طلال سلمان

مع الشروق ## حوار مصري في بيروت … والأجوبة في قمة الكويت؟!

أخيرًا، أطلت مصر الثورتين على المشرق العربي وهمومه الثقيلة من بوابة بيروت.
جاء وزير الخارجية نبيل فهمي إلى بيروت، وهو في طريقه إلى القمة العربية في الكويت، فجال على قيادات سياسية ومرجعيات رسمية ومعها بعض رجال الظل بأعداد تفوق من لقيهم، بعد ذلك، في الكويت. ففي لبنان الذي تشطر سياسيًّا على قواعد طائفية ومذهبية، لم يعد «الرئيـس» هو المعبر الوحيد عن «الدولة»، ولا حتى عن طائفته. صارت الطائفة احزابًا، وصار «المذهب» جماعاتٍ، وصار في لبنان من «المرجعيات» السياسية ـ الطائفية ما يكفي لملء المقاعد في الجمعية العامة للأمم المتحدة… خصوصًا أن كلًّا من هذه «المرجعيات» يمكن اعتمادها «ممثلا لدولة» أو أكثر من دولة.
استمع الوزير حاضر الذهن والنكتة إلى أشتات من المواقف تشابه في الشكل أشتات الكلام التي تعجز غالبا عن حمل المواقف أو التعبــير عنها كالتي تضج بها القاهرة هذه الأيام، مع اختلاف الوجهة والمضمون. وانتبه إلى أنهم كانوا ينتظرون منه أكثر مما أعلن من مواقف، كما انتبهوا إلى انه قد جاء ناصـحًا وصاحــب رأي أكثر منه موفدًا بخطة تمـهد لمشـروع حل للأزمة في لبنان التي تكاد تختصر وتلخص مجموع المشكلات المتفجرة في المنطقة العربية، مشرقًا ومغربًا، وإن ظل العنوان الأصلي: الحرب في سوريا وعليها.
… وإذا كان لبنان الرسمي قد ابتدع سياسة هجينة شعارها «النأي بالنــفس»، فإن مصــر ما بعد الثورتين قد نأت بنفسها عن الموقف الرسمي السلبي الذي بلغ مع الرئيس المخلوع الدكتور محمد مرسي حد الجهر بتبني شــعارات المعارضة السورية وقطع آخر ما تبقــى من علاقــات رسمية مع النظام السوري، فأبقت على السفــارة في دمشق (ولو بغير سفير) بما يؤمن الاتصال والتواصل.
ولأن توقيت زيارة الوزير فهمي بيروت جاء كمحطة له في الطريق إلى القمة العربية في الكويت، فإن أجوبته على أسئلة المسؤولين اللبنانيين كانت تؤشر إلى أن واحدة من الأزمات التي ستهيمن على مناخ القمة وتؤثر فيه هي مسألة الدور القطري الذي كان إلى ما قبل سنتين مهيمنًا على القمة والجامعة وقد بات الآن مصدر الأزمة الأولى وربما الأخطر التي ستواجهها القمة والجامعة.
لقد تبدلت الأحوال، بل هي انقلبت رأسًا على عقب، فبدل أن تكون قطر هي عربة القيادة ومصدر الأمر والصندوق الممول للخلافات والحروب، القادرة على التحكم بقرار الجامعة ودورها، ها هي الآن مصدر الأزمات، «مطرودة» من مجلس التعاون الخليجي، مطاردة ومرفوضة في معظم ساحات العمل العربي المشترك… وهذا التطور قد يريح أهل القمة، لا سيما مضيفها الكويتي، لكنه لا يفتح الباب لتغيير جذري في «الموقف العربي» من الأزمة السورية، هذا إن كان قد أمكن بلورة موقف واحد، أو مشروع موقف موحد من هذه الأزمـة على مستوى القمة، مع الأخذ بالاعتبار القوى الحاكمة في هذه القمة التي يصعب تصورها مكـتملة النصاب ومؤهلة لاتخاذ قرارات حاسمة، وفي الاتجاه المغاير لما اعتمدته من قرارات خلال السنوات الثلاث الماضية.
لقد انتهت مرحلة «الهيمنة القطرية» على الجامعة بكل فضائحها التي ضربت صورة الجامعة العربية ودورها وحولتها إلى «دائرة إجراء» مهمتها أن تتولى تحويل الأزمات العربية إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة، أو ــ وهذا هو الأخطر ــ إلى مجلس الأمن الدولي، أو حتى إلى الحلف الأطلسي، كما جرى مع الانتفاضة في ليبيا ضد العقيد معمر القذافي.
غاب «الحمدان» عن المسرح، لكن قطر لا تزال «عقدة» في العمل العربي المشتـرك، خصـوصا بعدما تفاقم خلافها مع «أهل البيت» في مجلس التعاون الخليجي. وهو ما سوف يؤثر سلبًا في أعمال القمة، إلا إذا تقدمت مصر، متـجاوزة مشكلتها الحادة مع قطر، أو مستفــيدة مـن أن هذه المشكلة قد صارت «عربية»، لتفـرض إعادة نظر جدية ليس في دور قطر بالــذات، بل في النتائج الكارثية على الجامعة ودورها نتيجة هيمنة الأصغر على الأكبر، بل على مركز القرار العربي عمومًا.
من هنا، فإن قمة الكويت ستشكل، بالرغبة أو بقوة الأمر الواقع، نقطة تحول في العمل العربي المشترك، ليس فقط حيال الموقف من قطر ومغامراتها، بل أساسا في محاولة بلورة موقف عقلاني مقبول في مواجهة التطورات الخطيرة التي تعصف بالمنطقة جميعًا، حاملة النذر بتفجر مسلسل من الحروب الأهلية ذات الشعار الطائفي أو المذهبي باتساع الأرض العربية، مشرقًا بالأساس، مع احتمالات التمدد إلى المغرب. فالنار الليبية لن تبقى محصورة داخل حدود هذه «الدولة» التي ألغاها «قائدها»، بل هي مرشحة للتـمدد شرقاً وغربا وجنوبا، وفيها من السلاح ما يكفي لكل من يحتاجه.
ونعود إلى جولة الاستماع متعددة الصوت التي تعرف خلالها وزير الخارجية المصري إلى مصادر الغنى في الفلكلور السياسي ــ الطوائفي اللبناني.
لم يكن الوزير فهمي، الذي عاش معظم عمره المهني خارج مصر، بل وخارج العالم العربي، بحاجة لأن يقدم لمضيفيه اللبنانيين متعددي المواقف، وكلها تقريبا ذات جذور طائفية تفيد في الاستثمار السياسي، شرحًا تفصيليا لظروف مصر، في هذه اللحظة الانتقالية التي تعيشها في الفاصل بين عهدين، تمهيدًا لأن يعلن أن بلاده لا تستطيع أن تعطي الكثير، ولا كان «القياديون» في لبنان، رسميين وحزبيين، وإن غلب على مجموعهم التمثيل الطوائفي، ينتظرون «مبادرة مصرية» تستهدف جمعهم وتوحيدهم.
فهو يدرك، وهم يعرفون، أن ساعة تقدم مصر نحو دورها القيادي في منطــقتها لما تحــن، وإن كان ضروريًّا أن تعلن مصر وأن يعرف الجميع أن مصر في طريق العودة إلى ذاتها وبالتــالي إلى دورها الجامع، خصوصاً أنها مبرأة من شبهة التطرف الديني أو الانحياز المذهبي، وأنــها اكــبر من أن توظف في خدمة مــشاريع الغــير. ثم إنها مطالبة بأن تنجز مشروعــها العربي الخاص، انطلاقًا من موقعها القيادي ــ كمرجعية ــ تعصمها من شبهة الانحياز المذهبي، وتلزمــها باتخاذ «موقف قومي جامع» يتجاوز بالضرورة مصالح الطوائف والمذاهب… فشعبها معروف بإيمانه الصوفي الذي يتجاوز المذهبيات والطائفيات، وحجمها اكبر بكثير من أن يغرقها التعصب.
ولقد كان نبيل فهمي واضحاً في التأكيد أن مصر لا بد عائدة إلى لعب دورها في الوطن العربي.
وكان لافتًا أن يقول الوزير فهمي أن رئيس الجمهورية في مصر كان يلح عليه منذ بعض الوقت بأن يأتي إلى بيروت فيسمع من القيادات فيها، على اختلافها، عن جوانب للصــراع ليــس لها صدى في مصر التي تـشكل ربع العــالم العربي.
«لا أعد بشيء لا استطيع إنجازه، وموقف مصر من التدخل العسكري الأميركي واضح، وأنا ذهبت مرتين إلى موسكو خلال ستة أشهر والتقيت قياداتها، ولم اذهب بعد إلى واشنطن، وأنا لا استبدل أميركا بروسيا. وبرغم كل الضغوط فان خيارات مصر يجب أن تبقى متعددة. وفي إيران رأي عام حي، والوضع السوري بالغ التعقيد ولكن لا بد من التعامل معه، واللاعبون غير السوريين أكثر من السوريين. والخلافات بين السعودية وإيران سياسية، وفي السياسة هناك دائمًا حلول، أما من يحول الخلاف السياسي إلى تاريخ حروب الطوائف، فإنه يريد أن يستثمر الخلافات وان يديمها من اجل مصالحه وعلى حساب طرفي الاشتباك».
وختم فهمي مطالعته بالقول:
«لا مجال لرفاهية الانتظار. قد لا نبالغ في خطاب العروبة، لكن العروبة هويتنا، وهي من ركائز الأمن القومي المصري، ومن يريد أن يخطف مني هويتي ويجعلني طائفيًّا إنما يهدد الأمن القومي المصري».
مصر، إذًا، ستلعب دورها العربي. وهي الآن تعمل، بهدوء، لاستعادة هذا الدور، بقدر ما تسعى للحصول على استثمارات تساعد على إنهاضها اقتصاديا.
هل هذه المعادلة ممكنة؟ وهل الطرف القادر على الاستثمار سيغلب هويته العربية على منطق الربح الذي لا يعترف بالهوية؟!
ذلك هو السؤال. بل انه واحد من أسئلة هذه المرحلة الصعبة، في مصر أساسا، ثم على امتداد الدنيا.

تنشر مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version