طلال سلمان

مع الشروق ## حوار عربي حول مصر ـ الثورة: الكلّ ينتظرها.. وهي بحاجة إلى الوقت

تلاقوا بالمصادفة في بيروت: ثلاثة من عرب المشرق، بينهم سوري وعراقي ويمني، في ضيافة صديق مشترك لهم من لبنان. وبغير تمهيد باشر كل منهم يبث شكواه إلى الآخرين بينما مضيفهم اللبناني مأخوذ بمتابعة أخبار التفجير الأخير الذي ضرب مركزاً ثقافياً يجاور مدرسة للأطفال الأيتام.
قال السوري: إنه آت إلى بيروت لعله يعرف فيها ومنها آخر أخبار مأساة بلاده بتفاصيلها المأساوية الدامية وأبعادها السياسية، وانه كان يأمل «أن تتقدم مصر بثورة الميدان فيها لنجدتنا، عبر عودتها – ولو تدريجياً – إلى دورها الذي لا غنى عنه».
قال العراقي: كنا نشفق عليكم في سوريا كشعب شقيق وكبلد جار.. أصارحك أننا الآن مشغولون عنكم بمأساتنا. إذ كلما داوينا جرحاً في ارض الرافدين سالت جراح جديدة. إن مسيرة الجنائز الجماعية تكاد لا تتوقف.. ومثلكم أسعدتنا ثورة الميدان في مصر، وتوقعنا منها الخير، وما زلنا نتوقع أن تعود، ولو تدريجياً، إلى دورها الجامع. إن مجرد وجود مصر معافاة سيدخل الاطمئنان إلى نفوسنا حول غدنا.
قال اليمني: وماذا عنا نحن؟ إن دولتنا ما كانت لتقوم لولا مصر… وها هي دولتنا طرية العود مهددة بالتفكك والعودة إلى ما قبل وحدتها، بل وما قبل ثورتها، سلطنات ومشيخات وإمام من خارج العصر. وطبيعي أننا نفتقد مصر، وإننا ننتظر أن تساعدنا، مرة أخرى، فتحمينا من المتدخلين في شؤوننا، وكل منهم له غرض، ونحن ضحية خلافاتنا التي توسع لهؤلاء، على اختلافهم في ما بينهم، مساحة التدخل.
التفت الثلاثة إلى مضيفهم اللبناني فقال: ونحن مثلكم، ننظر إلى مصر كضمانة لوحدتنا الوطنية، خصوصاً وأن سوريا غارقة في دمها وهي بحاجة إلى من ينقذها.. وربما كانت مصر وحدها التي تحظى بإجماع لبناني على دورها، فهي أبعد من أن تكون لها مطامع أو أغراض وهي قريبة بحيث تطمئن الجميع.
دار النقاش على مدى ساعتين، وكان حيوياً وصادقاً.. وقد جاء ضيف مصري فدخل «ميدان» الحوار محاولاً تهدئة الحماسة باستذكار وقائع الصعوبة. قال: إن مصر التي نتحدث عنها بعد ثلاثة ميادين أسطورية بحقائقها مبدلة التاريخ، وثورتين باهرتين أسقطتا الظلم بالقمع والتعتيم بإطفاء نور الدين بالتعصب الجاهلي، هي غير مصر التي عرفتموها نوارة ومصدراً للتنوير، فوارة بالثورة ومصدر دعم للثوار في كل ارض. هي مصر التي تحاول الآن استعادة روحها ليمكنها العودة إلى دورها، وهي مصر التي تجتهد الآن للتعرف إلى ذاتها قبل محيطها. إنها مصر أخرى، لا هي مصر الخمسينيات ولا مصر السبعينيات، لا هي مصر «كمب ديفيد» وإن كانت لا تزال عالقة فيه أسيرة، ولا هي مصر الميدان وإن كان ما زال مفتوحاً بإرادة التغيير. لا هي مصر جمال عبد الناصر وإن كان طيفه ما زال يغمرها بالأمل، ولا هي مصر «الإخوان» الذين حاولوا إطفاء الشمس.
نبر العراقي بشيء من المكابرة: مع ذلك فمجرد تقدم مصر وعودتها إلى ذاتها يمنحنا الأمل.
قال الضيف المصري: ولكنها آتية من البعيد البعيد، زمناً وتبدلاً، فقد غربت عن روحها، وغربت عن دورها، وغربت عن محيطها الذي ضربته غربة أخرى، فتاه حتى الغرق في بحر من دماء أهله، بعدما وجد من يفرّط بها رخيصة ووجد من يشتريها بالأسود من الذهب في الفتنة التي توظف الآن لحماية العروش من ميادين الغضب والثورة لاستعادة كرامة الإنسان. ويُخطئ من يتوقع أن تعود مصر إلى دورها الذي لا بديل منه غداً أو بعد شهر أو سنة. إنها الآن غارقة في همومها… ولسوف تكون مشغولة عنكم زمناً طويلاً. فهي سوف تتصدى لكتابة التاريخ من جديد وهذه مهمة قاسية وبطيئة ومكلفة. ستكون حرباً مفتوحة مع وقائع صلبة أرستها عهود التغرب عن الذات والالتحاق بالآخر لقوته وضعفها، والشعور بالمهانة والرغبة بالتعويض السريع عما ضاع مع الخوف من المغامرة.
وأضاف الضيف المصري يقول بمزيج من المرارة والتمسك بالأمل:
– يخطئ من يفترض أن انتصار الميدان في معركة إسقاط الطغيان سيبدل الواقع الذي فجر الثورة بمجرد إحالة النظام العجوز إلى التقاعد وإسقاط النظام البديل الذي زور هويته مخادعاً حتى إذا ما تمكن كشف عن مشروعه الانقلابي الذي من شأنه أن يخرج مصر من ذاتها، من دورها، ثم يخرج بها على أمتها. كل ما في مصر مهدم أو آيل للسقوط: في إدارة الدولة والقطاع العام، في الاقتصاد، في التعليم، في الزراعة، في الأمن… والحمد لله أن شرط حياة النظام القديم الساقط كانت تفرض عليه الحرص على الجيش، وإلا لكان أصابه من التخريب والتهديم ما أصاب سائر مؤسسات الدولة التي تتبدى الآن خربة خاوية على عروشها. حتى في أبأس أيام العهد الملكي، كانت مصر أفضل حالاً منها في أزهى أيام العهد الجمهوري في الأربعين سنة الأخيرة، والذي لا علاقة له بالنظام الجمهوري المعروف في الدنيا، بل هو أقرب إلى نظام ملكي مشلول. ولقد انهكت مصر، عبر «الميدان»، بحكم الفرد الواحد العاجز الذي أوصلته المصادفات إلى سدة الرئاسة فصّغر مصر لتغدو بحجمه بعدما عجز عن الكبر ليغدو لائقاً برئاستها. صحيح أن الأكثرية الساحقة من المصريين قد تلاقت على رفض الديكتاتورية عسكرية أو دينية، وأنها نزلت بالملايين إلى الميدان، أكثر من مرة، لكنها لم تكن موحدة في أهدافها، محددة في مطالبها.
قال السوري: نعرف بتجربتنا المرة ان نزول الجماهير بغير خطة عمل ومنهج لا يمكن أن يحقق الثورة بأهدافها الموعودة. إنها قوة معطلة. هي فرق وأشتات يجمعها رفض القائم بالأمر ثم يفرقها غياب التنظيم الموحد، او الجبهة الموحدة ذات البرنامج الواضح والمحدد. ولكن الانجاز الأعظم لثورة مصر أنها أسقطت الحكم بالشعار الديني.
قال اليمني: تدل تجربتنا في اليمن أن الأكثرية الساحقة قد تتلاقى على رفض الديكتاتورية، عسكرية او دينية.. لكن هذه الأكثرية ليست كتلة صماء، بل إن فيها تيارات متعددة، واتجاهات مختلفة، بعضها عتيق والأصح أنه معتق يعيش في ماضيه، وبعضها مستحدث استولد على عجل، والبعض الثالث خليط من بواق من عهود سابقة مع وجاهات كان لها وجودها في مختلف العهود لأن طبيعتها التحاقية.. وهذه تجربتنا في اليمن خير شاهد. لقد ذهب زمن الإجماع المُصنع. ثمة آراء مختلفة ووجهات نظر متباينة.. والخطر أن يضيع الوقت المن ذهب في صراع عبثي بين رفاق السلاح، عسكريين ومدنيين.
قال المضيف اللبناني: علينا نحن العرب خارج مصر أن نصبر عليها وهي تجتاز حقول الألغام في طريق العودة إلى ذاتها وإلينا.
وانتهى الحوار إلى خلاصة محددة:
إن أمام الحكم باسم الثورة في مصر مهمات شاقة ومصاعب جمة، في الداخل، وفي المحيط العربي، وعلى الصعيد الدولي. وسيكون عليه أن يعيد النظر في تركة الماضي، وهي ثقيلة جداً، بكل ما ترتبه من التزامات تجاه الخارج البعيد، الغرب بالقيادة الاميركية، والغرب الثاني بالقيادة الإسرائيلية، والأنظمة العربية الموزعة بينهما، والمتربصة بالثورة في مصر تحاول استرهان قرارها بالذهب أو خنقها بالحصار الناعم. ولسوف تكون مصر في المدى المنظور مشغولة بهمومها الثقيلة في الداخل، وقد يفيد الخارج من هذا الانشغال لكي يحاصرها «بعربه» ومعهم إسرائيل، محاولاً استغلال الاضطراب في الداخل والحاجة إلى التمويل للنهوض وإعادة الروح إلى الدولة العميقة.
مع ذلك فقد انتهى الحوار بعودة الجميع إلى «الحتمية التاريخية»: لا بد من مصر لأي تغيير نحو الأفضل في سائر البلاد العربية، فمصر تجمع ولا تفرق… ولا نستطيع تصور غد عربي أفضل من دون مصر، وهي بالتأكيد آتية لتصنع مستقبل أهلها وهو مدخل المستقبل الأفضل للعرب جميعاً.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version