طلال سلمان

مع الشروق قراءة عربية في الانتفاضة التونسية: الهموم المحلية تطرد السياسة من الشارع؟

السؤال الذي يطرح نفسه، في هذه اللحظة، مع فائض من التمني، على امتداد الوطن العربي هائل الاتساع: أين بعد تونس؟ ومن بعد زين العابدين بن علي؟ ومن الثالث والرابع الخ…
ذلك أن أهل النظام العربي هم في غالبيتهم من خريجي المدرسة ذاتها التي ولدت «طاغية تونس»: يكرهون التغيير، ولا يحبون تلك الفوضى التي اسمها الديموقراطية والتي تدعو الى المساواة بين من هم بالولادة غير متساوين. ثم إنهم لا يطيقون التعدد ويرونه فوضى مهلكة كذلك، فإن نظرتهم الى شعوبهم واحدة: فيها الكثير من تعالي المرجع الأعلى، ومن تكرم المحسن والمتصدق، وفيها شدة المؤدب والالتزام ر بواجب «الأستاذ» تجاه تلامذته المبتدئين… كذلك فإن فيها صرامة المدرب الذي يهيئ رعيته لكي تتقبل «الانتخابات» التي تساوي بينهم «لكل مواطن صوت»، ولتحسن اختيار ممثليها فلا تخدعها الشعارات البراقة ولا تسحبها الوعود الخلابة، الى حيث يمكن أن تؤذي نفسها عبر مصادمة النظام الجبار بالخروج على طاعة ولي الأمر.
في الأيام الأولى «لانتفاضة الصبار» التي تفجرت مع إحراق محمد البوعزيزي نفسه في بلدة «سيد بو زيد»، افترض أقران زين العابدين بن علي أن ما يجري «شغب» سينتهي حيث بدأ، وان من تحركوا هم مجموعات بسيطة من المتطرفين وقد التحق بها عدد من العاطلين من العمل والمتسكعين في الشوارع، وان كل ذلك سينتهي خلال ساعات.
أما بعد انهيار النظام وفشل آلة القمع في وقف الانتفاضة ومنع توسعها وتمددها حتى اجتاحت العاصمة، فقد توقف «الأقران» عن الاتصال ببن علي، وحاولوا الإيحاء بأنهم طالما حذروه فلم يسمع، وانه كابر وعاند ووثق أكثر مما يجب ببعض ضباط الأمن ممن تدخلت «العائلة»، أي السيدة زوجته في اختيارهم… وختموا بأن لاموه لأنه تأخر في تسديد الضربة القاضية، فسبقته الأحداث ولم يفد مسلسل التنازلات التي قدمها في منع الانهيار.
بل إن بعض من «كانوا» أصدقاء للزين ثم أنكروه لا يتعبون هذه الأيام من التشهير بزوجته وأسرتها، وبأقارب بن علي الذين أحاط بهم نفسه فصاروا حاجزاً بينه وبين «رعيته».. وبعضهم يختم شامتاً: كان عليه أن يبقي شيئاً من الأموال العامة للعامة. انه لم يشبع. وكذلك السيدة زوجته التي جعلت نفسها أمين الصندوق. لقد احتكرت الأسرتان مصادر الرزق جميعاً، لذلك لم يجد طبقة عازلة من المستفيدين من نظامه قوية ومتماسكة وذات حضور شعبي مقبول، تحميه من الغضب الذي بدأ التعبير عنه بشكل محدود ثم اتسع كما النار في الهشيم حتى اضطره الى الهرب.
أما الأكثر دهاء من أهل النظام العربي فقد عكف فوراً على دراسة ما جرى في تونس: جاء بالأفلام المصورة عن الأحداث وخريطة تنقلها في الأرياف ثم انتقالها الى العاصمة. طلب فجيء له بترجمات لما كتب في سائر أنحاء العالم عن تكتيك الانتفاضة وعن أخطاء النظام. وبرغم الشرح المستفيض عن الموقف السلبي للجيش وامتناعه عن النزول الى الشارع لقمع «تلك الزمر من المخربين»، فإنه لم يفهم تماماً سر الحقد المتبادل بين الجيش وقوى الأمن التي كان النظام يوليها شرف حمايته.
[[[[[
هل بات الجيش مكروهاً الى هذا الحد من طرف أهل النظام العربي؟
بين الوقائع التي لم تعد من الأسرار العسكرية أن أعداد قوى الأمن في مختلف الدول العربية باتت أضعاف أضعاف عديد الجيش بأسلحته المختلفة.
وليس صحيحاً ذلك المنطق التبريري الذي يقول ان نوعية السلاح الذي يمتلكه الجيش تغني عن العديد اللجب من العسكر.
الصحيح ان أهل النظام العربي قد أراحوا أنفسهم من أعباء دور المواجهة مع قوى الهيمنة، ممثلة بالولايات المتحدة وبعض الغرب.
لقد اعتبروا أن عصر الثورات والانتفاضات قد انتهى. فالمستعمر القديم قد خرج ولن يعود، والهيمنة الاميركية تأتي بالطلب مستبقة الفرض، ثم انها غير منظورة بمعنى أنها لا تطلب قواعد عسكرية بل مجرد «تسهيلات» في البر والبحر والجو، وعبر «التنسيق» مع الجيوش الوطنية، التي فتحت الكليات العسكرية الاميركية أبوابها أمامهم بسخاء… وهذه رشوة مزدوجة: اذ يحصل الضابط الطالب على مكافأة مجزية، تجعله يعود بحصيلة طيبة من الدولارات، ثم انه سيتقدم بعد عودته على رفاقه الذين كانوا برتبته ذاتها بفضل المنحة الدراسية.
هذا إذا نحن أغفلنا ما يمكن أن يطرأ من تحول في مفاهيم هذا الضابط الفتى نتيجة انبهاره بنمط الحياة الاميركية وتقبل فكرة تقليدها، قبل ان نلتفت الى ما يمكن ان يتعرض له من إغراءات لكي يكون جزءاً من شبكة العيون المفتوحة على «المتمردين» داخل المؤسسة العسكرية في بلاده.
كانت التجربة السابقة لأهل النظام العربي ان يجعلوا الجيش الواحد جيوشاً متعددة. وفي تجربة صدام حسين التي شطبت «دولة العراق القوية» من الخريطة السياسية العربية، كان ثمة «النخبة» في «الوحدات الخاصة»، ونخبة النخبة في الحرس الجمهوري الذي كان الأقوى بالمطلق، سواء بسلاحه من طائرات ودبابات ومدفعية هي الأحدث والأعظم فاعلية، أما بقية العسكر ففي جيش فقير الامكانات، يمكن اعتباره مجرد مستودع لمجندي خدمة العلم الإجبارية.
وشهيرة هي الحكاية ذات الدلالة والتي يمكن تلخيصها بالإشارة الى أن رئيس أركان الجيش العراقي قد تبلغ نجاح عملية غزو الكويت بعدما أنجزت، ثم أخذ الى صدام حسين لكي يهنئ «القائد العظيم» على هذا الإنجاز القياسي في سرعة تنفيذه وفي الدقة التي واكبته والتي فاجأت العالم أجمع بالأمر الواقع.
ان القاعدة الآن ان يكون أمن النظام من مسؤولية قوات الأمن المركزي التي يحشد فيها مئات الآلاف من الشبان الذين يدربون على… مواجهة أهلهم، تارة بذريعة قمع الشغب، أو بحماية الممتلكات العامة والخاصة، وطوراً بذريعة تأمين سلامة النظام العام.
في السابق كان النظام يحتفظ بالجيش لحالات الضرورة القصوى. ثم علمت التجارب أهل النظام العربي أن الجيش قد ينزل فعلاً في حالة الطوارئ، لكن من يضمن ان يعود بعد ذلك الى ثكناته وهو يكتشف انه عماد النظام وحاميه؟ إذن فلماذا لا تكون السلطة له، خصوصاً والسوابق في العديد من البلاد العربية تشير الى ان الجيش هو مصدر الشرعية في الأنظمة القائمة من اليمن الى الجزائر.
ثم ان أهل النظام العربي قد باتوا على يقين من ان صفحة حروب التحرير قد طويت وانتهى الأمر: فلسطين لا تحتل إلا هامشاً بسيطاً من علاقتهم بالإدارة الاميركية، بعدما سلموا بالاحتلال الإسرائيلي لأرضها، وان استمروا يطالبون ببعض البعض منها لدويلة فلسطينية في بطن الدولة الحاضنة، إسرائيل، دولة يهود العالم الديموقراطية، المعززة بالرعاية الاميركية المباشرة… وهذه الرعاية يمكن ان تكون أداة جمع بين الأعداء السابقين، وإطاراً ممتازاً للدخول الى عصر العولمة حيث لا حروب قومية أو دينية أو عرقية، وكل المسائل تحل بالتفاوض تحت الرعاية الاميركية مباشرة أو عبر مجلس الأمن الدولي الذي بات بمثابة دائرة تصديق لقرارات البيت الأبيض.
الأخطر أن أهل النظام العربي قد نجحوا في شطب الأحزاب العقائدية والمنظمات والهيئات الشعبية والنقابات وكل أطر التنظيم الشعبي. ففي كل بلد «حزب الحاكم» تسانده قوات الأمن المركزي و«شرعية» النظام، والرعاية الأجنبية مانعة الثورات والتي تساعده في كشف «المتواطئين» عليه و«المخططين لخلعه» والمتهمين دائماً بإثارة الشغب.
[[[[[
على ان بين ما كشفته هذه الانتفاضة المباركة في تونس هو سيادة الهم المحلي، وبالتحديد ذلك المتصل بوحشية السلطة في مواجهة مطالب الشعب وهمومه.
لقد نجح النظام المخلوع في عزل تونس عن محيطها، تماماً وقطع كل صلاتها ووشائج العلاقات الأخوية مع مختلف الأقطار العربية، فحلت المخاصمة أو البرودة محل المصالح المشتركة، وصارت واشنطن أقرب من الجزائر أو القاهرة، وبالتالي صار لإسرائيل شيء من «الحضور» بينما بهتت العلاقة مع القضية الفلسطينية وان استمرت مع أهل السلطة.
ومع أهل هذا الجنوح نحو الهموم المحلية بديهي، خصوصاً أن تلك الهموم هي التي وفرت المبررات لإسقاط نظام بن علي، إلا أن صيغة الحكم الجديد ـ وهي لم تتبلور بعد ـ ستبدل قطعاً في الاتجاه مضيفة قدراً من العروبة ومن الإسلام السياسي الى التوجهات العامة لهذا الحكم.
إن أصداء نشيد الحرية الذي أبدعه شاعر تونس أبو القاسم الشابي، تتردد الآن في أربع رياح الأرض العربية.
كل الشعوب العربية المقهورة تستعد لان تطلق في أقطارها ذلك النشيد الذي يكاد يكون برنامجاً ثورياً للتغيير:
« إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر..»
من هو النظام التالي الذي سيلحق بنظام زين العابدين بن علي؟!
المباراة مفتوحة، لكن النقص الجوهري يتمثل في خلو الساحة من الأحزاب العقائدية ذات التاريخ النضالي، وبغض النظر عما إذا كانت هويتها عربية أو إسلامية.
إن النظام الجديد بلا برنامج. ان أقصى ما يمكن ان يحققه هو تبني المطالب الملحة للناس والتي يمكن اختصارها بإطلاق الحرية: الإفراج عن المعتقلين السياسيين، فتح الباب لعودة المنفيين، العفو عن كل الذين كانوا متهمين في وطنيتهم أو في دينهم بسبب خروجهم على النظام.
والانتفاضة تحتاج الى هوية سياسية لكي تصير ثورة.

([) ينشر في جريدة الشروق بالتزامن

Exit mobile version