طلال سلمان

مع الشروق عن الإعجاب بلبنان وشعبه الأقوى من نظامه: لماذا تتهاوى الدولة المركزية العربية القوية؟!

حظي لبنان، دائماً، بتقدير عربي عال يستند الى كفاءات أبنائه وحيويتهم الفائقة وقدراتهم على التكيف مع الظروف الصعبة، بل المدمرة أحيانا، التي عاشوها في ظل التحولات الخطيرة التي شهدتها دولتهم المفقرة والمفككة الأوصال في سنوات الصعوبة التي لا تفتأ تتمدد وتتعقد حتى ليصعب علاجها.
بل ان هذا اللبنان الذي يبدو كأن مواطنه «أقوى» من «دولته»، والذي لا يضعفه غيابها، بل يستنفر فيه ملكاته ويدفعه الى مزيد من الاعتماد على كفاءته الشخصية وحسن قراءته للظروف المحيطة بوطنه الصغير وبالمنطقة من حوله، شكل نموذجاً فريداً يجذب الى تقليده واعتماد تجربته كدليل نجاح.
فكثير من الرعايا العرب «يحسدون» لبنان على ضعف دولته الى حد الانعدام أحيانا، خصوصاً وهم يعانون من «اليد الثقيلة» لدولهم على حرياتهم، عموماً، السياسية منها والاجتماعية والثقافية.
ولعل بعضهم، أو معظمهم، قد وصل به اليأس أو الخوف أو اندثار الآمال في قدرة دولهم على الإنجاز الى حد التمني أن يعيشوا مثل اللبنانيين بلا «دولة قوية» لا تظهر قوتها إلا عليهم، في حين انها ضعيفة أو مستضعفة في مواجهة الأجنبي وأصحاب المال والنفوذ من أهل السلطة فيها.
في العديد من دول المشرق والمغرب يحس «المواطن الطبيعي» بأن يد دولته ثقيلة عليه، بينما هي خفيفة جداً على من يضيق عليه هامش حريته أو يسد أمامه أبواب الرزق، في الداخل والخارج.
وليست أرقام الهجرة لكل من استطاع إليها سبيلاً، ولو عبر زوارق الموت، والى سجون الدول الأخرى، إلا الدليل الأكثر سطوعاً على اختلال العلاقة، وبشكل بالغ الخطورة، بين «المواطن الفرد» ودولته، بنظام حكمها الذي ينظر الى «الشعب» ويعامله كرعية عليها واجب الطاعة للقائم بالأمر، والتسليم بما يقرره له، باعتبار أن ولي الأمر أدرى بما يناسب الرعية، في كل مكان وفي كل زمان!
وعبر لقاءات متعددة وفي جولات كثيرة على بعض الدول العربية، كما عبر مقابلات شخصية في بيروت، كانت في أحاديث «الإخوة العرب» نبرة يأس من «دولهم»، تتبدى جلية من خلال إظهار غبطتهم للبنانيين على أنهم يعيشون بلا دولة، أو في دولة عاجزة، الطوائف فيها بزعاماتها المتهمة في وطنيتها والمدانة أحيانا بموالاتها للنفوذ الأجنبي، أقوى من «الدولة».
[[[
صارت «الدولة المركزية» في مجمل الأقطار العربية تعني استقواء السلطة على شعبها، والقمع المنهجي للأفكار والآراء والمعتقدات, (والأديان أحيانا)..
وصارت «الدولة المركزية» اسماً حركياً لأصحاب السلطة، وليست إطاراً وطنياً ناظماً للعلاقات بين المواطنين، يتساوون فيه أمام القانون في الحقوق والواجبات، ولهم في خير وطنهم نصيب يكفيهم شر الاغتراب عنه، ويوفر لهم الكرامة مع الخبز، والحرية في القول والعمل وفي اختيار ممثليهم ـ ديموقراطيا ـ وفق القواعد الحامية كرامة الإنسان، معارضاً كان أم موالياً.
من اليمن المشلعة الآن بالانتفاضات، معززة بالسلاح كما مع الحوثيين في صعده وما جاورها، وبالاعتراض على الحكم الى حد المطالبة بانفصال الجنوب عن الشمال، برغم ما تحفظه ذاكرة أبناء الجنوب عن زمن الانفصال من مآس وإخفاقات للكيان الفقير الذي اصطنعته وحمته إرادات أجنبية وحكمه التطرف في الشعار مع العجز عن الإنجاز، مما تسبب في مجازر جماعية نجمت عن اقتتال «الرفاق» في الحزب الواحد على السلطة ذهبت ضحيته زهرة شباب البلاد.
.. الى العراق الذي دمره حكم الرجل الفرد قبل أن يورثه للاحتلال الأميركي، فدخله المحتل بغير قتال، تقريباً، وباشر نهب ثرواته وتنظيم الفتنة بين أبنائه، محولاً وجوه التميز فيه ممثلة بتنوع عناصره، قومياً، (وان ظلت الأكثرية الساحقة عربية) ودينياً وعرقيا، الى مسببات لفتن ومجازر يومية هجرت منه، إضافة الى نخبه الفكرية والثقافية، بضعة ملايين من أهله الى كل من سوريا والأردن ولبنان (ولو بنسبة أقل ولذرائع تتصل بالانتماء الديني ـ العرقي)، فضلاً عن المهاجر البعيدة، الدول الاسكندنافية أساساً، ثم الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكل أرض قبلت بهم كلاجئين!
… فإلى السودان الذي تشلعه الدعوات الانفصالية المرتكزة حيناً على الافتراق الديني، وحيناً آخر على اختلاف العنصر الذي يصعب اعتباره قومية، والذي تعيش دولته المركزية الآن في ظل هواجس تقسيمها دولاً بحسب الأعراق والعناصر والأديان وطوائف القبائل، لا سيما وقد جاءتها البعثات التبشيرية بدين لم يكن معروفاً في تلك الأرض فصيرته «قومية» لتبرر به التقسيم الذي يجدد عهد الاستعمار القديم بشعارات دينية.
في هذه الأقطار، وغيرها كثير، لم تحم الدولة المركزية وحدة الوطن ولا كرامة مواطنيه وحقوقه في أرضه.
[[[
يمكن الاستطراد في الأمثلة بلا نهاية، فحيثما التفتنا في الدنيا العربية الواسعة تطالعنا أزمة العلاقة بين «الدولة المركزية» القوية جداً في الداخل وعلى مواطنيها المستضعفين الى حد الإلغاء، بينما هذه الدولة مستضعفة بل متهمة بالارتهان للخارج، فضلاً عن اتهامها بالعجز عن الإنجاز وتلبية الحد الأدنى من مطالب شعبها منها.
وبوجه الإجمال، حررت الدولة المركزية في مختلف الأقطار العربية ذاتها من المطالب القومية العتيقة، مما جعل من جامعة الدول العربية مؤسسة مشلولة، لا هي قادرة على الفعل ولا هي قادرة على الاعتراض… ونامت أحلام العرب في أدراج هذه الجامعة التي كانت، ذات يوم، معقل آمال الشعوب العربية في تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم في تعاون دولهم على طريق التكامل الاقتصادي، والمنعة في مواجهة المخاطر المصيرية وأولها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي يكاد يلغي أرضها بالمستوطنات التي تستوعب على مدار الساعة المزيد من المستوطنين، وتلتهمُ المزيد من ذلك الجزء من أرض فلسطين الذي كان مخصصــاً ـ نظرياً ـ لشعبها وصاحب الحق الوطني التاريخي فيها. هذا فضلاً عن أن إسرائيل الكبرى، دولة يهود العالم ترشح نفسها لأن تكون الدولة المركزية الوحيدة في هذا المدى العظيم الذي كان اسمه الشعبي، الى ما قبل فترة وجيزة «الوطن العربي الكبير»…
كذلك فإن الدولة المركزية العربية قد عززت أسباب قوتها الأمنية، على حساب جيوشها التي باتت عاطلة من العمل، اللهم إلا حين تستعر الخلافات بين «الإخوة ـ الأعداء»، ولأسباب تتصل بأمزجة الحكام وتحالفاتهم وأسباب سيطرتهم على الدخل، أكثر مما تتصل باعتداء من «جيرانهم» الذين كانوا أشقاء فانقلبوا أو «قلبوا» فصاروا أعداء أولى بالمواجهة من العدو السابق، المستكين، والمكتفي بالفرجة على اقتتال الإخوة، بينما تتزايد هيمنته على الدولة المعنية بقدر ما تضعفها المواجهة مع شعبها.
وهكذا فقد صارت أعداد رجال الشرطة، وبعديد يفوق أي تقدير، هائلة، تفوق أحياناً عديد الجيش وأسباب قوته، وتفوق بعديدها أيضا مجموع المنتمين الى الأحزاب كلها، موالية ومعارضة.
وبالمقابل انقلبت الجيوش التي كانت معدة لمواجهة العدو، الإسرائيلي أساسا والخارجي عموماً، الى قوى إسناد عسكرية للشرطة إذا ما احتاج الأمر الى «عمليات حربية» ضد الخصوم الداخليين تؤدبهم حتى يتوبوا عن الاعتراض على النظام.
[[[
يبدو كل شيء مقلوباً عند أصحاب السلطة في الدول المركزية في الوطن العربي، فبدل أن تكون هذه الدولة الإطار السياسي الحافظ لكرامة شعبها وأرضه، بالديموقراطية والعدالة والمنعة في مواجهة الضغوط الدولية لاستتباعه عن طريق محاصرته بحاجاته أو بنقص قدرات دولته وعجزها عن تلبية طموحاته، ها هي تتحول بسلطاتها ذات القدرات غير المحدودة، وغالبا على حساب مواطنيها الى أداة قمع وتأديب لشعبها، تارة بحجة «التطرف السياسي» وطوراً بحجة «التطرف الديني»، وغالباً بذريعة الحرص على طمأنينته وسلامه الأهلي… وهكذا ينفتح الباب عريضا أمام النفوذ الأجنبي في ظل الإضعاف المنهجي لقدرات الشعب وإمكاناته وتقييده بالقوانين البوليسية اللاغية للحرية.
وبالعودة الى لبنان حيث نظامه ابتدع خصيصاً لكيانه السياسي الذي أنشئ بقرار تجاوز إرادة أهله، فإن ضعف الدولة فيه مفهوم، إذ أبقيت عناصر القوة لطوائفه العديدة ولممثليها من أهل الطبقة السياسية الذين يحتكرون سلطة القرار في مختلف الشؤون، الاقتصادية أساساً، ثم إنهم يشكلون مرجعيات إجبارية لرعاياهم الذين لا تفيد ادعاءاتهم أو ادعاء النظام عن أنهم «مواطنون متساوون»، لان لا مواطنين في مثل هذا النظام ولا مساواة.
أما في الأنظمة التي تفترض أنها قد أقامت دولاً مركزية قوية فإن مواطنها هو الغائب أو المغيب فعلاً عن القرار فيها، وهذا يفتح الباب أمام الأجنبي ـ ومن ضمنه العدو الإسرائيلي ـ ليكون شريكاً في ما يصنف، غالباً، بأنه «القرار الوطني المستقل».
وليست ضرورية المقارنة بين أي من حكام الدول المركزية القوية في منطقتنا، والرئيس باراك أوباما الذي أعطي جائزة نوبل كشهادة على حيوية نظامه الذي بنى أقوى قوة في الكون من دون أن يجعل مواطنيه رعايا لطوائفهم أو خارجين على القانون لأنهم خرجوا في تظاهرات تطالب بالخبز مع الكرامة.
هذا مع التحفظ على الجائزة ومانحيها، خصوصاً وهي قد أعطيت من قبل لثلاثة من السفاحين الإسرائيليين!
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version