الأرض العربية مشاع والسماء العربية فضاء مفتوح، لكل قادر نصيب، وأهل الأرض ينتظرون نهاية الصراع بين الأقوياء، فوقهم ومن حولهم، لكي يعرفوا مصائرهم في دولهم، ان بقيت هذه الدول على حالها أم طرأ عليها تغيير بالحذف أو الإضافة.
خط النار يمتد من ســاحل البحر الأبيض المتوسـط إلى ساحل بحر العرب، ثم ينعــطف عبر مضيق باب المندب وسواحل اليمن فالسعودية حتى خليج العقبة، ومن هناك يتمدد عبر قناة السويس ليلاقي المتوسط عند بورسعيد.
سيناء بدورها صحراء مفتوحة وسماء مفتوحة، تتوغل فيها العصابات المسلحة وتتولى تهريب السلاح والرجال بذريعة نصرة شعب فلسطين في غزة. ولا بأس إن بقيت بعض أنواع الأسلحة مع «المجاهدين» الذين يقاتلون بالسلاح المهرب من السودان أو عبره (إذا كان المصدر يمنياً) ضد السلطة في مصر بالشعار الإسلامي، من دون أن توجَّه طلقة واحدة إلى العدو الإسرائيلي. بل يجري تطمين هذا العدو لضمان «حيدته» وتغافله عن قوافل السلاح التي تتخذ طريقها إلى غزة عبر الانفاق، أو تنحرف في وجهة سيرها نحو شمال سيناء متحدية الجيش المصري، بل كل القوى الأمنية المصرية كما جرى مع الطائرة الروسية التي انطلقت من شرم الشيخ وأُسقطت قبل العريش.
مصر تحت الحصار، فعبر الصحراء الغربية يتدفق سلاح منهوب من المشاع الليبي المفتوح، تحمله وتحاول الوصول به إلى «بر مصر» بالمدن والبلدات والنجوع في الطريق إلى القاهرة وما حولها، ومَن في «المحروسة» جميعاً من البحر وحتى أعماق الصعيد من دون إغفال النوبة.
السماء العربية، خصوصاً في المشرق الممتد بين البحرين الأبيض والأحمر، مفتوحة لكل من يملك طيراناً حربياً تسبقه سمعة جبروته أو يُوفد لكي يثبت قوته وتفوقه على الطيران الآخر، الذي كان (أو سيكون) معادياً.
السماء العربية مفتوحة لامتحان كفاءة الطائرات الحربية وطياريها، و «الأهداف» بمجملها «عربية».. والأرض العربية مفتوحة لعصابات القتل بالشعار الإسلامي تتمدد فيها، متخذة من البيداء المشاع ما بين الرقة والموصل، بل ما بين ضواحي حلب وضواحي بغداد مجال «حركة حرة» تدمّر العمران وتسبي النساء وتجنّد الفتية وتتاجر بالآثار حاملة الحضارة الإنسانية، وبالنفط عصب حضارة القرن الحادي والعشرين.
لا الأرض لأهلها العرب ولا السماء. لا البحر الصغير لهم ولا الطريق إليه وعبره. أما البحار الواسعة فهي للأقوى في الجو، ومن ملك الفضاء والمحيطات تحكم بمصائر الشعوب على الضفاف وصولاً إلى الدواخل.
لا ينتظر التاريخ حروب القبائل لاستعادة جغرافيا الخلافة الآتية من الخرافة. وعلى هامش الصراع على أرض العرب، بموقعها الحاكم استراتيجياً وبحارهم التي قد توصل وقد تقطع بين الامبراطوريات، مستولدة حروباً كونية تستعيد بعض صفحات التاريخ سياقها، تستفيق أحقاد كان الزمن قد طوى سيرتها وذكريات حروب، وتصادمات ما تزال مستقرة في وجدان المعنيين.
ألم تكن إسطنبول أو الآستانة هي هي القسطنطينية؟!
ليست تركيا أردوغان هي دولة الخلافة العثمانية، ولا روسيا بوتين هي الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. لكن تركيا ترى نفسها ـ بالشعار الإسلامي ـ مؤهلة لأن تكون دولة الخلافة بلا خليفة في المشرق، ودولة غربية كبرى في آنٍ معاً.
في المقابل، فإن روسيا بوتين ترى نفسها، بدورها الدولي الموروث عن الشيوعيين والقياصرة معاً، دولة قائدة بين دول العالم. لقد سقط الحكم الذي اتخذ الشيوعية عقيدة، لكن الدولة القوية بقدراتها ومخزونها من النفط والغاز والذهب والإمكانات البشرية لما تسقط.
أما العرب، فإن أكثريتهم تحمل قدراً لا بأس به من الود لروسيا التي لم تكن دولة استعمارية لبلادهم، بل ان الحكم الشيوعي فيها قد فضح التواطؤ الغربي على العرب فكشف معاهدة «سايكس ـ بيكو» سنة 1916 التي تقاسم فيها البريطانيون والفرنسيون بلاد المشرق العربي مع بداية الحرب العالمية الأولى، ممهّدين لإقامة المشروع الإسرائيلي فوق أرض فلسطين. ثم انها قد ساندتهم في معارك التحرر من الاستعمار الغربي الذي جاء وريثاً للاحتلال التركي بعدما أسقط عن رأسه عمامة الخليفة.
روسيا لم تغادر موقع «صديق العرب»، برغم كل التقلبات التي طرأت على أنظمتهم، فأعادت إخضاع دولهم للهيمنة الغربية بعدما تحوّلت من أوروبية إلى أميركية. ولقد تجرع الروس مرارة الانقلابات في السياسة العربية (قرار السادات بـ «طرد» عشرات آلاف الخبراء الروس من مصر، بعدما كانوا قد عززوا قدرات الجيش المصري فنجح في امتحان «العبور العظيم» الذي تغير مساره بعد القفزة الأولى نحو الصلح مع العدو الإسرائيلي).
ثم إن الرئيس التركي أردوغان يرى نفسه «سلطاناً» على المسلمين، والعرب منهم بشكل خاص، متحالفاً من فوق رؤوسهم مع عدوهم الإسرائيلي، متجاوزاً في ذلك «الغرب» الذي ما زال يحرص ـ أقله في الشكل ـ على مراعاة الحساسية الشعبية العربية. ومع ذلك، فإن الغرب يرفض منحه شرف العضوية في الاتحاد الأوروبي، برغم أنه «غرّب» لغته فاتخذ الحرف الافرنجي بديلاً من الحرف العربي مبتعداً بها عن لغة القرآن الكريم الذي استعصت عليه ترجمته لاصطدامها مع النص المقدس.
باختصار، فليس بين العرب ـ بمجموعهم ـ والروس، خصومة تاريخية أو تصادم في المصالح، بل إن نصف القرن الأخير قد شهد تعاظماً في التعاون شمل ـ مع السلاح النوعي وبعده ـ إنجازات مدنية مميزة بين أبرز شواهدها السد العالي في مصر، فضلاً عن العديد من مجالات البناء والدعم بالخبرات في حقول النفط والغاز.
مع ذلك، فقد تلقت روسيا ضربات معنوية شديدة الوطأة سياسياً في ليبيا ما بعد القذافي وفي السودان وفي العراق وفي اليمن، جنوبه أساساً ثم الشمال، فضلاً عن الضربة الكبرى التي تلقتها في مصر السادات والجاري التعويض عنها أو ترميم مجراها مع النظام الجديد في مصر، والتي قصدت جريمة تفجير طائرة الركاب الروسية في الجو بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ إلى نسف علاقات التعاون الجديدة، التي تشمل مجالات عدة عسكرية واقتصادية وتنموية مؤثرة على تنامي الاقتصاد المصري في اتجاه التعافي من بعض أزماته الخانقة.
لقد اختلف الحال الآن عما كان عليه قبل سنوات قليلة، انتشى فيها «السلطان التركي» أردوغان بعد وصول «الاخوان المسلمين» إلى سدة السلطة في مصر، نتيجة الغفلة او سوء التقدير، مما عزز سيطرة «الاخوان» في غزة، وشجع «إخوان» سوريا على إعادة تنظيم أنفسهم والتقدم لقيادة المعارضة بدعم تركي واضح عززه التمويل القطري، وأفاد من الخصومة المستجدة بين السعودية والنظام السوري في السنوات الثلاث الأخيرة، فتقدم لاحتضان الفصائل المقاتلة الأشرس في سوريا، «جبهة النصرة» أساساً، وغيرها من «الفصائل» لا سيما التركمانية، وصولاً إلى تأمين طريق «داعش» إلى العراق حيث اتخذت من الموصل «عاصمة» ترفد «عاصمتها» السورية في «الرقة» وتعزز قدراتها العسكرية بحيث تتقدم في اتجاه حلب وريفها، وهي التي لا تخفي تركيا طمعها في اقتطاعها من سوريا، استكمالاً للمنحة التي قدمها الغرب ـ مع تفجر الحرب العالمية الثانية ـ للحكم التركي كي يبقى على «الحياد». وقد تمثلت تلك المنحة باقتطاع بعض الشمال السوري (كيليكيا والاسكندرون) ليلحقه بتركيا، في استغلال شنيع لضعف سوريا التي كانت تحت الانتداب الفرنسي وعجزها عن رفض هذا الاعتداء العلني والموجع.
ذلك حديث في «الماضي». فما جرى لروسيا وفيها بعد إسقاط طائرتها الحربية عند الحدود التركية ـ السورية، قد بدأ يرسم مساراً جديداً للأحداث في منطقتنا (العربية) جميعاً، وليس العلاقات الروسية ـ التركية فحسب.
إن «مناخاً حربياً» يسود المنطقة، وهو يفرض تعديلات أو إعادة نظر في العديد من وجوه العلاقات بين دولها، لن يقتصر على روسيا وتركيا بل سيشمل دولاً أخرى، عربية وأجنبية.
المؤكد أن تركيا خسرت وتخسر يومياً من «رصيدها العربي»، في حين أن روسيا كسبت وتكسب كل يوم المزيد من الرصيد المعنوي في المنطقة العربية، تتجاوز التعاطف مع «الضحية» سواء في إسقاط «داعش» طائرة السياح فوق سيناء، او في إسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية فوق الحدود السورية ـ التركية.
والمؤسف أن العرب مختلفون إلى حد العجز عن استثمار هذين الاعتداءين لمصلحة أمنهم القومي، وقدراتهم الذاتية، وبالأساس لمصلحة انتزاع الاحترام لحقوقهم في أرضهم ولكفاءتهم في صنع مستقبلهم الأفضل.
والحرب مفتوحة أمام القادرين على خوضها واستثمار نتائجها لدى العرب ومعهم.. إذا هم حضروا، ولو متأخرين!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية