طلال سلمان

مع الشروق ## صراع الأنظمة العربية: من السياسة إلى الحرب الأهلية

أخلت الدول العربية ذات الماضي العريق موقع القيادة ومركز القرار، لأسباب عديدة، أخطرها داخلي يتصل بطبيعة النظام القائم في كل منها وقدراته ونجاحه أو فشله في التعبير عن إرادة شعبه، ومن ثم أهليته للعب الدور القيادي في المحيط العربي ومواجهة محاولات الاحتواء والهيمنة التي تبذلها الدول الكبرى وإسرائيل لمصادرة القرار الوطني والقومي.
وقد أغرى الفراغ دولاً طارئة على التاريخ والجغرافيا بأن تتقدم فتتصدى لمهمات جليلة تتجاوز قدراتها المادية، بالغة ما بلغت. فإن هي اصطدمت بجدار الواقع الصلب اندفعت إلى إعلان الحرب على النظام المعني، مستعينة بخصومه في الداخل، متحالفة مع الأعداء التاريخيين للبلاد المستهدفة بشخص نظامها.. بمن في ذلك العدو الإسرائيلي.
بصورة عامة، اختفت أو تكاد تختفي أدوار «الجمهوريات» في الوطن العربي ليخلو المسرح للأنظمة الملكية (السعودية أساساً ومعها الأردن ثم المغرب) وإمارات الخليج ذات الوهج الذهبي القادر على شراء «الدور» بالثمن، متكئة على الرعاية الأميركية أساساً والغربية عامةً، فضلاً عن غياب الدول صاحبة الدور القيادي حتى الأمس القريب.
كانت البداية مع خروج مصر من دورها الذي لم تكن تنافسه فيه سائر الدول العربية، خصوصاً وأن بعضها كان يسلم بشرعية قيادتها، والبعض الآخر كان أضعف من أن يشكل محوراً مضاداً، وإن حاول في حقبات معينة المشاغبة على هذا الدور، عبر تركيز الاتهام على «فرعونية» مصر التي تخرجها من «العروبة» أو ـ أقله ـ تطعن في أهليتها.
ثم تكفّل الصراع بين «الأنظمة الجمهورية» المعنية، لا سيما سوريا والعراق، أو مصر وسوريا، أو مصر وعراق صدام حسين، وبين ليبيا القذافي ومصر ثم بينه وبين سائر الدول العربية، في إضعاف الرصيد القيادي لهذه «الجمهوريات» ومعها «الجماهيرية» البدعة.
في الوقت ذاته، كانت أقطار الخليج تتبدى أشبه بجمعيات خيرية، تدفع مساعدات قيّمة لإبعاد انعكاسات الصراع عنها، وتندفع إلى توطيد علاقاتها بمن اعتبرته حامي وجودها في وجه الخطر الإيراني كما في وجه مغامرات بعض القيادات العربية، وبالتحديد صدام حسين في غزو الكويت.
لم تكن هذه الدول الغنية بحاجة إلى سند من التاريخ. ثم إن المال يشتري التاريخ والمؤرخين، فضلاً عن أن الماضي قد مضى ويمكن الاستغناء عنه أو إهمال دوره في الحاضر وفي إعادة صياغة المستقبل بالقدرات الفعلية وليس بتاريخ ما أهمله أو ما يتوجب أن يهمله التاريخ: «نحن أبناء اليوم، في هذه الدنيا المذهلة بإنجازات التقدم العلمي ووسائط التواصل الاجتماعي التي تخاطب المستقبل، أما الماضي فقد مضى ولا بد من تجاوزه وتركه لحكايات العجائز وذكريات ما قبل ثورة النفط».
تبدل معنى «الدولة» بقدر ما اختلفت مرتكزات وجودها عما كان سائداً في تعريف الدول، أكاديمياً: كم الدخل القومي وكم حجم الدين الخارجي، وكم هي القدرة على الإنجاز ودخول العصر، وبالتالي على لعب الدور، بمعزل عن التاريخ وعدد السكان وإنجازات الماضي القريب. المعيار هو القدرة على دخول العصر، ولا ينفع التباهي بالدور في الماضي القريب، فكم في قديم الزمان وسابق العصر والأوان من دول زالت وإمبراطوريات اندثرت وطواها النسيان؟
إذا توفر الذهب فليس أسهل من تحويل مدينة صغيرة في قلب الصحراء، رسم كيانها الأجنبي، إلى دولة ذات دور وذات نفوذ وذات تطلع إلى موقع مؤثر في القرار العربي. فإذا اجتمعت هذه الدول الصغرى بعدد سكانها، العظمى بمداخيلها، صارت هي مصدر القرار، أو افترضت في ذاتها القدرة على التصدي لمثل هذا الدور.
لنأخذ قطر مثالاً، ليس من باب الرغبة في التشهير، وإنما من باب الشهادة لها بالتصدي لأدوار تتجاوز قدرات دول كبرى وذات تاريخ كان يمنحها الجدارة بالدور القيادي.
فقطر، في هذه اللحظة، تمارس، أو تحاول أن تمارس دوراً خطيراً في مناهضة الحكم الذي انتهت به وإليه ثورة الميدان. وهي تجاهر بممارسة هذا الدور وترعى «الإخوان المسلمين» في الداخل كما في المنافي، وأبرزها تركيا التي يتولى مناصبها القيادية مسؤولون إخوانيون. كذلك، فقطر تجاهر بدعم أصناف المعارضة السورية كافة، السياسية منها والميليشيات المسلحة بتسمياتها المختلفة. ولا يقتصر الدعم على رعاية المؤتمرات المتنقلة لهذه المعارضة في مختلف عواصم القرار الدولي، فرنسا، الولايات المتحدة، فضلاً عن تركيا ومصر وقطر ذاتها، بل إن قطر تيسّر بالتعاون مع تركيا للمعارضة المسلحة إنشاء مراكز التدريب، وتأمين شحنات من أحدث وأخطر أنواع السلاح، بما في ذلك صواريخ التدمير الشامل، والآليات العسكرية، فضلاً عن مراكز القيادة والتوجيه المزودة بأحدث التجهيزات.
وفي تبرير الحرب على اليمن، قررت الممالك والإمارات العربية أن نظام الرئيس الممدد له استثنائياً، عبد ربه منصور هادي، هو خلاصة الديموقراطية، وأن الاعتراض عليه يتجاوز الكفر إلى تهديد الأمن الخليجي، ويفتح الباب أمام الخطر الإيراني، ويهدد الأمن القومي. وها هي حرب تدمير اليمن تدخل شهرها الثالث، وقد طاولت غارات «عاصفة الحزم» المنشآت العسكرية، ومقارّ حزب «أنصار الله» الذي يصر مَن خطط للحرب وينفذها على تسميتهم بالحوثيين (والحوثيون فرع من عائلة من الأشراف كان منها إمام اليمن أحمد حميد الدين)، تجنباً للقول إنهم من «الزيديين» أو «الزيود» وهم ليسوا من الشيعة الإثني عشرية، كالسائدة في إيران، وذات الدور البارز في لبنان بعد انتصار «حزب الله» ـ كمقاومة وطنية ـ على الاحتلال الإسرائيلي وإجباره على الجلاء، ثم تصديه للحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف العام 2006 ودحر العدو مهزوماً.
أما لرعاية هذه الحرب ونتائجها المتوخاة، فقد ذهب وفد ملكي فخم إلى البيت الأبيض في واشنطن، فالتقى الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي دعاه إلى «خلوة» في كامب ديفيد، يبدو أنها لم تحقق ما كان يطلبه منها الوفد السداسي الذي غاب عنه ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز وإن هو أوفد ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان لتمثيله.
المهم أن ملك السعودية وأمراء دول الخليج هم الذين يقررون للجمهورية اليمنية مصيرها، وهم يقررون نظامها الديموقراطي، وهم الذين يكافحون الخطر الإيراني بغارات الطيران الحربي المدمرة.
في هذا السياق يتبدى «الحوار» الذي تم تنظيمه للمذيع الإخواني أحمد منصور مع زعيم «جبهة النصرة»، المتفرعة عن «القاعدة»، أبو محمد الجولاني، كمحاولة لتلميع صورة هذا الإرهابي وتقديم «مشروعه السياسي» ليس لسوريا ـ الدولة فحسب، بل للشعب السوري وسائر الشعوب العربية، مع محاولة تجاوز القيد الطائفي أو المذهبي، بحيث يتبدى «الجولاني» وكأنه «مصلح اجتماعي» من طراز فريد، وقائم على مشروع سياسي مناقض لمشروع «قرينه» أبو بكر البغدادي وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
إن قطر تقدم، عبر «الجزيرة» وبشخص المذيع المصري الإخواني أحمد منصور، «البديل العصري» للنظام السوري، و «البديل المتحضر» لأبي بكر البغدادي، كأنما يفرض على السوريين (والعراقيين والليبيين وشعوب أخرى) الخيار بين إرهاب «القاعدة» أو إرهاب «داعش»، وكلاهما يحملان الفكر التكفيري نفسه ويعيشان في ما قبل التاريخ، وإن تيسر لهما الحصول على أحدث أسلحة القتل والتدمير، وأفادا من الفجوة القائمة بين مسلك النظام وطموح الشعب وحقوقه في وطنه في كل من العراق وسوريا.
مع التذكير بأن آخر «إنجازات» داعش تمثل باحتلال تدمر والعبث بآثارها التاريخية الباهرة التي تعود إلى أكثر من ألفي عام، والتي تجسد بعض حضارة بلاد الشام، فضلاً عن تدميره الآثار الكلدانية والأشورية في العراق بعد احتلاله الموصل، وتدمير أقرانه في «النصرة» وفصائل معارضة مسلحة أخرى في سوريا بعض أقدم الآثار الآرامية ـ السريانية في صيدنايا ومعلولا وقلعة الحصن.
وخلاصة الكلام: ليس أسهل من اللجوء إلى تفجير الحروب الأهلية في أقطار الأشقاء الآخرين، إذا ما شجر الخلاف السياسي بين الأنظمة، وتعهد النظام الأغنى تمويل المعارضة وتسليحها في البلد الآخر، غير آبه لما يصيب الشعب من كوارث قد تتهدد دولته ـ وليس النظام فحسب ـ في وجودها.
ولا مجال للمفاضلة طبعاً بين بلاد عريقة في تراثها الحضاري وفي ما كانت تعد به من إسهام في تقدم الأمة، وواقعها الراهن، وبين دعاة التغيير من الجهاديين بل الإرهابيين الجدد، لو ان أنظمتها احترمت إرادة شعوبها وعملت على تحقيق التقدم الذي يقدر شعبها على إنجازه، لو أنه مكن من اختيار نظامه ديموقراطياً بحيث يشعر بكرامته ويضع قدراته في مجال بناء بلاده وتقدمها.
أما تأكيد «الأخوة» بإشعال الحرب الأهلية، أو تحويل المعارضة المدنية إلى دواعش في بلاد الآخرين، فهو أقصى درجـات العداء وخيانة المصالح المشتركة والمصير الواحد.
] تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.

Exit mobile version