طلال سلمان

مع الشروق تفاصيل صغيرة عن الفساد الذي يدمّر دولة كبيرة: الشعب يريد .. ومصر قادرة!

من لحظة دخولك المطار، المزينة بوابته العريضة بالآية الكريمة «ادخلوها بسلام آمنين» الى معبر الخروج، من مصر المحروسة، عبر «ميناء القاهرة الجوي» بكل الفوضى التي تسود أرجاءه الفسيحة، برغم تعدد عمليات التصليحات والتجديد، كان السؤال الذي يطارد أي زائر لمصر طوال وجوده فيها: الى متى يستمر سكوت الشعب المصري على هذا الواقع المتردي بل «المهين» لكرامته الإنسانية والذي يعيش فيه، حياة لا تليق بتاريخه ولا بكفاءاته وقدراته فضلاً عن حقوقه؟
في البدء: أمر دخولك. فلا التأشيرة التي حصلت عليها من السفارة، تحوطاً وبرغم عدم حاجتك اليها، قانونا، كافية للإذن لك بإكمال طريقك بسلام، ولا سؤالك عن سبب تأخيرك ستسمع له جواباً شافياً. كل ما عليك أن تنتظر متأملاً مواكب مغادري المطار، وان تتعرف الى «الحالات المشابهة» بين ركاب مختلفي المنابت والأعمار والجنسيات (العربية تحديداً) والمهن، وبينهم نساء وأطفال وعجائز، حتى يأتي «الإذن» بغير تفسير أو توضيح: تفضل أهلاً بك، مصر بلدك.
… هذا اذا ما تيسر لك أمر الدخول من دون شفاعات ووساطات قد تلامس مراجع عليا، في مباحث أمن الدولة أو المخابرات، تنتهي بالإفراج عنك مع اعتذار بالتلميح الى أن «موظفاً غبياً» قد وضع اسمك على لائحة «الممنوعين»، وان لا بد من «مكافأة» لهذا الذي خالف القانون فسمح بدخولك، أنت الخطر على النظام وعلى سلامة مصر المحروسة التي طالما تطلعت اليها بأمل، فتدفع لتتباهى – في ما بعد – بأن حبك لمصر جعلك تنتصر على كل أولئك المسيئين الى كرامة مصر مجتمعين.
فالضابط بالنجوم العديدة على كتفيه يمد يده لتلقف الرشوة باعتبارها «فرض عين»، وموظف الجمارك يطلب له ولزملائه معه، والمدير في شركة الطيران يتلقف الرشوة بوصفها بعض «الإجراءات الطبيعية»، وسائق التاكسي يطلب «إكرامية» للشرطي ليسهل لك العبور، ومدير الفندق لا يجد حجزك المؤكد حتى ينال «المعلوم» فيعتذر منك بالفوضى ثم يغمز لك بأن «تكرم» زميله الذي سوف يصحبك الى غرفتك التي تكتشف انها تتطلب إصلاح «خلل» في الهاتف، واضطراباً في شاشة التلفزيون ونقص المناشف في الحمام، ولكل من تلك المهام الطارئة إدارة بمدير واختصاصيين لا بد من «إكرام» كل من جاء ثم من استقدم من هو أعلى كعباً في «خدمة الزبائن».
تشتري أكواماً من «الصحف القومية» والمجلات والملحقات الصادرة عنها (والحديث، طبعاً، عن زمن ما قبل ثورة 25 يناير) فلا تكاد عيناك تتوقفان – قبل طوفان النفاق المبتذل وبعده – عند سبق صحافي، أو عند خبر خاص، أو عند تحقيق جدي، بل هي أقرب – جميعاً – الى النشرات الحكومية في بلد متخلف، وليس في عاصمة الصحافة والثقافة والأدب والفن، فضلاً عن الدور القيادي السياسي المؤهلة له والمسلم به في دنيا العرب، وفي العالم، بوصفها عاصمة العرب. تراها أقرب الى النشرات الخصوصية التي يأمر بإصدارها بعض شيوخ النفط لتنقل «نشاطاتهم» الى العالم مع حرص دقيق على «التراتبية» بين الأبناء والزوجات والأصهار والمعاونين، وبعد ذلك يمكن الالتفات الى ما يجري في العالم.
[[[[[[
هذه لمحة بسيطة عن مصر التي يفجع واقعها زائرها المحب، قبل التوغل في شؤون السياسة، والدور المفتقد لقاهرة المعز في صنع القرار، عربياً ودولياً، وارتهانها للهيمنة الاميركية وللتوغل الإسرائيلي الى حد نهب بعض ثرواتها الطبيعية (النفط والغاز) بالأمر، فضلاً عن تجرؤ بعض دول أفريقيا الصغيرة، والتي كانت مصر في موقع القيادة والريادة تعلم أبناءها المجهلين، بالأمر الاستعماري الصريح، وتساعد شعوبها المقهورة بالفقر والتمزقات القبلية، وتساعدهم وهم يتقدمون على طريق الاستقلال الوطني والتضامن والتلاقي في إطار اتحادي يعصمهم من ضعف الفرقة ومهانة الجهل وذل الإفقار.
لقد دمر نظام الطغيان «مصر التي في خاطر العرب جميعاً» وشوه صورتها، وأفقدها مكانتها الاستثنائية بين أهلها، كما على امتداد أفريقيا وآسيا وبين الدول.
تبدى أهل النظام عصابة تستقوي على شعبها بأجهزة قمع مدربة تساندها عصابات من البلطجية والمرتزقة المدربة على أعمال التخريب، في حين أن أهل النظام هؤلاء يتقبلون إهانات «الخارج» الذي تحول تدريجياً الى سبب إضافي لاستقوائهم على «الشعب».
هامش: لم يتورع وزير الخارجية المخلوع أحمد ابو الغيط من «التباهي» خلال لقاء صحافي في بيروت، بأن عديد الأمن المركزي وحده قد تجاوز سبعمئة وخمسين الف نفر! وكلهم مستنفرون وجاهزون في الميادين والشوارع لحفظ الأمن وقمع محاولات التخريب!
كانت المطالبات تشمل مختلف وجوه الحياة، لان الطغيان دمر كل شيء:
التعليم الرسمي، وقد خرب بقصد مقصود، فلا يتعلم إلا أبناء الخاصة وفي المدارس الأجنبية بينما يخون المدرسون واجبهم في مدارس الدولة، بل يحملون أهالي تلامذتهم فوق ما يطيقون على الدروس الخصوصية التي تكلف كثيراً ولا تعوض إلا قليلاً.
تراجعت الجامعات الوطنية لحساب الجامعات الأجنبية. قال العالم احمد زويل انه حين عاد الى جامعة الإسكندرية في العام 2005، وجدها قد تراجعت كارثياً عما كانت عليه يوم تخرج منها في العالم 1969. لم تعد الجامعات الوطنية التي خرجت أجيالا من العلماء والأدباء والمبدعين قادرة على المنافسة، أو حتى على تخريج الكفاءات المطلوبة لبناء الوطن. وهاجرت العقول الى من يحسن الإفادة منها تاركة خلفها فراغاً ستبادر الخبرات الأجنبية الى استثماره لمصلحتها على حساب مصلحة الوطن وأهله.
ضرب الفساد الإدارة فصارت مصدر تعطيل، فصار لكل توقيع ثمنه.

تعفن النظام. تفاقم ضعفه. ابتعد عن شعبه فصار أكثر استعداداً لقبول ضغوط الخارج الذي تحول تدريجاً الى ضمانة لاستمراره. تناقصت مناعة الوطن. صار «الخارج» الموجه السياسي. «الدولة» هي «الرئيس». لا دولة خارجه، ولا دولة به. هو يغني عنها. هو وعائلته غالباً. كل أبناء القذافي ـ مثله ـ بلا مناصب رسمية! هو الرئيس الأبدي. هو فوق الملوك والأباطرة. هو محور الحياة.
هل هي مصادفة أن ليس في البلاد العربية (ما عدا لبنان) رؤساء سابقون؟
الحكم دوائر مقفلة. لمجلس النواب «نخبته» التي لا تتغير. للحكومات وزراء ثابتون، ومن خالف الإرادة السنية وحده يطرد من جنة الحكم.
[[[[[[
قراءة في الميدان:
اجتمع المسحوقون بالقهر من الفقراء ومتوسطي الحال والبرجوازية الوطنية، أي الأكثرية الساحقة من الشعب. جمعهم الإحساس بأن كرامتهم الوطنية تهدر على أعتاب الطاغية والمهيمن الأجنبي، وان خير بلادهم ليس لهم. ان نظامهم العجوز والمتهالك يصادر يومهم وغدهم. شعروا بالخجل من أبنائهم فضلاً من الخوف على مستقبلهم.
هذا نموذج العراق. خسر الشعب ماضيه وحاضره ومستقبله. دمر الطغيان الدولة والوطن. جاء الاحتلال الاميركي وريثاً فأكمل التدمير، حتى بات العراقيون لا يعرفون كيف يجمعون أشلاء وطنهم لإعادة بناء دولته.
مع سقوط الطغيان يجيء زمن الصعوبة: الشعب أراد فأسقط رأس النظام. لكن النظام هو «الدولة» القائمة. قد يفتدي النظام نفسه برأسه.
لكن الشعب يعرف ان للرأس أركانا وأتباعا وأذيالا. يعرف انه سخر الأمن ضده بدل ان يكون في خدمته. لذلك يريد إعادة بناء أجهزة الأمن التي كانت ترى في أهلها خصومها، وتمعن في اضطهادهم ضماناً للاستقرار. ويرى في الوزارات أدوات لخدمة الطغيان لا لخدمته. ويرى في «النواب» أتباعاً يبصمون على قرارات تزيد من إفقار الشعب وتبرر اضطهاده. ويرى في الإدارة وجوه فساد لا تحتمل أبسطها الرشوة وأخطرها احتقار الشعب. والفساد يستشري من القمة الى القعر.
لهذا كله لا بد من إعادة بناء الدولة جميعاً. وتلك هي المعضلة!
من أين نبدأ؟ وما هو النموذج المراد بناؤه؟
ليس ثمة وصفة سحرية. لكن الشعب يعرف مكامن الخطر والخطأ. والمرحلة الانتقالية فسحة لاستئصال حكم الطغيان الذي ألغى الدولة، من أجل إعادة بناء الدولة على قواعد سليمة.
وتجربة الشعب مع الدولة، خصوصاً في مصر، عريقة جداً، وهي قد تكون دليله الهادي الى الصح. ففي تاريخ مصر انها أول دولة حديثة في منطقة الشرق جميعاً، وان فيها حدثت أول ثورة دستورية، ومنها أبرز فقهاء الدستور وهم قد كتبوا دساتير معظم الدول العربية، وفيها جرت أول انتخابات نيابية، وتم الفصل بين مؤسسات الدولة ورأسها .
وفي تاريخ مصر أنها قد تولت قيادة الأمة وتزعمت أفريقيا وبعض آسيا لأنها جديرة – علمياً وثقافياً ومادياً – بأن تقود.
وفي تاريخ مصر أنها قادرة على تحقيق الانتصار على العدو كما على الذات.
وفي ذلك كله ما يدل على الطريق الى المستقبل.

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version