طلال سلمان

مع الشروق تذكيراً بالنصر المنسي: عن «الحرب الإسرائيلية» على لبنان… وتداعياتها!

صارت الذاكرة العربية بلا قعر: تتراكم فيها الأحداث، وغالباً ما تكون نكبات أو نكسات او سقطات او هزائم غير مبررة، فتنسرب منها الى النسيان، دون «محاكمة» لأسبابها واستفادة من دروسها او محاولة استخلاص العبر لرسم خطة الخروج من زمن الانكسار الى أفق زمن جديد نحاول ان نصنعه بإرادتنا بعد كل ما استوعبناه او عرفناه او اكتشفناه من وجوه الخلل التي تمنع علينا النجاح.
أما الهزائم فسجلاتها حافلة بحيث باتت تتداخل تواريخها مقدمة ما يشبه جدول اللوغاريتم..
وأما الانتصارات اليتيمة فهي معدودة ومحدودة، ومع ذلك فإننا نجتهد في نسيانها، فإن عجزنا عن النسيان لجأنا الى تشويهها او تفريغها او التهوين من تأثيرها على سياق الأحداث في غدنا المهدد بالوأد..
على سبيل الاستذكار، نشير الى ان «العرب» المشغولين بتقديم المزيد من التنازلات للإسرائيليين بوهم اكتساب رضا الإدارة الاميركية وتعاطفها، قد تجاهلوا بقصد مقصود «الاحتفال» بمرور ثلاث سنوات على الحرب الإسرائيلية على لبنان، علماً بأنها الحرب الوحيدة على العرب التي لم تكسبها إسرائيل، حتى بمنطق من لا يريد الاعتراف للمقاومة المجاهدة في لبنان بتحقيق نصر مؤزر وعبر مواجهة بطولية امتدت لثلاثة وثلاثين يوماً بلياليها، واستخدم فيها العدو الإسرائيلي كل أنواع أسلحة التدمير وأحدثها، تحت تغطية سياسية شاملة شاركت فيها الإدارة الأميركية من موقع القيادة بينما التحق بها معظم النظام العربي فضلاً عن أوروبا متحدة وبالمفرق..
لكأنما العرب يستمرئون الهزيمة ويخافون من النصر، لان «كلفته» عالية: فالنصر ولو محدوداً في الزمان والمكان قد يأخذهم الى مواجهة واسعة ومكلفة لا هم يريدونها ولا هم على استعداد لدفع أكلافها، بل إنهم يفضلون ان يقبعوا هانئين في قلب واقعهم المهزوم… كأنما كلفة الهزيمة، بحساباتهم، اقل بما لا يقاس من كلفة النصر الذي سيجبرهم على العودة الى الميدان الذي هجروه وألقوا عليه يمين الطلاق بالثلاثة مفترضين ان الهزيمة هي بوليصة تأمين النظام العربي القائم… حتى قيام الساعة!
[[[
لم يلتفت العرب الى الاضطراب العظيم الذي عاشه، وما زال يعيشه، الكيان الإسرائيلي، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، نتيجة ان حكومته قد خاضت ـ بكل قدراتها ـ حرباً شاملة، جواً بالأساس وبراً بمختلف أنواع السلاح، بما في ذلك أحدثه، وبحراً، ضد تنظيم شعــبي يقاوم، لا هو دولة، وليس له جيش، وإنما لديه إرادة عظيمة وإيمان راسخ بعدالة قضيته وبحقه في أرضه… فعجزت القوة الإسرائيلية الجبارة عن الانتصار، حتى بعدما أحرقت نصف لنبان، واضطرت الى «وقف العمليات الحربية»، بينما المجاهدون يطاردون «قوات النخبة» فيها ويجبرونها على الانسحاب المذل بعد فشلهم في التقدم وتثبيت مواقع لها داخل ارض الجنوب اللبناني المقاوم.
كان لبنان وحده خلال الحرب… ومن أسف فإنه لم يكن موحداً. لكن النار الإسرائيلية، والاستفزاز الأميركي العلني بدعم الحرب على المقاومة الذي أربك أهل النظام العربي، كل ذلك اجبر القوى السياسية في لبنان، حتى تلك التي لا تقول بالمقاومة ولا تريدها، ومن ضمنها الحكومة القائمة آنذاك بأكثرية وزرائها، على التماسك خلف المقاومة التي أثبتت بصمودها الأسطوري القدرات غير المحدودة للإيمان بالشعب وبالحق، اذ هي تنفخ روح العزة في الصدور، وتخرج فتخرس الأصوات التي طالما قالت بالاستسلام ونصحت بعدم مقاومة المخرز!
وتحت ضغط «الدول، وبروز القيادة الأميركية للحرب الإسرائيلية، بشخص وزيرة الخارجية آنذاك كوندليسا رايس، بدأ «الفرز» الإجباري للقوى السياسية، داخل لبنان وعلى المستوى العربي.
… حتى صدر البلاغ السعودي الشهير الذي برر الحرب الإسرائيلية بـ«المغامرة» التي أقدم عليها مجاهدو «حزب الله» حين اختطفوا بعض الجنود الإسرائيليين، داخل الأرض اللبنانية، لمبادلتهم بمئات الأسرى اللبنانيين والعرب المحتجزين في السجون الإسرائيلية منذ سنوات طويلة، بل ومنذ عقود إذا ما استذكرنا سمير القنطار، فضلاً عن جثامين الشهداء لبنانيين وفلسطينيين ومن جنسيات عربية أخرى.
بعده اتخذ الفرز سياقاً مدمراً: لقد انحدر من السياسة الى المستوى الطائفي والمذهبي… وتكشفت المواقف الفعلية للنظام العربي اذ تركز الاعتراض على إقدام «حزب الله» على «مغامرته»، مع تجاهل لحقيقة ان إسرائيل قد شنت حرباً بكل جيوشها وأسلحتها على لبنان، وليس على طائفة او مذهب فيه، وإن هي كانت تحرص على الادعاء أنها إنما استهدفت مراكز تجمع الحزب الذي صار في عينها طائفة… وقد قبل منها «العرب» هذا الموقف المخادع، بوصفه مخرجاً لحرجهم من التخلي عن «قطر شقيق»!
بالمقابل توحدت إسرائيل، حكومة و«شعوباً مؤتلفة» داخل كيانها العنصري، «يساراً» ويميناً، متدينين و«علمانيين» و«كفرة».
[[[
انعكس موقف العرب الهاربين من الحرب، والمتبعثرين أيدي سبأ، انقساماًُ حاداً داخل لبنان، لم تنفع «السياسة» في تبريره دائماً، فانزلق الى مهاوي الشقاق الطائفي والمذهبي بما ينذر بتفجير الفتنة..
من قبل، كانت الإدارة الاميركية ومعها الاتحاد الأوروبي وخلفـهم «النظام العربي» قد نجحوا في طمس هوية الصراع، ومسخه من صراع إسرائيلي ضد كل العرب، مجتمعين ومتفرقين، الى صراع إسرائيلي ـ فلسطيني، مع جهد متواصل لجعله يبدو ـ (في غمرة الخـلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية) وكأنه صراع إسرائيلي ضد «بعض» الفلسطينيين «المتطرفين» !!
أما في لبنان فإن من آثار هذا الانشقاق بل التخلي العربي ان تتبدل هوية الصراع وأن يتم تغييب العدو الإسرائيلي، ليتم تظهير الصراع وكأنه داخلي بحت، عربي عربي، ثم لبناني لبناني، ثم سني ـ شيعي.
ادخلت إسرائيل في لعبة السلطة في لبنان، ونشأ نوع من «التحالف» العربي ـ الإسرائيلي بعد استحضار إيران كقوة داعمة لحزب الله.. ومن ثم سهل قلب الحقائق ليبدو وكأن «حزب الله» إنما شن حرباًَ بالتكليف، من اجل إحراج حكام العرب أمام شعوبهم.
انفتحت جبهة جديدة لحرب أخرى تغطي على الحرب الإسرائيلية على لبنان بعد محاولة تمويه استهدافاتها، حضر بقوة الاحتلال الأميركي للعراق، والتخوف من آثار «الانتصار» في لبنان على قوات الاحتلال الأميركي هناك، وعلى شروط «الصفقة» التي تخطط الإدارة الأميركية لتمريرها مع إيران، على حساب وحدة العراق أرضا وشعباً وكياناً سياسياً.
[[[
مع انكشاف العجز الإسرائيلي عن حسم الحرب خلال بضعة أيام او أسبوعين او ثلاثة، انهارت إمكانات توظيف الحرب الإسرائيلية على لبنان في المشروع الأميركي للمنطقة عموماً.
كان لا بد من إنقاذ ماء الوجه عربياً… وهكذا وبعد افتضاح أمر العجز الإسرائيلي عن حسم الحرب على الطريقة التي اشتهرت بها (بضعة أيام لا تزيد على أسبوع) بدأت تطل الوفود العربية على لبنان، وكلها قد جاء بإذن إسرائيلي معلن.
جاء الوفد المصري، الذي أريد إضفاء الطابع الشعبي عليه، مع كونها برئاسة «ابن الريس» السيد جمال مبارك، وفي عداده بعض الوزراء، وبعض الكتاب والأدباء والصحافيين، وكثرتهم من العاملين في مؤسسات رسمية او لحسابها.
ثم جاءت الجامعة العربية بوفود طار بعضها من القاهرة، وطار بعضها الآخر من عمان، وكان على الجميع ان يحصلوا على إذن إسرائيلي بالطيران… تماماً مثلهم مثل الوفد الشعبي المصري، ومثل الزوار الآخرين الذين جاءوا الى لبنان!
جاء الجميع بإذن إسرائيلي معلن..
وجاء الجميع الى السرايا الحكومية، والتقوا رئيس الحكومة: لم يجرؤ احد على زيارة رئيس الجمهورية، او رئيس المجلس النيابي، فضلاً عن محاولة ـ مجرد محاولة ـ تنظيم لقاء مع قائد المقاومة، السيد حسن نصر الله، او حتى مع بعض معاونيه…
أما زيارة «الجبهة» فكانت طلباً يتجاوز الخيال!
ونتيجة لهذا كله فإن هذه الزيارات قد ساعدت على توسيع الشرخ في الجبهة الداخلية في لبنان، بدل ان تكون الحرب الإسرائيلية فرصة تاريخية لتوطيد الوحدة الوطنية، برعاية عربية شاملة، وباعتراف للجهد المشرف للمقاومة الإسلامية ـ الوطنية في دحر الحرب الإسرائيلية، مما يمكن لتظهير التضامن العربي المعزز لانتصار إرادة الشعب اللبناني.
[[[
باختصار: ضيع النظام العربي نصراً تاريخياً على دولة العدو الإسرائيلي في الحرب الوحيدة التي اعترف بخسارتها، وشكلت فيه لجان التحقيق في أسباب الفشل وتعثر الجيش الذي لا يقهر، وانهيار حاجز الأمان الذي كان يصور إسرائيل كتلة صماء تخوض حروبها جميعاً خارج «حدودها» ويبقى داخلها آمنا يمارس حياته الطبيعية بينما «دول الجوار» هي التي تتفكك ويحكم عليها بالخروج من دائرة الصراع.
بل إن هذا النظام العربي ذاته قد بادر وقدم مساهمات خطيرة (ومهينة لشعوبه) في ترميم صورة إسرائيل «الدولة التي لا تقهر»!
لقد تولى هذا النظام العربي، العاجز الى حد إلغاء أمته ودوله وشعوبه، ترميم صورة إسرائيل كدولة في هذه المنطقة، لها حق القرار في حاضر العرب ومستقبلهم، ولها الحق في أن تكون «دولة اليهود» في العالم، وليذهب شعب فلسطين الى جحيم التشرذم والإذلال.
لقد أعطيت إسرائيل بعد حرب لبنان، التي فشلت في الانتصار فيها، ما عجزت عن تحقيقه بالقوة قبلها!
كذلك فقد أعطيت إسرائيل بعد حربها المدمرة (ومن طرف واحد) على غزة، ما عجزت عن تحقيقه قبلها!
فها هي التسهيلات العسكرية الجديدة لإسرائيل في عبور غواصاتها وسفنها الحربية لقناة السويس، بحرية مطلقة! وبعد اتفاقات الغاز والبترول والإقفال بالنار للمعابر الى ما تبقى من فلسطين!
لقد أدمن النظام العربي الهزيمة، وبات يرعبه احتمال النصر على إسرائيل، ولو بالمصادفة القدرية.
إن أمان هذا النظام ودوامه مرتبط بإسرائيل المنتصرة، فهل تريدون منه أن يتواطأ على نفسه فيقف الى جانب طموحات شعوبه فيربح الحرب لا قدر الله ويخسر نفسه؟!
تلك هي القضية، أيها القابضون على جمر إيمانكم بأمتكم وقدراتها، فاتقوا الله في أنظمتكم وهرولوا الى إسرائيل مصالحين بشروطها، تكن لكم مع السلام السلامة والأمان وراحة البال… وكفى الله المؤمنين بالسلام الإسرائيلي القتال!
([) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version