طلال سلمان

مع الشروق ## رئيس الأقلية في مصر لا يمكن أن يكون «رئيس العرب»

لم ينجح الأخوة المصريون في انتخاب «رئيس لكل العرب»، كما كان يتمنى إخوانهم في مختلف الديار العربية، مشرقاً ومغرباً.. بل أنهم، في ما أعلن من نتائج الاقتراع، لم ينجحوا في انتخاب رئيس لكل المصريين ولا حتى لأكثريتهم الساحقة… بل أنهم قد انقسموا فتوزعت أصواتهم على عدد من المرشحين مما يدلل على حالة انقسام جدية، وقد تكون خطيرة داخل مصر، فكيف سيكون الحال، إذن، من حولها؟
ومع انه ليس لعربي من خارج مصر، ابتدع النظام الطوائفي في بلده الصغير والجميل لبنان أسطورة «الديموقراطية التوافقية»، بذريعة أنها تحمي «الوحدة الوطنية» ومن ثم «الكيان السياسي»، أن يعترض على إرادة الناخبين المصريين الذين مارسوا حقهم في الاختيار، وللمرة الأولى، وأن يسائلهم لمن ولماذا أعطوا أصواتهم ليكون رئيساً للعهد الجديد.
لكن قد يكون من حق هذا العربي من خارج مصر أن يعبر عن قلقه من أن يتسلم أي من المرشحين اللذين حصلا على أعلى الأرقام وليس على الأكثرية المطلقة من أصوات الناخبين سدة الرئاسة في هذه اللحظة السياسية الحرجة، وهي انتقالية بطبيعتها، ودقيقة في دلالاتها، إذ هي تستبطن مخاطر مصيرية على الوطن العربي الكبير جميعاً، من أدناه اليمني الى أقصاه المغربي.
في واقع الأمر فإن رئيس مصر الجديد سيكون، من حيث المبدأ، «رئيس العرب جميعاً» ليس فقط لأن مصر هي اكبر دولة عربية، وليس لأنها الأسبق إلى الدستور فحسب، بل لأن «ميدانها» قد استولد قبل عام ونصف العام ثورة شعبية غير مسبوقة ضد طغيان الحاكم وتغييب الشعب، فبشرت بمستقبل زاهر يعوض ماضي العسف والقمع والفساد مدمر الدولة، وكل ذلك تسبب في أن يلحق بها الهوان في مواجهة عدوها الإسرائيلي، كما أدى إلى النهب المنظم لخيراتها بما أفقرها وأضعف مكانتها، وبالتالي أضاعها عن دورها وهويتها الأصلية فضاع معها المستقبل العربي جميعاً.
إذن فقد انتخبت مصر ما بعد الميدان، وحيث تعتمد الديموقراطية أساساً للحياة السياسية، لأول مرة في تاريخها، الرئيس الجديد للجمهورية الثانية، بل الرابعة إذا ما توخينا الدقة… فليست جمهورية السادات هي جمهورية عبد الناصر، أما جمهورية مبارك فخارج أي تصنيف!
وبرغم أن نتائج هذه الانتخابات لم تعكس إرادة الغالبية الساحقة من المصريين، إذ أن المرشحين الفائزين حصلا معاً وبالكاد على ربع أصوات الناخبين، إلا أن على الجميع أن يسلم بهذا الأمر… ديموقراطياً!
وقد يتساءل بعض «الفضوليين» عن مصير أصوات «الأكثرية» التي ذهبت إلى المرشحين الآخرين، وبالدرجة الأولى إلى حامدين صباحي الذي حل ثالثاً، برغم ضعف امكاناته المادية وتلاقي سيوف النظام القديم والإسلاميين بمختلف فصائلهم عليه، لكن اللعبة الديموقراطية قد حسمت الأمر، فأخرج من السباق، وإن ظل يمثل قوة مؤثرة سيكون لها دورها في المستقبل.
على أن الأسئلة الأخطر تتركز حول طبيعة الحكم الذي سيقوم في مصر، سواء انتهت الدورة الثانية بفوز الإخواني الدكتور محمد مرسي أو أمين سر النظام السابق الفريق احمد شفيق، مع احتمال أن يعقد الرجلان صفقة التقاسم بين ما يمثله كل منهما، فيتجدد «التواطؤ» الذي اشتبه المصريون بقيامه بين الرجلين وما يمثلانه: أي الإسلام السياسي ونظام مبارك، الذي أسقطه الميدان ثم تعثر شبابه عند عتبة استكمال التغيير الذي كانوا ينشدونه.
أبسط هذه الأسئلة هي: لمن سوف يعطي المصريون غداً أصواتهم، لممثل الإسلام السياسي أم لممثل النظام الذي خلعته الثورة؟
إذا كان التصويت في الدورة الأولى هو المعيار فإن الخيار المطروح أمام الناخب المصري غداً محدد تماماً: هل ستعطي صوتك لمن تراه الأقل سوءاً، والذي قد ترى انك لم تجربه حاكماً من قبل ولم يحظ بالفرصة التي تساعدك على الحكم عليه، أم ستنتخب رجل النظام القديم، الذي أسقطه الميدان بتهم عديدة هي هي الموجهة إلى حسني مبارك وبطانته، وبينها الفساد والإفساد وإهدار المال العام وإضعاف مكانة الدولة وإفقار الشعب والالتحاق بالمشروع الاميركي للمنطقة، الذي يقضي بتهميش الدور المصري وإشغال مصر بهمومها الثقيلة وإذلالها بشروط المساعدات، عسكرية واقتصادية؟!
وبديهي أن يحترق شباب الميدان بوجع الخيبة، وإحساسهم الثقيل بأن ثورتهم قد سرقت منهم، ولكنهم لا بد أن يقرروا ولو من باب دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر.
لا يريد المصريون، بطبيعة الحال، الرجوع إلى الخلف.. لكن التقدم إلى الأمام مستحيل، بمعايير اللعبة الانتخابية التي حوصرت بالتواطؤ المبكر بين الإسلاميين والمجلس العسكري، كما أعلنت النخب المصرية.. وهم يعترفون أنهم لم يواجهوا مسؤوليتهم بالتوحد خلف برنامج واحد، وهكذا وصلوا إلى صناديق الاقتراع مختلفين، فضاعت «أكثريتهم» عبر تشتتها على بضعة مرشحين، خصوصاً أنهم لم ينجحوا في نسج تحالف أو جبهة مع الأقرب فالأقرب إلى مطالبهم وشعاراتهم وأحلامهم في الدولة الجديدة.
ولأن مرارة الخيبة ثقيلة الوطأة، يرفض أي طرف أن يتحمل مسؤوليتها، فالخطر أن يسود الشقاق بين القوى التي جمعها الميدان وأن تعجز عن «عقد صفقة» مع «الأقل خطراً» من المرشحين المتنافسين على الرئاسة، فتضيع أصواتها هباء، إذ ينضم الشباب إلى «حزب الكنبة» موفرين فرصة عريضة للنظام القديم أن ينتصر فيجدد لنفسه، ولو باسم آخر، بينما «مؤسسه» ينتظر الحكم عليه بإفساد الحياة السياسية وتدمير الدولة وتعريض أمن الوطن للخطر.
والأمر مربك حتى لعربي من خارج مصر، فالخيار موجع، لأن أياً من المرشحين لا يمثل الميدان حقيقة.. وإذا كان «الإخوان» يعتبرون أنهم لم يتأخروا كثيراً في النزول إلى الميدان، فإن من يرون أنفسهم «الثوار» يتهمون الإخوان بأنهم نزلوا نتيجة صفقة مع المجلس العسكري بأن لا تمس الثورة امتيازات مؤسسة الجيش، قيادات وضباطاً، وأن يبقى له النصيب الوافر من ميزانية الدولة على حساب احتياجات المواطنين… علماً بأنه قد «تقاعد» مبكراً، فلم يعد له أي دور في مواجهة «العدو» وهو كان وسيبقى دائماً إسرائيل، وربطته المعاهدات والاتفاقات مع الحليف الاميركي فصار اقرب ما يكون إلى قوة إسناد له في منطقتنا مشرعة الأبواب أمام كل قادر على أخذها.
لقد أظهرت الانتخابات الرئاسية ما كان يمكن قراءته قبل إجرائها:
الأفضل تنظيماً وتماسكاً، والأغنى بقدراته المادية، هو من سيربح المعركة. ولم تكن مصادفة أن تنحصر المنافسة بين أهل النظام القديم ورموزه من قوى الماضي، وأبرزهم الإخوان، بقدراتهم المؤثرة، ومن خلفهم التنظيم الهائل عديده والغني بقدراته وشبكة التواصل مع الناس جميعاً في المدن كما في الأرياف وفي العاصمة كما في المغتربات..
ولم يكن حامدين صباحي آتياً من المجهول، بل كان صوت وجدان مصر… وربما لهذا اجتمعت عليه السيوف، وكاد المتحدرون من الماضي يأتلفون لمواجهته وإخراجه من دائرة المنافسة. ومع ذلك فهو قد حقق اختراقاً فاق جميع التوقعات، مؤكداً أن ثمة قوة شعبية وازنة تملك مشروعاً لنهضة مصر لا تعادي الدين ولكنها لا تقبل بالشعار الديني دليلاً الى المستقبل.
من هنا فقد قرر حوالي خمسة ملايين مقترع مصري أن يعطوا أصواتهم لحامدين، مع تقديرهم بأنه سوف يخسر «فلا يمكنني أن أعطي صوتي لرئيس موقعة الجمل، ولا لخط الإخوان الذي يكفرني»، كما قال بعض شباب مصر…
[[[[[
إن أي عربي من خارج مصر قد أسعده أن تنتج «المحروسة» هذا الإنجاز الديموقراطي الباهر، الذي يؤكد أن «الشعب» ليس بحاجة إلى وصي لكي يقرر ما يرى فيه مستقبله الأفضل.
ومع أن الكل يعيش حالة قلق على مستقبل مصر في ظل حكم أي من المرشحين الباقيين في الساحة، إلا أنهم يعتبرون أن هذا النجاح الطيب في ممارسة الديموقراطية، وبهذا الرقي، هو ضمانه للمستقبل، ولا بأس أن يتم امتحان «الإخوان» بالسلطة التي طالما طلبوها ولم يُمكنوا منها.
إنها المرة الأولى التي يذهب فيها المواطن إلى صندوق الاقتراع فيختار.. وبرغم عمليات الرشوة واستخدام الدين والتخويف من النظام القديم، فإن التجربة قد نجحت في فصلها الأول… حتى لو ظل الخوف على اكتمالها قائماً بامتداد هذه المرحلة الانتقالية.
والصراع مفتوح على المستقبل، وقد باتت له قواه واضحة الهوية. وانتخابات الرئاسة ليست آخر الطريق بل هي أوله، والآتي أعظم.
المهم أن يظل الصراع في إطاره الديموقراطي ولا تسبب قوى الماضي في إخراجه من هذا الإطار بما يفتح الأبواب أمام مخاطر انقسام المجتمع بما يعرض الدولة للانهيار في أتون الحرب الأهلية.

تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

Exit mobile version