماً على قاعدة: ما لا يقبل كله لا يترك جله!
لقد تطلبت صياغة هذه التسوية الهشة ثمانية شهور طويلة من المناورات والمؤامرات والتحالفات ـ طبيعية ومصطنعة ـ و«الخيانات» وتواطؤ الحليف على حليفه مع خصمه، ودائماً تحت مظلة الطرفين الأقوى: الاحتلال الاميركي والنفوذ الإيراني الواسع.
المبادرة كردية، ومنطلقها اربيل- عاصمة إقليم كردستان الذي صار «الدولة الوحيدة على الأرض العراقية» بفضل الخلافات المحتدمة بين الأطراف العربية، وبطلها «الرئيس» مسعود برازاني الذي يرفض أن يزور أية دولة عربية لا ترفع في استقباله علم «دولته». ولقد نصرتها التزكية الاميركية على المبادرة التي أطلقها – متأخراً- ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز، فكان طبيعياً ان تكون المكافأة تثبيت حق الأكراد في رئاسة الجمهورية، وهو ما أقره المجلس النيابي الذي تعذر انعقاد جلسته الأولى طيلة ثمانية شهور تلت الانتخابات بسبب الخلاف على توزيع مناصب الديموقراطية طائفياً ومذهبياً وعنصرياً. أما الوجه الأخر من الصفقة، فتمثل في التسليم برئاسة الحكومة لنوري المالكي الذي شكل نقطة تقاطع بين مصالح «الخصمين» المتنافسين الاميركي والإيراني.
وكان بديهياً ان يغضب زعيم «القائمة العراقية» أياد علاوي الذي نجح في استقطاب «السنة» في الانتخابات النيابية فجمع 75 مرشحاً منهم الى جانب 14 من الشيعة، وهكذا صار في مركز قوة استثنائي، لكن المصالح الاميركية العليا فرضت استبعاد هذا «الصديق» الذي كان حظي بتأييد العديد من أهل النظام العربي، وعلى قاعدة مذهبية، لحساب خريج «حزب الدعوة» نور المالكي.
لا بد من مخرج اذن: وهكذا ابتكرت العبقرية الاميركية منصب «المجلس الأعلى للسياسات الاستراتيجية» وقررت أن يكون علاوي رئيسه وأن يضم سبعة عشر عضواً بينهم رئيس الحكومة، الذي يغدو في هذه الحالة واحداً من مجموع وليس صاحب قرار… ثم انه يكون «مرؤوساً» وليس حاكماً بأمره كما كان خلال السنوات التي تقضت عليه في رئاسة الحكومة. ولأن الصيغة لم تكن واضحة تماماً، وخوفاً على إفشال الصفقة الأولى( الكردية)، عمد جلال الطالباني وفور إعلان «فوزه» برئاسة الجمهورية لولاية ثانية، الى إعلان اسم المالكي رئيساً للحكومة، استباقاً للمشاورات، وبذريعة تنفيذ البند الثاني من مبادرة اربيل. ولتأكيد الجدية، استدعي علاوي والمالكي ومسعود برازاني الى منزل السفير الاميركي المحروس جيداً في المنطقة الخضراء من بغداد… وهناك أمكن للرئيس الاميركي الأسمر ذي الجذور الإسلامية باراك اوباما، ان يهاتف أياد علاوي وأن يتعهد له بأن يكون المجلس الأعلى للسياسات مصدر القرار بضمانة اميركية مباشرة، تأخذ في الاعتبار إمكان اعتراض إيران ومن معها.
ها هو النموذج اللبناني، الذي استولد حروباً أهلية لا تنتهي في الوطن الصغير، يعتمد في دولة عربية ثانية، كانت قوية فضربها الطغيان ثم دمرها الاحتلال الاميركي الذي يتعهد الآن بإعادة بنائها ـ بالاشتراك مع قوى إقليمية ـ حاملة في داخلها أسباب انهيارها: رئاسة الجمهورية لكردي (سني)، رئاسة الحكومة لعربي (شيعي) رئاسة مجلس النواب لعربي (سني) مع نائبين احدهما عربي (شيعي) والثاني كردي (سني)، رئاسة المجلس الأعلى للسياسات (شيعي) وزارة الخارجية لعربي (سني) وهكذا دواليك بحيث تنتفي وحدة العراقيين كشعب، وتنتفي عروبة العراق ككيان سياسي، اذ تعتمد الثنائية العربية ـ الكردية، وقد تضاف اليها التركمانية والآشورية، فيصير بلا هوية محددة، وتصير لأقلياته الكلمة العليا… ودائماً مغلفة بنفوذ خارجي مؤكد، سيظل مصدر القرار، وإلا.. فالحرب الأهلية!
ومع التمني بأن تنجح هذه الصياغات المرتبكة في استنقاذ وحدة الكيان العراقي فإن المخاطر الانفصالية ما تزال تتهدد وحدة هذا البلد العربي الغني والذي كان معقد آمال العرب لتوفر أسباب القوة فيه، فتوافق الطوائف على تقاسم الغنائم (مناصب ومواقع نفوذ) ليس الطريق الى الوحدة الوطنية، خصوصاً أن الأكراد ـ على سبيل المثال ـ قد نالوا «حصتين»: واحدة باسم اختلاف العنصر، والثانية بوصفهم «سنة»، وقد يرى بعض العرب السنة في ذلك ظلماً لهم لأن «شريكا مضارباً» قد اقتطع بعض حصتهم، بينما قد يرى بعض العرب الشيعة في هذه المحاصصة افتئاتاً على «حقهم» إذ ينال «السنة» واحدة باسم الأكراد وثانية باسم العرب مقابل حصة واحدة لهم!!
كذلك فأن «استقلال» الكرد بإقليمهم في الشمال مع استمرار مطالبتهم بمنطقة كركوك ـ التي تضم مجموعات من الأقليات العربية والكردية والآشورية والتركمانية ـ تنبه «عرب العراق» الى ان إخوتهم الأكراد يطمعون بنفط كركوك الذي قد يعزز فيهم النزعة الانفصالية، آذ تنتفي حاجتهم الى الدولة المركزية التي يفترض ان تكون الثروة الوطنية في يدها وأن تتولى رعاية المناطق والأطراف جميعاً بعدالة مطلقة تفرضها شراكة المصير.
وقد يجد كرد العراق النموذج المرتجى في تجربة جنوب السودان الذي يحظى التوجه الانفصـالي فيه برعاية دولية واسعة، بعنوان أميركي، ووسط غفلة عربية شــاملة تكــتفي بمــتابعة ما يجري على الأرض والتحسر على ماضي الوحدة التي قــصّر أهلها في حمايتها فانهارت متســببة في تمزقات مؤلمة للشــعب الذي كان واحداً، وفي اندفاعات جنوبية حمقاء الى شيء من التحالف مــع إسرائيل.
هي مرحلة تشطير الدول العربية الى كيانات متخاصمة، بل وقد تتحول الى كيانات محتربة، ومع الانشطار تدخل إسرائيل الى كل كيان جديد على حصان ابيض محققة انتصاراً مجانياً على العرب جميعاً بعنوان فلسطين التي سيكــون عليها ان تدفع ثمن هذا التشطير، إضــافة الى ما تدفعه قضيتها فوق أرضها من خسائر، وبالدم القاني.
إن «اللبننة» هي، في البداية والنهاية، انتصارات إسرائيلية مجانية.. فكل قطر عربي ينشطر على قاعدة طائفية او مذهبية او عنصرية إنما يوفر ذريعة جديدة للمنطق العنصري الإسرائيلي الذي وصل ذروة تبجحه بإعلان إسرائيل «دولة يهودية ديموقراطية».
من يضمن وسط هذا الانحطاط المخيف الذي قاد اهل النظام العربي الأمة ـ بأقطارها جميعاً ـ اليه من ان لا تقوم غداً «الدولة الشيعية الديموقراطية» و«الدولة السنية الديموقراطية» في العراق مثلاً الى جانب «الدولة الكردية الديموقراطية» و«الدولة الشافعية الديموقراطية» الى جانب «الدولة الزيدية الديموقراطية» في اليمن، ثم «الدولة البربرية الديموقراطية» في الجزائر او في المغرب، الى جانب دويلات أخرى بهويات مذهبية او عنصرية أخرى، تموههها جميعاً ادّعاءات الديموقراطية طريقاً الى تفتيت الأمة التي كانت تسعى الى وحدتها السياسية فتمت ـ او تتم الآن ـ بعثرتها وتمزيقها طوائف ومذاهب وعنصريات ـ بحيث تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة… وربما غدت في المستقبل «الدولة المركزية» لجميع الأقوام المبعثرة والمقتتلة في هذه الأرض الغنية بثرواتها والفقيرة بقياداتها السياسية؟!
في ظل هذا التمزق العربي كيف يمكن وقف الجهد الإسرائيلي الحربي والمدني المعزز بالتأييد الاميركي المفتوح لأن تكون «دولة يهود العالم» الديموقراطية!! هي الدولة الوحيدة في هذه المنطقة التي تتوزعها الطوائف والمذاهب والعناصر والعشائر والقبائل، حتى لا ننسى الأردن المهدد كيانه ـ المصطنع أساساً ـ بأن يصبح الملجأ الجديد لموجات الفلسطينيين الذين لن يستطيعوا إثبات «ولائهم» للدولة اليهودية الديموقراطية التي قامت على أنقاض وطنهم، في ظل رعاية اميركية شاملة وصمت عربي هو نوع من التواطؤ الفعلي.
وها هي الانتخابات النيابية الأخيرة في الأردن قد اتخذت طابعاً عشائرياً فجاً، وجهه الآخر يمثل اندفاعاً في العنصرية المعادية للفلسطينيين الى الذروة، ودائماً بذريعة الخوف من قدوم الفلسطينيين الذين سوف تطردهم إسرائيل ( ديموقراطياً) اليه لكي ينافسوا أهله الأصليين.
وهكذا، فإن أهل النظام العربي يهربون الى النموذج اللبناني بدلاً من ان يخافوا منه على دولهم التي لم يعرفوا كيف يصونون وحدتها ومنعتها فباتت في مهب رياح الانفصال والتبعية لإسرائيل بوصفها الوكيل المحلي – بل الشريك المحلي للهيمنة الاميركية.

[ ينشر مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version