طلال سلمان

مع الشروق تزوير الربيع العربي: سقوط الجمهوريات الملكية يزكي ملكيات النفط.. الديموقراطية!

من طرائف عصرنا، ان الولايات المتحدة الاميركية تتصرف وكأنها القيادة المركزية لحركة التغيير التي تجتاح منطقتنا العربية، مشرقاً ومغرباً، فتسقط الدكتاتوريات التي كانت تحظى بالدعم الاميركي المفتوح وتكاد تصنف في خانة «الأصدقاء الكبار»، وتعتبر من «ضمانات الاستقرار» في هذه المنطقة، ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى.
يتصل بذلك أن الملكيات العربية ومعها المشيخات والإمارات والسلطنة تكاد تنتدب نفسها لحماية حركة التغيير هذه، فتتخذ موقع المبشر بانتصار إرادة الشعوب (خارج أراضيها طبعاً) والساعي لضمان الاستقرار وتوفير مستلزماته مهما بلغت التكاليف!
وبديهي ان تتجمع الأنظمة المعادية بطبيعتها للجمهوريات والدساتير والديموقراطية والانتخابات والأحزاب، خلف الإدارة الاميركية للتهليل «للربيع العربي» وإنجازاته الثورية العظيمة التي جعلتها المصادفات القدرية، تنحصر او تحاصر في فضح الأنظمة الجمهورية وإسقاطها، او العمل للتخلص من تشابهها المريب مع الملكيات والسلطنات والمشيخات، حيث الملك لعائلة بالذات، يتوارثها الأبناء او الأشقاء كابراً بعد كابر.
ولقد استخدمت موجات التغيير التي أطلقها «الربيع العربي» وما تزال تتوالد بالتتابع في مختلف الأقطار، مشرقاً ومغرباً، لتزكية الأنظمة الملكية او شبه الملكية في الأرض العربية، وكأن الخطأ في النظام الجمهوري ذاته وليس في الممارسات الدكتاتورية لمن ساقته المقادير الى سدة السلطة في الجمهوريات… او لكأن الثورة تختص بالجمهوريات، علماً بأن أنظمتها التي تتوالى سقوطاً، قد أخذت من الملكيات أسوأ ما فيها، لتصبح من بعد مصدر التشهير بالنظام الجمهوري ذاته، ومصدر تزكية لأنظمة السلاطين ومشايخ النفط التي عرفت – بالتواتر- عن الانتخابات وافترضت انها محصورة بالبلديات الممتازة فقط، وأن حق ممارستها يخص الرجال وحدهم, أما الحريم فللإنجاب وإمتاع الذكور والخدمة في المنازل.
من باب إنعاش الذاكرة لا بد من الإشارة الى ان الأنظمة الجمهورية التي زلزلها فأسقطها الربيع العربي، او كاد، كانت بمجملها موضع إشادة وتنويه من طرف واشنطن… لقد ظلت الإدارة الاميركية ترعاها وتساندها وتنحاز اليها ضد انتفاضات شعوبها حتى تيقنت من ان سقوطها حتمي، فإذا بها تتخلى عنها قبل صياح الديك، بل وتبالغ في إدانتها بعدم الاستماع الى إرادة شعوبها، نفاقاً للجماهير الثائرة وإيحاء بأنها راعية الثورات وقائدة مسيرة الشعوب الى التحرير والعزة والكرامة و… الديموقراطية!
وكلنا يذكر ان الإدارة الاميركية، برئيسها ووزيرة خارجيتها وكبار رجالات المخابرات فيها، ظلت على تواصل مع الرئيس المخلوع حسني مبارك تسانده وتؤكد دعمها له، حتى اللحظة الأخيرة، مشيرة عليه بتلبية بعض المطالب، ومنها التخلي عن فكرة او مشروع التوريث، فتحميه وتضمن له ان يكون له رأي في «خليفته» حتى لا يأتي من يحاسبه على ما ألحقه بمصر من أذى معنوي خطير ومن تدمير مادي نتيجة النهب المنظم- بإشرافه ورعايته – لخيرات هذا البلد العظيم!
كان هم الإدارة الاميركية ألا يمس التغيير المصالح الاميركية وألا يقارب صلح الإذعان مع إسرائيل، ومن ضمنه ضمان استمرار ضخ النفط والغاز اليها وبالأسعار المتدنية الى حد الإهانة… وربما لهذا عملت واشنطن على التعجيل بالتغيير من فوق، وقبل ان يفرض «الميدان» التغيير بشروطه فيسقط النظام برموزه كافة ومعها اتفاقات الإذعان التي كانت تسترهن إرادة الشعب ومقدرات بلاده.
وفي تونس تركت الإدارة الاميركية لرعونة الرئيس الفرنسي ساركوزي ان يستعجل «احتواء» الانتفاضة بينما هي في ذروة اشتعالها، ثم تقدمت بهدوء للتثبت من ان الثوار تحت راية البوعزيزي ليس لديهم مشروع للتصادم المباشر مع الخارج، لأن همومهم في الداخل ثقيلة وهي تحتاج جهودهم بالكامل، وبعدئذ يمكن الالتفات الى العلاقات مع الدول، مع الحرص على تجنب استعداء أي منها، وبالتحديد الإدارة الاميركية.
ولعل بين مصادر اطمئنان واشنطن ان الثورة التي لم تكن قيادتها الحقيقية قد ولدت – بعد – في الميدان، سرعان ما أسلمت قيادها الى رجال العهد الذي أسقطته، مكتفية بأن تسمع منهم إعلان البراءة من الطاغية بن علي، ريثما تتفق أطرافهم على إعادة صياغة النظام جميعاً بما يسمح بتسليم السلطة الى الثورة… ديموقراطياً.
أما في ليبيا، حيث الثروة النفطية الهائلة فلم يكن مسموحاً ان يترك الأمر للمصادفات او للهواة من الشبان الطيبين الذين أمدتهم بالأمل انتفاضة تونس ثم ثورة مصر.. وهكذا كان لا بد من فتوى عربية بالتدخل، ثم من ضمان خفوت أصوات المعترضين دولياً، تحت الإغراء بنيل حصة من الثروة، فتقدمت جامعة الدول العربية، عائدة الى الحياة، لكي تصدر تلك الفتوى التي أباحت ليبيا للدول القادرة على أخذها حرباً، مع تغطية يوفرها ضحايا عهد الطغيان القذافي.
ومع أن أمر الانتفاضات في المشرق العربي مختلف نوعاً لأسباب تتصل بموقع هذه الدولة او تلك او بدورها او بمخاطر التفكك والتشظي في أتون حروب أهلية لا تبقي ولا تذر، فإن موقف الإدارة الاميركية منها يثير المزيد من الريب والشكوك في الهدف من الإبهام الذي اعتمد كسياسة تعلن «إفلاس» هذا النظام او ذاك، ثم «تنصح» بترك الزمن يفعل فعله، لأن المعارضات غير جاهزة وغير قادرة على الوصول بالثورة الى سدة الحكم.
بالمقابل، فإن الأنظمة الملكية والسلطانية، تندفع في تأييد الانتفاضات العربية الى حد تبنيها، ولعلها في لحظات قد أعلنت انها هي التي حركت الجماهير المقهورة والمسحوقة بالقمع وحرضتها على الثورة، مع وعود بان تجزل لها العطاء وان تضمن تسويقها في العالم اجمع، وانطلاقاً من واشنطن التي لا يسمح لها دورها الكوني بإعلان موقف صريح، إلا أن أجهزة مخابراتها بالتصرف!
وما من شك ان الخطايا المميتة التي ارتكبها العديد من الأنظمة الجمهورية قد وفرت للأنظمة الملكية والسلطانية، ليس فقط ان تستعيد اعتبارها، بل وأن تتصدى لادّعاء دور قيادي في إشعال الثورات العربية وفي تأمين شروط النصر لها على الطغاة.
على هذا فقد انتقلت الأنظمة الملكية من الدفاع الى الهجوم، مستفيدة من السقوط السريع لدكتاتوريين وصلوا الى السلطة بالمصادفة أو بالمؤامرة أو بخيانة من ولاهم. بل إن هذه الأنظمة قد عاشت في نشوة عارمة وسعادة بالغة وهي ترى الرؤساء يحولون جمهورياتهم الى إقطاعيات عائلية، مقتدين بالممالك والإمارات والمشيخات، مع الفارق بين الأصيل والمقلد. فالرأس جمهوري، شكلاً، وملكي بل إمبراطوري بالاستفتاء الذي أوله نعم وأخره الحكم مدى الحياة. ومن جاء بالتزوير يخرج من الجمهورية ليدخل نعيم الملكيات، ولو ان نظامه ليصبح أكثر هشاشة وموضع طعن في شرعيته. ولكن من سوف يطعن، ومن سيفيد طعنه اذا كانت الإدارة الاميركية ومعها الملكيات العربية حاضرة للإسناد معنوياً ومادياً؟ وهكذا يمكن للمطعون في شرعيته او في شعبيته ان يشتري تأييد واشنطن بسيادة بلاده، وأن يرهن بعض ثروة وطنه وأرضها ومعظم أمنه لإسرائيل، حتى تخرج من الصراع، او تخفي دورها فيه.
وهكذا بات سقوط الملوك الجمهوريين، المزيفين في الحالين، مزوري الانتخابات، ناهبي ثروات البلاد، راهني إرادتها لدى الاميركي والإسرائيلي، تزكية لملوك «العائلات المقدسة» المطهرة بالنفط والحماية الاميركية ـ الإسرائيلية.
إن الربيع العربي يتعرض لعملية تزوير هائلة.. فباسمه وعلى نيته منحت صكوك براءة وتزكيات مجانية للأسوأ من أهل النظام العربي.
على أن الأمل، أن الأصل في حركة الثورة العربية ما زال يقاتل من اجل أهدافه الفعلية، وهو يعي أن أمامه الكثير من الألغام والمخاطر واحتمالات التطويق والإغراءات المذهبة للانحراف.
والثورة صناعة التاريخ، وهي مهمة جليلة لا يمكن إنجازها بسرعة الضوء، والمهم ان يكون الثوار مؤهلين وقادرين على حماية ثورتهم الباهرة، مصدر الأمل في غد عربي أفضل.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version