طلال سلمان

مع الشروق قراءة «لبنانية» لبيان بان كي مون ومهمة موفده «الإسرائيلي» لارسن..

في أواخر صيف العام 2006، جاء الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون الى لبنان، لأول مرة، لكي يعاين على الأرض نتائج التدمير المنهجي لأسباب العمران الذي اعتمدته إسرائيل في حرب تموز ـ يوليو ـ التي امتدت وتمددت طوال ثلاثة وثلاثين يوماً بلياليها على اللبنانيين ودولتهم، فصمدوا أمامها وأفشلوا أهدافها.
بعد الاستقبال الرسمي في المطار انتقل السيد بان كي مون في موكب رسمي الى واحد من فنادق الدرجة الأولى يقع على الطرف الجنوبي للعاصمة بيروت… وبعد استراحة قصيرة في الصالون، تولى مدير الفندق اصطحاب الضيف السامي الى جناحه الخاص، وحين دخلاه أزاح الستائر فتبدى منظر الشاطئ جميلاً مع انعكاس الأضواء على حركة الموج مستولدة مهرجاناً من الألوان الراقصة.
تأمل بان كي مون المنظر مبهوراً ثم التفت الى مدير الفندق يسأله: هذا المحيط الأطلسي.. أليس كذلك؟
صعق المدير، ولكنه أقنع نفسه بأن الأمين العام للمؤسسة الدولية العريقة إنما يمازحه أو انه يمتحن معلوماته الجغرافية… وعاد يستوضح: عفواً؟! لم أسمعك تماماً..
كرر بان كي مون سؤاله: المنظر ممتع، ولقد سألت فقط ان كنا عند الشاطئ الآخر للمحيط الأطلسي..
قال مدير الفندق بشيء من الحزن: لا يا سيدي، إنك في بيروت على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط!
في اليوم التالي كانت هذه الحكاية تسبق الأمين العام الى مختلف لقاءاته الرسمية في بيروت، محددة «سقف الكلام» مع هذا الموظف الدولي السامي الآتي لمعالجة ذيول حرب إسرائيلية مدمرة على بلد يشاطئ المحيط الأطلسي!
استعادت بيروت وأهل الرأي فيها هذه الحكاية وهي تقرأ البيان الاستثنائي في خطورة العبارات التي صيغ بها، والصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة، استنكاراً للمؤامرة التي دبرت ضد مصر في ليل، والتي جاء لتنفيذها ذلك المغامر اللبناني الفائق الخطورة.
ذلك أن اللبنانيين لم يسمعوا ولم يقرأوا بيانا حربياً مصاغاً بهذه اللهجة التي تتجاوز المألوف، لا في مواجهة الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، ولا خلال دهر الحروب الإسرائيلية المفتوحة على شعب فلسطين في ما أبقي له من أرضه سواء في الضفة الغربية التي تذوبها المستعمرات الاستيطانية أو في غزة المحاصرة التي لا يجد أهلها ما يكفي من الهواء لكي يتنفسوا!
أما مع إيفاد الممثل الشخصي للأمين العام السيد تيري رود لارسن الى القاهرة (وتل أبيب!!) لتقصي الحقائق عن «الشبكة الإرهابية»، فقد استقر في وجدان اللبنانيين أن «مؤامرة» ما قد نظمت في البعيد ثم أوفد هذا المبعوث الدولي لتنفيذ بعض فصولها التي لا بد أن تكون رديئة ومسيئة الى مصر والى لبنان، بل الى العرب جميعاً، والتي لا تفيد إلا إسرائيل والتطرف فيها الذي يمسك بقمة السلطة، والذي يهمه تنظيم المزيد من الاشتباكات العربية ـ العربية أو العربية ـ الإسلامية، بما يحقق المصالح الإسرائيلية… مجانا!
ذلك أن اللبنانيين قد خبروا تيري رود لارسن وعرفوا وكشفوا العديد من مناوراته، بل مؤامراته، لتأجيج الخلافات في ما بين قواهم السياسية، والأخطر: لتدمير العلاقات اللبنانية ـ السورية، باستغلال مكشوف ومفضوح لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
تيري رود لارسن في نظر اللبنانيين «عميل إسرائيلي»، وهو «محرض كفؤ» على الفتنة، ثم انه تصرف منذ اللحظة الأولى لمباشرة عمله«كمتابع لتنفيذ متدرجات القرار 1559» وكأنه «طرف محلي» مخاصم للأطراف الأخرى.. حتى ان بعض المسؤولين في لبنان كتبوا الى الأمانة العامة للأمم المتحدة مطالبين بسحبه وإيفاد مندوب آخر، خصوصاً أن أطرافا مؤثرة بين القوى السياسية قد امتنعوا عن استقباله نتيجة النقص في أمانته وعدم التزامه بموجبات الحيدة وعدم التورط في الخلافات الداخلية.
وليس سراً أن الكثير من دول العالم ترفض للامين العام للأمم المتحدة أن يتحول الى ما يشبه «الموظف» التابع للإدارة الاميركية، كما ترفض ان يكون بين معاونيه من يعتبر وكأنه «عميل» لإسرائيل في هذه المؤسسة الدولية الخطيرة التي كانت ويجب أن تبقى مرجعية للشرعية الدولية تسعى عبرها الشعوب المضطهدة لنيل الاعتراف بمشروعية نضالها من أجل نيل الاستقلال وإقامة دولها على أرضها والعيش بكرامة.
[[[
لقد فرضت الرسالة ـ الإنذار التي وجهها السيد بان كي مون الى القاهرة، ومن ثم إيفاد تيري رود لارسن لتوكيد مفاعيلها (ضماناً لإشعال حريق كبير في العلاقات العربية ـ العربية ـ والعربية ـ الإسلامية) نفسها كموضوع طارئ واستثنائي في أهميته… خصوصاً أن الموفد الدولي قد تابع رحلته، بعد القاهرة الى إسرائيل، مما يجعل مهمته مكشوفة لمن أراد أن يقرأ فيفهم ما يدبر لنا، عبر النفخ في نار الفتنة باستغلال حادثة تسلل المواطن اللبناني «سامي شهاب» الى مصر، قبل شهور عديدة، في مهمة وصفها بأنها «نجدة أولية» لأهل غزة، ووصفتها القاهرة الرسمية بأنها مقدمة لمؤامرة تستهدف مصر في سيادة دولتها وكرامة جيشها وقداسة دينها الحنيف!
والحقيقة انه كثيراً ما تجاوز المواطنون العرب، من غير المصريين «حدودهم» في التعامل مع مصر، فاعتبروها أو تصرفوا معها وفيها وكأنها «دولتهم» جميعاً، وأعطوا أنفسهم حقوقاً ليست لهم، بالمعنى القانوني أو بمفهوم «المواطنة» الطبيعي… فليس هناك إلا «مصر» واحدة في هذا الوطن العربي الممتد بين المحيط والخليج الذي كلما تكاثرت «دوله» تناقصت أهميته واندثرت قيمة مواطنيه لحساب تعاظم خطورة حكامه، وتزايد النفوذ الأجنبي فيه.
وبغض النظر عن التباين في المواقف السياسية، فإن العرب ـ بمجموعهم ـ كانوا يتطلعون الى مصر بوصفها مرجعهم المعنوي، يفيدون من خبراتها وينهلون من ثقافتها ويتقوون بروحها التي طالما احتضنت أحلام التغيير.
لم يُسأل أي عربي، في أي يوم، حتى في أشد لحظات الخلاف السياسي احتداماً، عن طائفته أو حتى عن دينه، وهو يقصد مصر طالباً رعايتها أو حمايتها، فكيف اذا كان آتياً إليها دارساً أو سائحاً… أو بطلب النجدة.
وبرغم ان الزمان قد اختلف والأحوال قد تبدلت والسياسات قد تغيرت، فإن نضالات الشعب المصري وتضحياته الغوالي لا تزال تقدم المثل لكل من يجاهد من أجل تحرير أرضه المحتلة.
وفي بيوت الكثير من العرب في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين تحتل الجدران والضمائر صور العديد من الأبطال المصريين الذين جاهدوا واستشهدوا في ميادين متعددة من أجل أقطار عربية أخرى انطلاقاً من وعيهم ان العدو واحد، وان تعددت «هوياته»، إسرائيلية أو فرنسية أو بريطانية، كما حدث خلال العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956.
وفي بيوت مئات من اللبنانيين، لا سيما أبناء جبل عامل في الجنوب، صور لقادة أبطال مصريين قاتلوا في فلسطين مع شعبها ضد الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948، أو قاتلوا ضد الاحتلال البريطاني في السويس في العام 1952… واذا كان السابق هو البطل الشهيد أحمد عبد العزيز، فإن صور الشهيد عبد المنعم رياض الذي يحمل كثير من شباب هذه الأيام اسمه الذي صار أشبه بأيقونة للتبريك، تحتل مكانها في القلوب كما على الجدران.
وبالتأكيد فإن المقاومين في لبنان قد أفادوا من الدروس التي كتبها بدمائهم ذلك النفر من الفدائيين المصريين الذين سبقوا أبطال العبور الى مواجهة العدو واستكشاف مواقعه ومن ثم ضربها على طرفي قناة السويس أو داخل سيناء.
ولعل هذا السبق الى الجهاد في فلسطين عموماً، وغزة خصوصاً قد شجع بعض المقاومين في لبنان على المجيء الى مصر، لتقديم الحد الأدنى من المساعدة لشعب فلسطين في غزة في مواجهة الحرب المفتوحة التي شنها عليه العدو الإسرائيلي، بكل أسلحة التدمير الشامل والقتل الجماعي.
وربما كان تصرف هذا النفر من المجاهدين خطأ بتجاوزه الحدود والقوانين والمعاهدات المرعية الإجراء… ومن حق السلطة في مصر أن تنظر اليه على انه «تجاوز» لا يجوز السكوت عنه.
لكن هذا الخطأ لا يستحق مثل الاستنفار الشامل الذي ووجه به، فصور الأمر وكأنه غزو بالسلاح يستهدف النظام في مصر، ثم تم تضخيمه الى حد غير مقبول فتم تصويره وكأن المقصود به «تشييع» مصر، مع إعطاء التشييع معنى الخروج من الإسلام والارتداد عنه.
لقد تم الرد على خطأ ارتكبه أفراد أو حتى تنظيم سياسي «خارجي»، بجملة من الخطايا التي تحسم من رصيد مصر بأكثر مما توذي التنظيم المقصود.
فالخطأ، متى سلمنا بهذا التوصيف، كان خطأً سياسياً بالدرجة الاولى، ولم يكن من طبيعة طائفية أو مذهبية، خصوصاً أن ليس في فلسطين «شيعي» واحد، ثم ان من أخطأ لم يأت حاملاً إلا إيمانه بحق أبناء فلسطين (وهم عرب سنة) في وطنهم، مفترضاً انه بذلك يشارك إخوته المصريين موقفهم تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية.
وبالتالي فإن هذا الخطأ السياسي، على جسامته، لم يكن يستأهل مثل هذا الاستنفار الشامل الذي أظهر مصر وكأنها تحت وطأة هجوم حربي خطير يستهدف أرضها وشبعها واستقرار نظامها، والأخطر: دينها الحنيف!
وتحويل هذا الخطأ السياسي الى مشروع فتنة طائفية ليس مبالغة لا يحتملها العقل فحسب، بل انه يشكل إهانة لعقول المصريين وتعلقهم بوطنهم وبدينهم: كأنما يكفي أن يصل «مبشر» واحد ليهز يقين هذا الشعب العريق بدينه وبوطنه وإخلاصه كدولته.
[[[
قليلاً من الهدوء فلا أحد يريد الإضرار بمصر والمس بكرامة شعبها، إلا إسرائيل.
أما مسألة «التسلل» فيمكن علاجها باعتبارها خطأ تنفيذياً وليست «خطيئة أصلية» ومرتكبها كان يتمثل نفسه مصرياً يؤدي واجبه وليس غازياً تدفعه أوهامه الى افتراض القدرة على احتلال مصر.
ومصر أكبر من الانتقام، وعقلها أكثر رجاحة من أن يخلط بين عدوها وبعض «أبنائها» حتى ولو أخطأوا!
([) ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

Exit mobile version