وسط الفوضى الدموية التي تجتاح الأرض العربية، في مشرقها خصوصاً من سوريا حتى اليمن، مروراً بالعراق والبحرين، يتابع المواطنون العرب باهتمام استثنائي ما يدور في مصر من حراك سياسي بجبهاته المتعددة، سواء تمثل بالاجتهادات الدستورية أو بالمناقشات القانونية أو بالاعتراض على المقدمات الانتخابية والتخوف من مصادرة الحياة السياسية لحساب اتجاه واحد وان تبدى برأسين أو أكثر… إضافة إلى المواجهات في «الميدان» بين القوى والأطراف السياسية المختلفة.
ومفهوم أن يسود التخوف من تحول هذه المناقشات التي تظهر التعارض في المواقف إلى صدامات مباشرة في الشارع لتغليب توجه على آخر، خصوصاً وقد أمدت انتخابات مجلسي الشعب والشورى التيارات الإسلامية بالشعور بفائض في القوة، قد يغريها في الاستيلاء على سائر المؤسسات، وتحديداً على رئاسة الدولة، متكئة على ما يعتبره خصومها نوعاً من «التواطؤ» مع المجلس العسكري.
يقع هذا التخوف ضمن القاعدة في السلوك الإنساني التي بلورها المفكر الذي أغنى بانخراطه مع ثوار الجزائر في جهدهم العظيم لتحرير بلادهم من مستعـمرها الفرنسي، فرانز فانــون والتي تــشير إلى أن المضطهَد (بفتح الهاء) كثيراً ما يقــلد مضــطهِده في سلوكه متى واتته الفرصة ونجح في اقتناص السلطة، أية سلطة وكل سلطة في أي مكان وزمان.
وها نحن نشهد في العديد من الأقــطار العربية التي أسقطت الانتفاضات طغاتها، شيئاً من التكرار لتلك القاعدة الأبدية، وبالتحديد حيث احتل الإسلاميون، بفصائلهم المختلفة، واجهة المسرح، وتقدموا نحو مراكز القرار في السلطة البديلة وحدهم منكرين على منافسيهم حق المشاركة بذريعة أن الشعب قال كلمته فولاهم… والأمر لله من قبل ومن بعد!
بغير رغبة في المقارنة، يمكن التذكير بالكلمات الأخيرة لبعض الطغاة ممن أسقطتهم الانتفاضات، فاستهولوا هذا التجرؤ على مواقع سيطرتهم الأبدية، وعبروا عن رفضهم المطلق لإرادة الجماهير… ولعل أصرحهم كان معمر القذافي الذي خاطب معارضيه محقراً: من أنتم؟ أنتم قرود! أنتم حشرات، أنتم «بهايم»… أين كنتم حين قمت أنا بالثورة؟
أما طاغية تونس زين العابدين بن علي فقد باشر رده على انتفاضة البوعزيزي بنبرة التهديد والوعيد، ثم تراجع عنها بضغط الشارع فادعى انه وعى الحقيقة: «أنا فهمتكم، وأنا معكم بضرورة الإصلاح… ولسوف نعمل معكم للإصلاح».
كذلك حاول داهية اليمن علي عبد الله صالح أن يناور على الانتفاضة بمحاولة تحريك الثارات والأحقاد والخلافات القديمة، إضافة إلى الحيلة الأبدية المتمثلة بشق المنتفضين، إما على أساس قبلي أو على أساس استثارة حمية الشماليين مع نفاق الجنوبيين، لا سيما حين عين جنوبياً نائباً للرئيس، فضلاً من التلويح بخطر «القاعدة»… فلما حمل إليه الخليجيون إشارة التخلي الاميركي عنه ساوم على حصته في «العهد الجديد» مطالباً بضمانات لم يكن أمام السـعوديين غير أن يقدموها، ومن بينها أن يبقى له الكثير من امتيازات الرئاسة وبينها «مواقع حاكمة» ومؤثرة على «القرار».
ها هم الإسلاميون يكررون أو يوشكون على تكرار الخطأ القاتل نفسه، في أكثر من عاصمة عربية «أسقطت» أو سقطت بين أيديهم (حتى لا ننسى التجربة الموجعة مع ليبيا ودور الحــلف الأطلــسي في تحريرها)… فيفترضون أن السلطة حقــهم بالمطلق وبغير شريك، مستغربين أن يطالبهم «الآخرون»، وفيهم «الشباب»، الذين فجروا الانتفاضات، بالشراكة أو بأن يحفظوا لهم حقهم في سلطة ما بعد الطغيان.
إنهم يمارسون سياسة الاستحواذ على مختلف المواقع، ويحاولون احتكار السلطة، مكررين تجربة النظام الذي أسقطته الانتفاضة، في الهيمنة على القرار في العهد الجديد، مستفيدين من زخم تنظيماتهم السـياسية التي كانت محجوبة فخرجت إلى الشارع، ومـن قدراتهم المالية التي كانت مخبوءة فجرى «تسييلها» لاستمالة الفقراء والبسطاء… وهكذا يبنون الديمـوقراطية الجديدة عبر التلويح بالسيف والدينار، مستثمرين اضطهادهم التاريخي للمطالبة بتعويضهم عما فات بما هو آت..
وينسى المنتمون إلى هذه التنظيمات أن جموع الشعب وأكثرية المناضلين الحزبيين قد نالوا نصيبهم من السجن والاضطهاد، كما أن هؤلاء قد تعرضوا مثلهم لتجربة المشاركة الشكلية في بعض المواقع غير المؤثرة، لكي يتمكن النظام من الادعاء انه قد استوعب الجميع، وبالتالي فلا مجال للطعن بصحة تمثيله الشعب، لان الجميع من أهل اليسار واليمين والوسط هم شركاء له، بدليل أنهم يظهرون في الصور الرسمية إلى جانب ممثلي الحزب الحاكم.
يمكن القول إنهم في تونس قد أثبتوا أنهم أكثر شطارة من «إخوانهم» في مصر، فهم قد قبلوا مبدأ الشراكة مع قوى سياسية أخرى كانت تعـاني من الاضــطهاد مثلهم، ولها قاعدة شعــبية عريضة لا تقل حجماً وتأثيراً عن قاعدتهم إن لم تكن أقوى ولكنــها غير موحدة.
أما في مصر فمنذ الامتحان الأول ممثلاً بالانتخابات النيابية (لمجلسي الشعب والشورى) اندفع الإسلاميون، بلونيهم المتمايزين، «الإخوان» و«السلفيين»، نحو احتكار السلطة بكثير من الشبق والرغبة في الاستئثار بها والاستهانة بالآخرين الذين لا يملكون «عدة الفوز بأصوات الناخبين».. متكئين على شيء من التواطؤ مع «المجلس العسكري».
ثم إنهم واصلوا الهجوم على محاولات صياغة الدستور، مظهرين إصرارهم على «إملائه» على المصريين جميعاً بلغتهم وشعاراتهم، وكأنهم الأكثر علماً والأعظم كفاءة في صياغة الدستور في مجتمع هو الأول في المشرق العربي الذي عرف الدستور… ثم ان علماء القانون الدستوري، فيه هم من كتبوا دساتير العديد من البلاد العربية، متكئين على دراستهم في أرقى جامعات العالم، وعلى علمهم الغزير بالشريعة، واحترامهم الشديد لحقوق الإنسان.
ولقد بالغوا في إظهار رغبتهم في احتكار السلطة عبر مؤسساتها جميعاً، فتصدر مرشحوهم الانتخابات الرئاسية، ولما اصطدم بعضهم بعقبات قانونية تمنع ترشيحهم كادوا يصطدمون بـ«المجلس العسكري» ورفضوا الموافقة على اختيار هيئة مستقلة تضم الخبراء وممثلي فئات الشعب المختلفة، إلى جانب أعضاء من مجلسي الشعب والشورى، تتولى إعداد الدستور الجديد.
وهكذا فإن سلوك الإسلاميين يتجاوز محاولات الهيمنة على مواقع القرار جميعاًَ إلى ممارسة قدر عظيم من الاستكبار على كل الآخرين، في الداخل كما في الخارج.
وربما نتيجة لهذا كله، اندفعت بعض فئاتهم، نتيجة أخطاء في التصرف أكثر منها أخطاء مقصودة، إلى المواجهة المفاجئة وغير المبررة بين جماعات سلفية والمسؤولين السعوديين عبر «محاصرة» سفارتهم في القاهرة… ولقد جاء الرد سريعاً ومتميزاً، بشراسة غير مألوفة من مملكة الصمت التي اشتهر نظامها بأنه ينأى بنفسه دائماً عن المواجهات، ويشتري الخلافات بالدولار، حيث أمكن.
إن تصرف القوى الإسلامية في مصر يثير المخـاوف من ارتداد عنيف إلى الخلف، عن الدستور والديموقراطية وحق الاختلاف، و«يبشر» بنزعة شرسة إلى مصادرة المستقبل بحجة الانتقام من ماضي الطغيان الذين لم يكونوا وحدهم ضحاياه… بل إنهم في فترات معينة كانوا شركاء له وساهموا في التغطية على طغيانه مقابل «رشوة» كانت تؤشر الى نوع من الشراكة.
ولا أحد يناقش حق الإسلاميين في المشاركة في السلطة، وبحسب القوة الانتخابية التي رفعتهم إلى مجلسي الشعب والشورى..
لكن المسألة أن الانتخابات التي جرت في ظرف معلوم، وضمن مناخات تثير شبهة التواطؤ مع «المجلس العسكري»، وتؤشر إلى النجاح في استدراج الموافقة الاميركية، والصمت الإسرائيلي عن نجاح هذه القوة التي كانت – في ما مضى – ترفع شعار التحرير ثم تخلت عنه (كما يتبدى من خلال نهج السلطة في غزة)… كل ذلك يدفع إلى الاشتباه في أن يكون النظام الجديد امتداداً في السياسة للعهد الذي ساهم في إسقاطه لوراثته، مستنداً إلى زخم انتخابي واضح، جسّد الرغبة في الانتقام من الماضي.
لكن الأسئلة المطروحة الآن تتصل بالمستقبل، وبموقع «النظام الجديد» من القضايا الكبرى التي هرب من مسؤولياتها، بل تآمر عليها النظام السابق، الذي يكاد مسلسل محاكمته يشابه المسلسلات التركية، بل لعله أردأ وأقل إثارة منها..
ويظل السؤال الأخطر: هل سيمنع الإسلاميون في مصر كتابة دستور يكون نموذجاً يُحتذى في بقية الأقطار العربية، ويحصن حركة التقدم نحو مستقبل أفضل ببناء نظام ديموقراطي يحفظ كرامة الانسان وحقه في وطنه ودوره في النهوض به إلى حيث يقدر بجهده وبعقله.
إن مثل هذا الهدف النبيل هو ما يتوقعه العرب جميعاً من مصر، ومن انتفاضتها المجيدة، التي ما زال الأمل أن تبني النموذج الذي تستحقه مصر: الدولة الحرة المنيعة القادرة على البناء ومواجهة عدوها القوي والمتحررة من النفوذ الأجنبي.
والغد أمر أجل من أن يترك فيه لفئة أو لحزب أو لتنظيم بالغة ما بلغت قوته التي لا يمكن فصل تأثير الظروف التي رافقت بروزها عن القدرة على تحقيق الأهداف التي انتفض الشعب من أجلها فملأت جماهيره ميادينها، لتفاجأ بعد وقت قصير بأن السلطة قد انتقلت ممن لا يستحق إلى من لا يستطيع منفرداً أداء مهمة جليلة كبناء الغد الأفضل.
ينشر مع جريدة «الشروق» المصرية