طلال سلمان

مع الشروق ## فــي سياســة مصــر الخارجيــة: عهد ما بعد «الميدان» وريث «إسلامي» لنهج الطغيان؟

لم يكن لمصر في عهد حسني مبارك سياسة خارجية. لقد تصرف باعتباره الوصي على تركة غاب صاحبها، أنور السادات، وليس عليه أن يجتهد فيعدل أو يبدل في ما كان معتمداً.
كان عذره في ذلك انه «موظف» تقليدي، ثم انه «عسكري»، وهذا يعني انه «انضباطي» ينفذ التعليمات ولا يحق له الاجتهاد فيها، إلى جانب انه لم يكن معنياً او متابعاً، ولا كانت ثقافته الشخصية تسمح له بأن يكون صاحب رأي وموقف، لا سيما في القضايا الكبرى والمسائل الاستراتيجية شديدة التعقيد.
كانت مفاجأة غير متوقعة أن يصبح في مركز صاحب القرار. ولكنه بدل أن يحاول أن يعرف، وان يجتهد ليدرك أبعاد المسؤولية الوطنية في أي قرار يتخذه، قرر أن يرتاح معتمداً سياسة «الاستمرار»، وأن يبقي كل شيء على حاله.
لم يكن يعرف ما يكفي عن السياسة الدولية، ولا عن شبكة تحالفات المصالح الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب، ولا عن دهاليز سياسة الأنظمة العربية التي تفترق تصريحات المسؤولين فيها عن قراراتهم وخطواتهم التنفيذية افتراقاً واسعاً الى حد التناقض.
مع ذلك وجد نفسه المرجع الأخير في علاقات البلاد مع الخارج، ولم يكن يملك رؤية السادات ولا شجاعته حتى في الغلط، فاكتفى بأن يقرر اعتماد ما كان معتمداً وكفى الله المؤمنين القتال: 99 في المئة من الأوراق في أيدي الإدارة الاميركية والصلح مع إسرائيل هو المدخل لإنقاذ مصر من أعباء المواجهة… فلتكن واشنطن هي المرجعية السياسية، ولتكن العلاقة مع إسرائيل المدخل إلى توطيد مكانة مصر لدى القيادة الاميركية، ولتنعم مصر بخيرات هذا التحالف الذهبي.
انطوت مصر على ذاتها، وفي القصر الرئاسي شعور بالمرارة من هؤلاء «الأوباش» من قادة العرب الذين تجرأوا على مصر فأخرجوها من مجال نفوذها، وأخرجوا جامعة الدول العربية من القاهرة في سابقة لا تغتفر وبذريعة الصلح مع إسرائيل، برغم ان العديد من قادتهم يطمح الى دخول هذا النعيم لكنه يخاف من عواقبه فيهرب الى المزايدة.
ولأن النظام الرئاسي يحصر القرار في القصر، ولأن الرئيس مجرد «وكيل التركة» ولا رؤية لديه ولا شجاعة على إعادة النظر في ما اعتمد، فقد تحول وزير الخارجية إلى منفذ لسياسة معتمدة ليس له الحق أو القدرة على المراجعة وإعادة النظر فيها. وبالتالي فقد صار السفراء موظفين لا أهمية لكفاءتهم طالما أن دورهم تنفيذي بحت.
نتيجة لهذا كله تضاءل دور مصر وحضورها وغاب نفوذها وانعدمت قدرتها على التأثير في القرار، ولم يعد لها التأثير المفترض في مؤتمرات القمة العربية منها والأفريقية، فضلاً عن عدم الانحياز، بما في ذلك ما يعقد منها في القاهرة… ومن نافلة القول إنها فقدت دورها الخطير بالتأثير في القرار، عربياً كان أو إقليمياً أو دولياً.
كان يمكن قراءة الموقف المصري من القضايا العربية، بما فيها فلسطين، عبر الموقف الاميركي، وهو هنا «إسرائيلي»… بل إن عهد مبارك قد تجاوز السادات في الاقتراب حتى التماهي مع الموقف الإسرائيلي، واندفع بعض أركان هذا العهد إلى تحويل «الصلح المفروض» إلى نوع من التحالف، كما تشهد مذكرات النافذين من «رجالة مبارك» التي انكشفت بعد ثورة الميدان وسقوط ذلك العهد الميمون.
لم يكن العيب في الوزير أو في جهاز الوزارة أو في السفراء الذين كان العديد منهم بين أكفأ الدبلوماسيين العرب.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن عمرو موسى قد أحدث «خرقاً»، ولو إعلامياً، حين حاول الإفادة من هامش في الحركة لتمييز الموقف المصري عن الموقف الإسرائيلي، مما استثار غضبة إسرائيلية (وأميركية إلى حد ما) أدت إلى إخراجه من وزارة الخارجية. الطريف أن الرئيس المخلوع ابلغ موسى انه يعمل إلى ترفيعه بتسويقه لدى الدول العربـــية كأمين عام للجامعة مكافأة له على نجاحـه في الخــارجية.
كانت السياسة الخارجية لمصر ملتحقة بمواقف الإدارة الاميركية واستطراداً بالمواقف الإسرائيلية حتى في الشأن الفلسطيني (الحرب على غزة).. ومن قبل في الحرب الاميركية على العراق، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان (2006).
وفي بعض مؤتمرات القمة العربية كان «الرئيس» يسلك مسلكاً يصعب على الخارجية تبريره.
هل من الضروري التوكيد أن وزارة الخارجية ليست خلية ثورية وأنها – بداية وانتهاءً – جهاز تنفيذي، قد يقترح وقد ينبه وقد يحذر، ولكن على «موظفيها» في نهاية المطاف أن ينفذوا أو يخرجوا بكرامتهم إلى التقاعد أو إلى العمل الحر.
ثم إن « تأديب» وزارة الخارجية، من رأسها – الوزير – الى كادر النخبة فيها، كان قد تم خلال عهد السادات. والكل يذكر كيف «طرد» الرئيس الوزير عندما أبدى اعتراضاً أو تحفظاً على مسودة معاهدة الصلح مع إسرائيل، منبهاً إلى ضرورة الحرص على المصالح الوطنية المصرية، حتى لو تم تجاوز حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، او مصالح الدول العربية الأخرى المعنية.
قبل أن يتولى الرئيس محمد مرسي زمام السلطة حاولت قوى النظام القديم، ممثلة بالمؤسسة العسكرية (ومعها رجال الأعمال)، أن تحمي وجودها، مع تفجر الثورة، بإبقاء القديم على قدمه في السياسة الخارجية.
وبعدما تولى الرئيس مرسي لم يُلحظ جديد في السياسة الخارجية، لا على المستوى العربي، ولا على المستوى الدولي (حتى زيارة الصين كان يمكن لمبارك ان يقوم بها). كل ما حدث ان «اللحية» صارت اشبه بموجبات الزي الرسمي في العهد الجديد!
فلقاء الرئيس الملتحي مع الإسلاميين الفلسطينيين (الملتحين) لم يعن أي تبديل في السياسة المعتمدة تجاه إسرائيل.. بل إن «العهد الجديد» تقصد أن يظهر انه مقيم على العهد وعلى الود معها، سواء عبر الاتصالات المباشرة التي لم يخفف من وطأتها نفي حصول بعضها، أو عبر الإسراع في إرسال سفير بديل عن المنتهية مدته.
كذلك فالموقف من مجموعة عدم الانحياز لم يؤشر الى أي تغيير في ما يتصل بإيران. وبغض النظر عن الإشكال اللغوي، وتورط طهران في تحريف بعض الكلمات في خطاب الرئيس مرسي، فإن الموقف المصري قد احتمى بالسعودية وتركيا وهو يشن حملته على النظام السوري، لينتهي إلى توكيد المبادرة إلى جهد رباعي يستوعب إيران… بل إنه قد تعمد اتخاذ موقف مذهبي يستفز مضيفه بغير مبرر، ربما ليحصل على شهادة حسن سلوك اضافية من واشنطن وتل ابيب.
وإذا ما اتخذنا من لبنان نموذجاً فإن موقف النظام المصري مما جرى ويجري فيه لم يختلف – حتى الساعة – عما كان معتمداً من قبل، بغض النظر عن كفاءة بعض من شغلوا موقع السفير في بيروت… وليس سراً أن موقف النظام في عهد مبارك من الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006 لم يكن يليق بمصر وشعبها وكرامة شهدائها في الحروب المتعددة مع هذا العدو القومي.
قد يكون من المبكر أن نطالب الرئيس المصري بمواقف متقدمة في مختلف الشؤون العربية.. لكن الأمل قد انعقد على مصر- الثورة بأن تلعب دوراً أعظم تأثيراً في المحنة الســورية، ومن داخل الحرص على سوريا، الشــريك في الحــرب، وفي الوحدة وعند المفاصل الحاكمة في تاريخ النضال المشترك.
كذلك كان الأمل أن تنزل مصر إلى ساحة العمل العربي بزخم يؤكد اختلاف سياستها بعد «الميدان» عنها قبله، توكيداً لكرامة شهداء الثورة.
وبغض النظر عن طبيعة النظام الدكتاتوري في سوريا فإن الدور المصري تبدى «حزبياً» بأكثر مما بدا «عربياً».
أما مع السودان تحديداً، ومع أفريقيا عموماً، فمن الصعب اكتشاف مواقع الخلاف في سياسة «العهد الجديد» عما كان معتمداً في الماضي، مما أدى إلى اندثار هيبة مصر ودورها في عموم أفريقيا إلى حد تجرؤ بعض الدول الخاضعة للنفوذ الاميركي الإسرائيلي على محاولة حرمان مصر من حصتها الشرعية والطبيعية في مياه نهر النيل التي قيل في الماضي إنها هبته.
باختصار: المشكلة ليست في وزارة الخارجية. المشكلة في السياسة التي سيعتمدها «عهد مرسي» في علاقات مصر مع الخارج، عربياً كان أم اميركياً على وجه التحديد، ومن ثم إسرائيلياً… وهذه السياسة هي التي قد تؤكد أو تنفي أهلية مصر (او حرمانها) من موقعها القيادي عربياً، واستقلالية قرارها.
ليست المشكلة في الوزير او في السفراء. المشكلة في السياسة، في الموقف الذي يتم التعبير عنه رسمياً ويعتمد كنهج للنظام القائم.
أما اللحية فلا تكفي لتوكيد الأهلية للقيادة، ولا ترداد الآيات القرآنية يكفي لتعزيز النهج الاستقلالي للعهد الجديد ـ القديم.
والرجاء ألا يذهب الرئيس في تسييس وزارة الخارجية بنهجه (غير الواضح حتى اللحظة) إلى حد إصدار الأمر إلى الوزير ومن ثم إلى السفراء بتربية لحاهم تأكيداً لاختلافه عن العهد المُباد الذي كان أعظم خطاياه عدم تربية اللحية وليس الانحراف بمصر عن هويتها ودورها القيادي الذي، مع افتقاده، يتوزع العرب معسكرات مقتتلة لمصلحة الهيمنة الاميركية والاحتلال الإسرائيلي.
الغد العربي رهينة مصر، ومن القاهرة يبدأ العهد الجديد، وإلا تم اغتيال الميدان والآمال العراض التي انطلقت منه وعبره.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version