طلال سلمان

مع الشروق قبل وثائق «ويكيليكس» وبعدها: أهل النظام العربي «يحتمون» بالفتنة

لم يفاجأ الرعايا العرب كثيراً بما كشفته الوثائق التي أذاعها موقع ويكيليكس من فضائح وانحرافات وتورط يداني الخيانة ارتكبها معظم أهل النظام العربي، مشرقاً ومغرباً، في ما يتصل بقضاياهم القومية وأولها وأعظمها قداسة فلسطين، وكذلك بمسائلهم الداخلية وعلى رأسها الموقف من نظام الحكم واستطراداً الديموقراطية وسائر حقوق الإنسان.
كان الرعايا العرب يقرأون في واقعهم ما هو أبشع وأفظع مما كشفته تلك الوثائق التي تجلّت فيها الغطرسة الإمبراطورية عند الإدارة الاميركية واستهانتها ليس فقط بالأعراف والتقاليد والأصول في العلاقات بين «الدول الأخرى» كبيرة وصغيرة، صديقة ومحايدة، فضلاً عن تلك المصنفة في «محور الشر»، بل احتقارها للشعوب عموماً وشطبها من دائرة التأثير والتعامل معها بمنطق أردأ من ذلك الذي تعتمده معها أنظمة البطش التي تحكمها وتتحكم في حاضرها ومستقبلها.
لم يكن أي من الرعايا العرب بحاجة الى أدلة، من خارج ما يعرف، عن الخضوع المطلق لأهل النظام العربي للقرار الأميركي، فقد تعاظم التقارب بين التابع والمتبوع حتى تماهت المواقف تماماً مع القرار الإسرائيلي في سنوات ما بعد معاهدات الصلح المنفرد و«الانفتاح» العربي الرسميّ على دولة العدو.
وليس سراً ان نفوذ إسرائيل قد تمدّد موسعاً المدى أمام شبكة هيمنتها العالمية نتيجة انقلاب حقيقي في الموقف العربي، اذ تحوّل العديد من أهل النظام العربي، وبلسان فلسطيني، من طلب الدعم لقضيتهم العادلة، الى مطالبة الأصدقاء التاريخيين كالصين والهند والعديد من دول عدم الانحياز، بتوثيق العلاقات مع إسرائيل، لاستخدام نفوذهم عليها – من بعد – من اجل التسوية السلمية. وهكذا مكّن هؤلاء «العدو» من اكتساب مواقع جديدة لنفوذه مما جعل «السلطة» تبدو مستوحدة وضعيفة بلا نصير ولا مجال امامها غير الاستسلام والمزيد من الاستسلام للشروط الإسرائيلية.
كذلك لم يكن أي من الرعايا العرب بحاجة الى أدلة جديدة عن الصفقة الملعونة التي عقدها أهل النظام العربي مع الإدارة الاميركية تحت عنوان: «نحن نؤمن لك مصالحكم (وأولها وآخرها أمن إسرائيل) في منطقتنا، بشرط ان تتركوا لنا حرية التصرف مع رعايانا، فنحن أعرف بهم منكم، لذا لا تتدخلوا لنصرتهم علينا تحت لافتة حقوق الإنسان، ولا تحرضوهم ضدنا باسم الديموقراطية.. ودعونا نجرعهم الديموقراطية – كما في حالة الدواء المرّ- على جرعات حتى لا تؤذيهم او يعمدوا الى تخريبها».
… وها نحن قد فزنا بتنظيم مونديال 2022 وهزمنا امبراطور العصر والأوان، أميركا، فهل ما هو أعظم من هذا النصر؟ وهل يجوز تذكيرنا باسرائيل لإفساد فرحة العمر بالانتصار التاريخي؟
ومن قبل نشر هذه الوثائق كان الرعايا العرب يعرفون، بإحساسهم وبقراءتهم الدقيقة لمواقف حكامهم – مهما اجتهد هؤلاء في محاولة طمس مؤشرات التحول فيها – ان فلسطين قد أسقطت من حساباتهم، وان القضية المقدسة قد تحولت الى موضوع للمقايضة: يفرطون بجوهرها، أي حقوق شعبها فيها، بقدر ما يضمنون استقرار أنظمتهم تحت الرعاية الاميركية وبما يضمن عدم إقدام إسرائيل على إحراجهم مع شعوبهم التي لا تتقبل «الصلح» دفعة واحدة، بل لا بد من إعطائه بجرعات مدروسة، وعلى مهل، حتى لا تحصل ردود فعل مضادة تخرب المساعي والجهود تدفع الأنظمة ثمنها من وجودها ذاته، فتخسر إسرائيل مرتين!
وهكذا كان ضرورياً اختراع «عدو» قومي جديد أو بديل فتم تعظيم خطر إيران كقوة دولية مشاغبة، تهدد أول ما تهدد جيرانها الاقربين، فضلاً عن تهديدها امن إسرائيل، ومن ثم قواعد التوازن السائد في «العالم الأميركي» الآن، لاسيما وقد بات للولايات المتحدة الاميركية مئات الألوف من الجنود (والمرتزقة العاملين لحسابهم، والموكلة إليهم الأعمال القذرة كالاغتيالات المدبرة لإحداث الفتنة بين أبناء الشعب الواحد)، ينتشرون في أربع رياح الأرض وان كان اكثرهم في مناطق عربية.
في هذه المعركة كان يمكن استخدام أسلحة كثيرة، اولها خطر «تصدير الثورة» الى البلدان المجاورة، حيث تتولى الحكم قبيلة من قبائل عديدة، او شريحة من شرائح عشيرة معينة بينما تقبع شرائح اكبر في موقع «المعارضة الصامتة» في انتظار «اللحظة المؤاتية»… والثورة إسلامية، اذن لا بد من نزع شعار الإسلام عنها بتوصيفها بأنها «حركة شيعية» مناهضة للأغلبية السنية في المحيطين العربي والإسلامي.
ثم ان إيران «فارسية»، وبين العرب والفرس قديماً حروب دموية ومنازعات كان بين أخطرها إسقاط الإمبراطورية، و«الاحتلال» العربي لتلك البلاد بسلاح الإسلام. وبالتالي لا بد من التركيز، بعد شيعية الثورة، على فارسية الإيرانيين.
بعد ذلك يأتي خطر السلاح النووي.
ومع ان استخدام هذا السلاح مستحيل مع دول صغيرة تتداخل حدودها مع إيران، فان تعظيم مخاطره يخدم مشروع الهيمنة الاميركية على المنطقة، خصوصاً بعد تجربتها الناجحة في احتلال العراق، ويخدم معه أيضا المشروع القاضي بفتح أبواب هذه المنطقة الغنية أرضها بمنابع الثروة والعاجزة دولها عن حماية ثرواتها، أمام «الحماية الإسرائيلية».
[ [ [ [
ماذا يمكن ان تقدم وثائق «ويكيليكس» من مؤشرات وبرقيات مرمزة اخطر في وقائعها او دلالاتها من الأمر الواقع؟
إيران هي العدو لا إسرائيل. وكل من يتصل بإيران او ينشئ علاقات طبيعية معها هو حليف العدو. اما إسرائيل فتقف الى جانب العرب، بل هي تتصدر صفوفهم، وتتقدم في اتجاه الحرب على ايران، معززة بالتأييد الاميركي المفتوح وبالمساندة العربية المضمونة: أليس عدو عدوي صديقي؟!
فإذا كانت إيران هي العدو وإسرائيل هي الصديق فأين تغدو فلسطين بأحلام الثورة والنضال من التحرير؟! وأين تغدو المقاومة ومجاهدوها من اجل استنقاذ حقوق الفلسطينيين في أرضهم لتقوم عليها «دولتهم» العتيدة؟
وإذا كانت إيران «الفارسية» هي العدو، فأين يجب ان يقف العرب؟.
وإذا كانت إيران «الشيعية» هي العدو، فمن الضروري ان يبحث العرب – السنة عن حليف عظيم يتولى الدفاع عنهم وحفظ الدين الحنيف ومعه الثروة الهائلة ممثلة بالذهب الأسود ومعه الذهب الأبيض (الغاز)… ومن اقدر على أداء مثل هذه المهمة من الصديق الاميركي الكبير ومعه الحليف الاسرائيلي الجديد، بالمصلحة وان لم يكن بالعقيدة؟
وماذا يهم أن تعلن إسرائيل نفسها دولة يهودية ديموقراطية، وبين ان تفرض «يمين الولاء» على رعاياها، مهددة المليون ونصف المليون فلسطيني ممن تبقوا في أرضهم الوطنية (في الداخل)؟
[ [ [ [
هل قالت هذه الوثائق التي انهمرت كالمطر على دول العالم، شيئاً لا يعرفه الرعايا العرب عن اهل نظامهم العاصي على التغيير؟
هل كشفت ما لا يعرفه الرعايا عن تواطؤ اهل نظامهم مع الإمبراطورية الاميركية في احتلال العراق وفي تدمير دولته وتشريد شعبه بعد تحضير «المسرح» لفتنة طائفية – مذهبية – عنصرية، وتحضير المسرح لاشتباكات سياسية سرعان ما تنحدر الى الشارع فتزيد من حدة الانقسام، بما يجعل الاحتلال مطلباً، حتى لو جاءت في ركابه إسرائيل فصار لها مواقع نفوذ داخل ارض الرافدين؟!
هل كشفت ما لا يعرفه الرعايا عن المؤامرة الكبرى التي تم تنفيذها في لبنان، عبر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، بما وفر المناخ المؤاتي «لطرد» سوريا من لبنان، بعد التشهير بشعبها وقيادتها وجيشها، ومن ثم لتوجيه الاتهام في اتجاه المقاومة المجاهدة التي طردت الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر لاثنتين وعشرين سنة طويلة… وكل ذلك في سياق التمهيد لتفجير فتنة طائفية (بين السنة والشيعة) في لبنان، تشكل امتداداً للفتنة في العراق ومدداً لها، يساعد على تمددها في أقطار الجزيرة والخليج وصولاً الى اليمن السعيد؟!
[ [ [ [
من قبل وثائق «ويكيليكس» ومن بعدها يعرف الرعايا العرب ان أهل النظام العربي يتآمرون على حرياتهم بتزوير الانتخابات، ويتآمرون على استقلال أوطانهم بإخضاع دولها للهيمنة الاميركية – الإسرائيلية، ويتواطأون مع ناهبي الثروات – خارجيين ومحليين – على اقتصاد بلدانهم لإفقار شعوبهم وشل قدرتها عن فعل التغيير.
ومع ان الإحراج يقع أولاً وأخيراً على الإدارة الاميركية بمؤسساتها المختلفة، سياسية وإدارية واستخباراتية، فان واشنطن أعظم في نظر أتباعها والخاضعين لهيمنتها من ان تحاسب او تلام.
ها هي الإدارة الاميركية تتابع التحريض على «خصومها»، وتعزيز تحالفها المفتوح مع إسرائيل الى حد شطب حقوق الفلسطينيين في أرضهم، برغم استرهان السلطة. ها هي ماضية في فرض هيمنتها وكأن شيئاً لم يكن… وها هم الرعايا العرب يندفعون – عبر التحريض الرسمي على مدار الساعة – الى «فتنة كبرى» جديدة بين السنة والشيعة فيهم مرشحة للتمدد من حافة البحر الأبيض المتوسط في لبنان الى اليمن في أقصى الجزيرة العربية، مروراً بالعراق المستباح والمدمرة دولته والمقسم شعبه طوائف وعناصر مقتتلة على السلطة الوهمية تحت الاحتلال الأميركي الذي شغل العراقيين عنه بانقساماتهم الدموية مهددة الكيان جميعاً.
والحال يكاد يكون هو ذاته في لبنان…
أما إسرائيل فتغدو «دولة شقيقة» وحليفاً استراتيجياً للعديد من أهل النظام العربي… فماذا في «ويكيليكس» أكثر من هذه الفواجع القومية مجتمعة؟!

ينشر مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version