طلال سلمان

مع الشروق ## فلسطيـن عشيـة القمـة ([)

مرة أخرى، ها هي فلسطين تعود «قضية دولية» منطلق الاهتمام بها «إسرائيلي» وليس عربيا، وإن تم الاحتفاظ لبعض العرب بدور «الوسيط» الذي يجب علــيه ان يثبت عدم تحيزه «للاخوة الفلسطينيين» الف مرة في اليوم الواحد …
صارت «قضية فلسطين» وإلى حد كبير «شأنا إسرائيليا» داخليا في نظر معظم دول العالم، وبينها مع بالغ الأسف دول عربية كانت فاعلة و مؤثرة وصاحبة موقف لا يمكن تجاهله سواء في القضية الفلسطينية أو في الصراع الذي استولده الاحتلال الاسرائيلي لأرض فلسطين ومعها أراضي أقطار عربية اخرى والذي كان يفرض ان يكون «العرب» طرفا أساسيا في الصراع بمعزل عن العواطف الأخوية والروابط القومية.
ولأن قضية فلسطين لم تعد وقفا على شعبها الفلسطيني ولا على أهلها العرب فقد تحولت الى «مسألة دولية» لأن كل ما يتصل بسلامة الكيان الاسرائيلي فضلا عن وجوده واستقرار مجتمعه وضمانات تفوقه على العرب أجمعين ومتطلبات أمنه ورخائه، كل ذلك يتصدر اهتمامات الدول العظمى والكبرى، ويكاد يتقدم على شؤونها الداخلية.
ثم إن العرب قد انقسموا ثم تفرقوا وأخذتهم خلافاتهم المتوالية من ذاتها والتي لا نجد الحكمة الكافية أو الحرص الواجب على المصير لمعالجتـــه إلى القطيعة والمخاصمة حتى حدود الاحتراب…
لقد عشنا سنوات من التأزم في العلاقات العربية ـ العربية، مما نشر في الأجواء مناخات حروب أهلية، سواء من داخل الاقطار العربية، أو بين هذه الدولة العربية وتلك….
انقطع حبل الحوار، بحيث تطلب اعادة وصله أحيانا تدخل بعض الدول الأجنبية بين هذه الدولة العربية وتلك… بل ان الحوار بين القوى الفاعلة داخل بعض المجتمعات العربية قد انقطع ثم تفاقم الخلاف الى مصادمات واتهامات بلغت حد رمي بعضهم البعض بالخيانة، وانشطرت المجتمعات بما أنذر بمسلسل من الحروب الأهلية التي يصعب وقفها أو الحد من مخاطر انتشار آثارها الحارقة الى الأقطار المجاورة…
وأفادت إسرائيل افادة قصوى من انشغال العرب بخلافاتهم عنها، فمضت تلتهم بمستعمراتها الاستيطانية المزيد من الأراضي الفلسطينية وتستقدم المزيد من المستعمرين الذين لم تكن لهم في أي يوم صلة بفلسطين أو بالدين اليهودي أو بالمشروع الاسرائيلي، لكنهم استقدموا الى «أرض لا صاحب لها «وأقطعوا فيها بيوتا» وحدائق في مستعمرات حديثة تتوفر فيها اسباب حياة أفضل ففيها مدارس ومستوطنات، بل وجامعات ومصانع، ثم انها محروسة جيدا بجيش الدفاع الاسرائيلي وحرس الحدود والشرطة والازدهار الاقتصادي، وليس مطلوبا غير الولاء للكيان المزدهر والعمل من اجل توفير المزيد من الرخاء لمن يقيم فيه ويعطيه من جهده فيأخذ الأمان لنفسه ولذريته الصالحة الى دهر الداهرين.
صارت إسرائيل، ومنذ زمن بعيد، قضية العالم…
أما فلسطين فقد افقدتها الخلافات بين أهلها المباشرين، فلسطين المعززة بخلافات أهلها العرب، والمنبثقة منها، ما كان لقضيتها من قداسة، خصوصا وقد اعطاها جيلان أو ثلاثة أجيال من الفلسطينيين، وأشقائهم العرب، من دمائهم ومن تضحياتهم بأعز ما يملكون، ما جعلها قضية الحق الذي لا يناقش، وأدخلها ضمير شعوب العالم جميعا…
هوت الخلافات العربية ـ العربية وبالتالي الفلسطينية ـ الفلسطينية بهذه القضية المقدسة من شاهق مكانتها لتجعلها أشبه بنزاع عقاري في ما بين الفلسطينيين بداية، لا سيما بعد الانقسام في «السلطة» التي لا سلطة لها، بين «فتح» وبين «حماس» والذي أدى الى نوع من الانفصال التام بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة، ثم في ما بينهم وبين «دولة اسرائيل الجبارة» التي افادت من انشقاقاتهم لتمثل بمستعمراتها المزيد من أراضي الضفة، ولتعتقل آلاف المناضلين من اجل حقهم في وطن لهم على أرض وطنهم، ولتستنفخ النار في مناخ الفتنة بحيث يندفع الجميع الى مقتلة عنوانها السلطة وضحيتها فلسطين، أرضا لوطن تاريخي ودولة مرتجاة، وقضية مقدسة تفقد بريقها عبر النفق المسدود للصراع العبثي على سلطة لا سلطة لها على «مواطن» أو على متر مربع واحد من أرض فلسطين.
وهكذا جاء الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني بالدول الى المسرح فأعطاها مساحة شرعية كانت تتزايد كل يوم بمقدار ما يتناقص الاهتمام العربي بفلسطين، إما نتيجة العجز، وإما مداراة لغضب اسرائيل او اتقاء لغضب الدول التي لم تعد تحسب للعرب أي حساب، وسلمت بالتالي بأن فلسطين موضوع أمني في إسرائيل، لها ان تتصرف به بما يضمن سلامتها ويحصنها تجاه اعدائها من العرب الذين يبلغون ثلاثمئة مليون انسان، ومعهم كل أعداء الديموقراطية من المتطرفين والمتعصبين دينيا حتى حدود الارهاب، وفي طليعتهم ايران…
… وهكذا صارت إيران سببا جديدا للانقسام بين العرب: بعضهم يراها، برابطة الجوار والمصالح والدين، حليفا استراتيجيا مهما يمكن الإفادة من زخمها الثوري ومن مكانتها الدولية، بعدما حررتها الثورة الإسلامية التي أطاحت الشاه ونظامه الذي كان ركيزة لإسرائيل وقاعدة للنفوذ الأميركي… وبعضهم الآخر يراها عدوا خطيرا يتجاوز بخطواته إسرائيل ذاتها، إذ أن مشروع إيران التوسعي يهدد أغنى منطقة عربية بمواردها الطبيعية، ثم إن وهجها الثوري يمكن نسبته إلى «فارسيتها» وليس إلى «إسلامها» كما أن إسلامها يمكن تصنيفه «شيعيا»، وبالتالي فكل ذلك يؤكد ليس إلى غربتها عن العرب فحسب بل وعدائيتها تجاههم…
ولان إيران قوية فلا بد من الاستعانة عليها بكل من يقاتلها لأسباب أخرى لا علاقة لها بالعرب أو بالإسلام أو فلسطين أو بالصراع العربي الإسرائيلي، أي بالإدارة الأميركــية ومن ثم الغرب، ولا بأس من الاستعانة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة بإسرائيل، أفليس عدو عدوك صديقك؟!
..خصوصا وأن إيران قد اقتحمت بشعارات الثورة والإسلام القضية الفلسطينية وبات لها مناصرون ومحازبون تدعمهم وتزودهم بالمال والسلاح، مما يهدد العديد من الأنظمة العربية..
تم استيلاد سبب جديد ووازن للانقسام العربي: العلاقة مع ايران. ولان الحوار العربي العربي معطل، فقد اتخذت الخلافات منحى خطيرا ينذر بتفجرها قطيعة وصراعات ويستولد مناخ حروب بين الأخوة.
وفي حالات الخلاف التي تفجرت، وما أكثرها، كان مبررا بالضرورة اللجوء إلى طرف أو أطراف أجنبية أو الاستعانة بطرف أو أطراف أجنبية قادرة أو جاهزة للنجدة… وما أكثرها ! لا سيما تلك التي تخاصم إيران وتحاربها لأسباب لا علاقة لها بالعرب أو بقضاياهم.
في لبنان احتاج الأمر إلى دول عديدة من أجل إعادة الخلاف المتفجر عند حدود السيطرة بما يمكن من مباشرة الحوار (ولو اضطرارا) بقصد الوصول إلى تسوية. لا سيـما بعدما تأكدت أطراف النزاع الداخلي المتواجهة سياسيا، وفي الشارع، أن الحرب الأهلـية واقعــة حــتما، إذا ما أصر كل طرف على التمسك بمواقفه ومطالبه…
وبديهي أن كل طرف داخلي كان يستند في موقفه المتشدد إلى قوى دعم مؤثرة، ليست في الداخل ولا هي منه، بل هي في أكثر من «خارج».
أما فلسطين فقد شهدت «حربا» حقيقية بين «سلطتها» التي يفترض أنها تنتسب إلى فتح ومن معها من فصائل، وبين «المعارضة» بقيادة حماس ومعها بعض الفصائل ذات التأثير، وأهمها «الجهاد الإسلامي».
في هذا المناخ المتفجر فلسطينيا، وفي ظل انقسام عربي حاد يكاد يتجاوز القطيعــة إلى ما يشبه «الحرب»، ولو بوسائل «دبلوماسية»، كتحريض فئة على فئة، ومناصرة فئة على أخرى، ومحاصرة «المتحالفين مع الخوارج»، شنت إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة وأهله مستخدمة أقصى قوة القتل المتوفرة لديها: الطائرات والحوامات والدبابات والمدفعية والصواريخ وصولا إلى قنابل الفوسفور الأزرق المحرمة دوليا (إلا على إسرائيل)..
ولما عجزت إسرائيل عن حسم المسألة عسكريا كان لا بد من تدخل عربي لاستثمار النتائج الميدانية سياسيا… وهنا تبدت ضرورة «الوساطة المصرية».
لكن السياسة المصرية ليست محايدة بما يكفي للعب دور الوسيط، ثم إنها لا تملك وسائل التأثير المطلوبة. وهكذا هبت أوروبا جميعا للنجدة، وعقدت المؤتمرات، وتبارى المتبرعون وزايد بعضهم على بعض تكارما على أهل غزة ومن أجل إعادة بناء ما دمرته الحرب الإسرائيلية فيها، ولكن بشرط: أن تظل غزة جزيرة معزولة محاصرة برا وبحرا وجوا .. حتى سقوط سلطة حماس، التي يراها بعض العالم حليفا لإيران وينسى أنها بعض شعب فلسطين، وأن مجاهديها كانوا بعض أهالي غزة التي أحرقتها النار الإسرائيلية وأن الشهداء لا يقبلون التسمية بحسب انتماءاتهم السياسية أو مدى إخلاصهم لمعتقداتهم الإيمانية، دينيا..
ولقد لجأت السياسة المصرية إلى من ترى دائما أن بيده القرار، محليا، وعربيا، ودوليا، وعلى مستوى الكون: أي الإدارة الأميركية..
فكل ما يتصل بفلسطين شأن إسرائيلي.
وكل ما يتصل بإسرائيل شأن دولي..
وكل شأن دولي قراره أميركي.
وهكذا فإن علينا انتظار ولادة «سلطة فلسطينية» ما بقرار إسرائيلي، معزز أميركيا، على يد قابلة مصرية، تضفي عليه الشرعية القمة العربية في الدوحة..
لقد تم تدويل القضايا العربية جميعا. لم يعد القرار في أي شأن عربيا مهما بدا محليا في مبتداه ومنتهاه وجوهره، بل إن القرار أميركي معزز بالفتوى الأوروبية ومموه بالتغطية العربية.
انتفى الوسيط العربي النزيه، لا سيما بعد تعطيل دور جامعة الدول العربية، سواء بسبب من تزايد النفوذ الدولي على الأطراف بما يصيبها بالشلل، أو بسبب من اتهام هذه المؤسسة المحكومة بأن تسير بخطى أضعف العرب، هذا إذا اتفقوا، بالتقاعس المموه للعجز، أو بالانحياز الذي قد ينفي عنها صورة المرجعية.
لقد «انتخب» العالم كله الرئيس الجديد للجمهورية في لبنان قبل عشرة شهور، في حفل بهيج، وفي قلب المجلس النيابي اللبناني، وفي سابقة لا مثيل لها..
.. وها هو العالم يشارك الآن في إعادة صياغة حكومة «السلطة الفلسطينية» الممنوعة حتى من الاحتفال في القدس باختيار هذه المدينة المقدسة عاصمة للثقافة العربية.
وها هو العالم يتدخل في السودان مصدرا قراره بمحاكمة رئيس الجمهورية لدولة تعتبرها لأمم المتحدة دولة مستقلة، ويعتبرها العرب واحدة من أكبر دولهم..
ولسوف نشهد بعد حين إقامة الحكومة الدولية للعراق، إذا ما قررت قوات الاحتلال الأميركي الجلاء عنه بعد ثماني سنوات من احتلاله..
والبقية تأتي، أو هي في الطريق.
إنها العولمة ومع العولمة لا وجود للعرب، لأنهم ومن زمان تركوا القرار في شؤونهم للقادر على اتخاذه.. أي غيرهم!
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية

Exit mobile version