طلال سلمان

مع الشروق دماء عربية للعيد الأول لباراك أوباما رئيساً

في مثل هذه الأيام من العام الماضي كان أهل النظام العربي قد انقسموا الى معسكرين متواجهين: من كانوا من الموالين للرئيس المنتهية ولايته جورج .و. بوش يرفعون أصواتهم مؤكدين الولاء لمرشح المحافظين من الجمهوريين خليفة له، في حين يندفع بعض المغامرين من أهل ذلك النظام الى تأييد المرشح ـ الاكتشاف باراك أوباما مراهنين على وسامته وبراعته الخطابية وبعض جذوره الأفريقية وبعض «الدماء الإسلامية» في عروقه.
أما في فلسطين المحتلة فقد واجه الإسرائيليون احتمالات التغيير في موقع الرئاسة الأميركية بالاندفاع الى حرب غزة لفرض أمر واقع جديد لن تستطيع «الإدارة الميتة» في واشنطن منعه، خصوصا أن المنافسة بين المرشحين كانت محتدمة للغاية بما يعطي إسرائيل الفرصة لكي تضرب غزة بالقنابل الفوسفورية والقنابل العنقودية ومختلف أنواع الصواريخ والقذائف الحارقة، فتهدم البيوت والمدارس ودور العبادة وحضانات الأطفال ومقارّ وكالة الغوث والمستشفيات، مستفيدة من انشغال أهل النظام العربي بمراهناتهم وتجنبهم اتخاذ أي موقف قد يزعج الإدارة الجديدة ويسيء الى مستقبل علاقاتهم معها… وهي هي المستقبل!
كان أهل النظام العربي يميلون ـ عاطفياً ـ الى أوباما، برغم أنهم لم يكونوا يعرفون عنه إلا أقل القليل. تكفي السمرة دليلاً على صحة التوجه السياسي!
وكان أن أغرقت إسرائيل غزة في دماء أبنائها، أطفالاً ونساءً وعجائز ورجالاً، بينما أهل النظام العربي يتحاشون أن تصدر عنهم «مواقف حادة» قد يرى فيها الرئيس الجديد إحراجاً له بينما هو يتقدم بخطى واثقة نتيجة التأييد الشعبي العارم في بلاده، معيداً ومستعيداً الذكريات الدموية العطرة لتحرك الزنوج طلباً للمساواة التي قادها مارتن لوثر كينغ قبل سنوات.
… واكتشف أهل النظام العربي أن مطلب المساواة أميركي بحت ولا ينطبق على حال الفلسطينيين في بلادهم التي يحتلها الإسرائيلي، ويقطع أوصالها ويفرّق بين أهلها بتصنيفهم درجات بحسب احتياجات استعماره: فمنهم إسرائيليون من الدرجة الثانية داخل «أراضي 1948»، ومنهم فلسطينيو المنطقة ـ أ ـ وفلسطينيو المنطقة ـ ب ـ وفلسطينيو المنطقة ـ ج ـ، وليس الكل سواء وليس من حق هذه «الشعوب» أن تتلاقى، وليس حق ابن منطقة في الأرض كمثل حق ابن المنطقة الأخرى في أرضه!
كانت الحرب الإسرائيلية على غزة الامتحان الأول للإدارة الأميركية الجديدة، وهو الامتحان الذي حدد لها مستقبل علاقتها بأهل النظام العربي وليس بالسلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على أي شبر في فلسطين بما في ذلك مقارها في رام الله، ناهيك بحرية حركتها فوق ما سلمت إسرائيل بأنها ستكون أرضها (مستقبلاً؟)، بل ان هذه الحركة محكومة بإذن المرور الذي لا يناله إلا الشخصيات المصنفة في.آي. بي (V.I.P ).
وعلى امتداد العام الأول من الرئاسة الأميركية تناقصت قيمة أهل النظام العربي في العين الأميركية حتى كادت تتلاشى: لم يعد مضموناً أن يستجاب لطلب أي حاكم عربي بتجديد موعد للقاء الرئيس الأسمر، بل لم تعد مقبولة حكماً الشفاعات التي يبذلها وسطاء نافذون من أجل استقبال هذا المسؤول العربي أو ذاك.
انتبه أهل النظام العربي، متأخرين، الى أنهم قد فقدوا اعتبارهم، وأن الإدارة الأميركية لم تعد بحاجة إليهم، خصوصاً أنهم قد فوّضوها في شؤونهم جميعاً: عهدوا إليها بقضيتهم التي كانت «مركزية» ذات يوم، فلسطين، تقرر فيها ما تشاء… ثم انهم أناطوا بها، سواء كقوة احتلال كما في العراق، أو كقوة هيمنة وسلطة وصاية، شؤونهم في مختلف دولهم المتهالكة على طلب الدعم أو المساعدة أو حتى الحماية.
ثم انتبهوا الى أساس الموضوع: لم يعد أهل النظام العربي يمثلون بلادهم وشعوبهم باعتبارها مشروع وحدة، أو مشروع اتحاد، أو أعضاء في جامعة تستمد قوتهم من تلاقيهم على أهداف مشتركة كأمة واحدة أو كدول مؤتلفة يتلاقى قادتها في قمم يمكن تلخيصها بصورة تذكارية.
لقد تفرقوا وتنازعوا واشتبكوا في حروب، وباتوا يتهمون بعضهم بعضاً بما كان حقاً حصرياً للإمبريالية والعدو الإسرائيلي والاستعمار القديم: كل منهم يرى الآخر متآمراً عليه! العراق يتهم سوريا مبرئاً الاحتلال الأميركي والقاعدة من التفجيرات ـ المجازر، واليمن المشلعة الأطراف بالفتن والمعارضات والخروج على نظام الحاكم المطلق تتهم إيران ومن معها، لتمد الاتهام ضمناً الى «حزب الله» في لبنان، والسودان يتهم الجميع بالتخلي عنه، بل يكاد يتهم بعض «أشقائه» بمناصرة الخارجين على وحدته ضد نظامه، ومصر مشتبكة مع الجزائر في حرب الكرة الى يوم الدين الخ…
خاب الأمل في أوباما: لم يساعدنا على لجم التطرف الإسرائيلي بل هو تراجع أمام نتنياهو، وكأنه واحد من حكام المصادفات في الدنيا العربية، وابتلع تعهداته العلنية بقيام دولة فلسطينية على بعض أرض أصحاب الأرض في فلسطين خلال أمد معلوم، بل إنه قد ندم على إطلاق تهديده لحكومة إسرائيل بوقف العمل في المستوطنات واستقدام المزيد من وحوش المستوطنين، ثم ارتضى أن يمن عليه نتنياهو بكلمات ملتبسة توحي بوقف البناء الجديد بينما إشادة البيوت الجديدة تستمر متجاوزة الحدود التي كانت مرسومة للقدس العربية، أو الشرقية، بما يجعل من المسجد الأقصى جزيرة محاصرة من جهاته جميعاً، بينما معاول الهدم في أساساته، قبل أن يمنع أذان الفجر فيها حتى لا تزعج «الله أكبر» آذان من يعتبرون الله أجيراً مياوماً يعمل في خدمتهم.
بالمقابل فإن إسرائيل قد أكدت سيطرتها على البيت الأبيض ومنعت أن يدخله أي موظف يراودها شيء من الشك في ولائه لها… وبحسب صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية ـ تاريخ 4/12/2009 ـ «يجب أن يمر كل شخص يعين في الحكومة الأميركية بفحص كثيف وشامل لخلفياته، والذي تجريه اللجنة الأميركية ـ اليهودية».. وأي أميركي يقترحه رئيس الولايات المتحدة للتعيين في حكومته يكون موضوعاً لموافقة اللوبي الإسرائيلي الذي يستطيع أن يمتحن المرشحين للتعيين كما يريد. وتقدم الصحيفة مثال تشارلز فريمان الذي كان الرئيس
الأميركي ينوي تعيينه رئيساً لمجلس الاستخبارات الوطني فحال اللوبي الإسرائيلي دون تعيينه مستشهداً بما دعاه «ثقافة فريمان المعادية لإسرائيل». كذلك فقد انتهت المحاولة التالية لتعيين مساعد لشؤون الاستخبارات تشاك هاغل بالتعرض لنقد واسع، لأن هاغل لا يملك سجلاً مؤيداً لإسرائيل. والآن تتعرض حنة روزنتال، وهي ابنة يهودية لأحد الناجين من الهولوكوست لحملة تستهدف منع تعيينها رئيسة للمكتب الأميركي لمراقبة معاداة السامية ومحاربتها. وكانت روزنتال رئيسة للمجلس اليهودي للشؤون العامة بين سنتي ألفين و2005. أما النقطة السوداء فجاءتها من خدمتها في المجلس الاستشاري للوبي «جيه.ستريت» المنظمة الأميركية اليهودية المعارضة للوبي الإسرائيلي التقليدي (ايباك).
[[[[[
خرج النظام العربي من دائرة التأثير على القرار الدولي عموماً والأميركي خصوصاً في كل ما يتصل بالشؤون العربية، برغم تخليه عن الطموح الى لعب دور في السياسات الدولية.
ومفهوم أن كل ما ينقص من قيمة العرب يضيف الى رصيد إسرائيل، دولياً.
ومن حق المواطن العربي أن يسائل أهل النظام العربي، بعنوان السلطة الفلسطينية، عن هدر فرصة ثمينة لإعادة شيء من الاعتبار الى الدم الفلسطيني المسفوح غيلة في غزة على يد الجيش الإسرائيلي، وهي الفرصة التي وفرها تقرير غولدستون (وهو اليهودي الصهيوني من جنوب أفريقيا) الذي تصرف كقاض فرفض العرب شهادته في إدانة إسرائيل وجيشها حتى لا يؤاخذوا على تطرفهم!!
وخطورة هذه الواقعة أنها تؤثر على احتقار النظام العربي لشعوبه وتجاهله لأهمية الرأي العام العالمي، وجبنه في مواجهة عدوه الإسرائيلي الذي يرفضه نداً ويصر على التعامل معه كتابع.
وكيف لا يتآكل الوزن الدولي للعرب والنظام العربي يتصرف كملحق بالأقوى.. ثم ان كل حاكم عربي يسعى لتأكيد مكانته على حساب دولته كما على حساب «أشقائه» الآخرين!
فأهل النظام العربي يتقربون من واشنطن على حساب فلسطين. بل ان رئيس السلطة الفلسطينية (والمطروحة شرعيته للبحث) يتقرب من تل أبيب وليس من واشنطن وحدها، على حساب قضيته المقدسة وحق الشعب الفلسطيني في أرضه. وليس فرضاً واجباً على الضعيف أن يوقع صك استسلامه حياً، وبإرادته. قد تكون البطولة أحياناً في رفض التوقيع، وترك الصراع مفتوحاً لمن يقدر على حسمه في ظروف أخرى قد تكون أفضل.
إن أهل النظام العربي يحاولون التقرب من واشنطن على حساب قضاياهم: في الأصل فلسطين، ومن ثم العراق، ومن قبل العراق على حساب سوريا ولبنان.
كل حاكم عربي يحرض على الحاكم الآخر مفترضاً أنه بذلك يزداد قرباً من مركز القرار. وهو قد يزداد قرباً، بالفعل، ولكنه يكون قد تحول من صاحب قضية الى تابع، ومن صاحب قرار الى منفذ رديء لقرار معادٍ لشعبه يصدره الأقوى باعتباره صاحب الحق بالقرار.
وليس السلاح مصدراً للقوة.
إن جبخانات بعض الدول العربية، تحوي من أصناف السلاح ما لا تملكه الدول العظمى، لكن هذا السلاح الذي تم شراؤه بالأمر ولا يمكن استخدامه إلا بالأمر ووفق مصالح من أعطاه ـ بالثمن الفاحش ـ وهو بالضرورة لن يستخدم ضد العدو الوحيد لهذه الأمة: إسرائيل.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ثلاثا من الدول العربية قد اشترت خلال ولاية جورج بوش من السلاح بما قيمته أكثر من خمسين مليار دولار. وعلى وجه الدقة فإن دولة الإمارات العربية المتحدة قد اشترت أسلحة أميركية بقيمة تناهز العشرة مليارات دولار، بينما اشترت السعودية بما قيمته 35 مليار دولار تقريباً، واشترى المغرب بما قيمته 5,2 مليارات دولار، ومصر بما قيمته 11,6 مليار دولار.
هذا في حين أنفقت الصين 16,2 مليار دولار والهند 13,5 مليار دولار.
[[[[[
خلال زيارة قامت بها وزير الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مؤخراً الى إسرائيل، وجهت كلامها الى اللوبي الإسرائيلي قائلة: «من الرائع أن أكون هنا معكم جميعاً، وبين كل هذا العدد من الأصدقاء، وأنا أشعر بأن هذا الحفل هو لمّ شمل عائلي عملاق، وأشعر وكأنني بين أفراد عائلتي. إن لدي التزاماً مبدئياً بأمن إسرائيل… ليبارك الله إسرائيل!!».
لو كان لأهل النظام العربي حساب لدى أصدقائهم الكبار في واشنطن لما جرؤت هيلاري كلينتون على التفوه بمثل هذه الكلمات… وهي على أرض عربية محتلة، حتى بمنطق الرئيس الأميركي الأسمر باراك أوباما.
بالمقابل فقد وجه البيت الأبيض التهنئة الى النظام اليمني على إنجازه الأخير، عبر المذبحة المنظمة ضد من وصفهم بمقاتلي «القاعدة»… علماً بأن هذه المذبحة ليست إلا دليلاً إضافياً على تورط الإدارة الأميركية في هذه الحرب التي باتت تهدد بتمزيق اليمن دويلات مقتتلة الى يوم الدين، خصوصاً أن بعض اليمنيين يجد من يموّله ومن يسلحه، وبعضهم الآخر من يقطع لهم تذاكر الذهاب مباشرة الى الجنة.
أما الجحيم فهو مخصص للعرب الذين يستظلون اعلام النظام العربي المقيم!

[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version