طلال سلمان

مع الشروق ## بديل الجامعة العربية وقممها: المصالح الأميركية بالإسلام التركي

بعد يومين فقط من اختتام القمة العربية الثالثة والعشرين التي انعقدت بعد مخاض عسير في بغداد، ولساعات معدودة، كان النفطيون من أهل النظام العربي الذين شاركوا فيها محرجين، وبمستوى منخفض جداً، يتابعون «مسيرتهم» إلى حيث يقصدون وكأن «القمة» جملة معترضة.
..وهكذا لبى النفطيون العرب النداء خفافاً إلى «منتدى التعاون الاستراتيجي» برئاسة اميركية سامية في الرياض، احتشد فيها الأمراء والوزراء من أركان مجلس التعاون الخليجي الذي يرى فيه أهله، البديل من جامعة الدول العربية وقممها الهزيلة، له جدول اعمال مختلف إلى حد التناقض، مع ما حاولت «القمة» أن تنجزه، لتؤكد عبره وحدة أهداف أعضائها الذين كانوا أخوة أو شركاء مصير، فصاروا آحاداً يبحث كلٌ عن مصيره منفرداً.
…ثم عادوا فلبّوا النداء خفافاً، مرة أخرى، إلى «قمة موازية» ثانية أعطيت اسم «أصدقاء سوريا»، وتم توفير القدرات والإمكانات لمن يرعاهم هؤلاء «الأصدقاء» الذين لم يشتهر عن أي منهم الحياد في موقفه من التطورات الدموية التي تشهدها سوريا، أو الاهتمام الحقيقي برعاية المصالح الوطنية لشعب سوريا المتصادم مع دكتاتورية نظامه.
في القمة العربية الرسمية التي استولدت قيصرياً، وبمن حضر، وخلال وقت قصير يكفي بالكاد لتزويد الطائرات الملكية والأميرية بالوقود للعودة، تسبب غياب أصحاب القرار في جعل تلك القمة «رمزية»، يفاخر من نجح في عقدها بإنجازه، مع وعيه بأن الجامعة العربية ذاتها قد وصلت الى بغداد وقد فقدت دورها القيادي، ولو معنوياً، بينما يباهي من عطلها بأنه كرس مجلس الأمن، والقرار الدولي، مرجعية للعرب الذين تصاغروا حتى لم يعودوا يملكون قرارهم.
أما في اللقاء الوزاري لأهل النفط والذي حظي بشرف أن ترأسه وزيرة الخارجية الأميركية، فقد كان الجميع قد وافقوا سلفاً على ما قررته السيدة هيلاري كلينتون من قبل أن تجيء، فتشرِّف لقاءهم على ما يناسب المصالح الأميركية بوصفها مصالحهم، مع إضافة المصالح الإسرائيلية إليها، توطيداً للتحالف ضد إيران، ومن هنا كانت تسميته «منتدى التعاون الاستراتيجي بين أميركا ومجلس التعاون الخليجي»!
أما اللقاء الثالث فقد عقد في اسطنبول وجمع أشتاتاً من الدول والأحزاب والمنظمات والجمعيات والشخصيات تحت الرعاية التركية بقيادة «الإخوان المسلمين» الذين يرون أنفسهم الورثة الشرعيين لدولة الخلافة، ويعملون لتجديدها بصيغة أطلسية عصرية وعلى قواعد الديموقراطية الأميركية.
فأما القمة العربية التي كان مجرد انعقادها في موعدها وفي بغداد إنجازاً مهماً، فقد عجز المشاركون فيها عن اتخاذ أي قرار في أي من البنود السياسية المدرجة على جدول أعمالها، وظل الشعار الذي تغنى به رئيس الحكومة العراقية: «عادت بغداد إلى العرب وعاد العرب إلى بغداد» معلقاً في سماء العراق كأمل في مستوى الأمنية.
وليس الذنب ذنب بغداد التي تحاول العودة إلى ذاتها والى هويتها عبر الصعاب والخلافات الداخلية التي لها في الخارج من يغذيها ويمنع الوصول إلى حلول لها.
فالوفود التي جاءت إلى بغداد، من غير أهل النفط، كانت ملتبسة الهوية، وبينها من يجعل عروبته بعد إسلامه، وبينها من يلغي عروبته بالإسلام… وطالما أن مفهوم الإسلام السياسي غير موحد، فلا يمكن وضع جميع الإسلاميين في خانة واحدة حتى لو توحدوا في مناهضتهم للعروبة التي يراها البعض بدعة، ويراها آخرون مجرد إرث من ماضي الطغيان لا بد من التحرر منه.
عبر هذا الصراع المجدد بقرار بين العروبة والإسلام أمكن لرئيس السلطة الفلسطينية «أبو مازن» أن يقف أمام القمة المبتسرة ليهاجم الذين يعتبرون زيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي تخلياً عن شعب فلسطين بل وردّة دينية، بدليل أن «الله سبحانه وتعالى قد أسرى بالرسول العربي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من دون التوقف أمام هوية حاكم القدس… كذلك فإن المسلمين والمسيحيين لم يمتنعوا عن زيارة القدس خلال الاحتلال الصليبي ولم يتهمهم احد آنذاك، بالخيانة»!
هل من الضروري التنويه بخطورة مثل هذه الدعوة وأسانيدها «الدينية» التي تطلق، بينما الإسلاميون الذين تسلموا الآن مواقع الحكم في أكثر من بلد عربي قد امتنعوا عن تحديد موقفهم من العدو الإسرائيلي، محتلاً في فلسطين، وقاهراً لإرادة العرب (والمسلمين) باتفاقات الصلح التي أُبرمت معه في ظروف معلومة.
والإسلاميون، في هذا الموقف، مثلهم مثل أهل النفط الذين ما زالوا يضعون العراق جميعاً، وليس الحكم فيه فقط، تحت الاختبار، ويبتزون عروبته بإسلامه فإن أصّر على العروبة أُخرج من الإسلام، وفتح الباب على مصراعيه أمام الحركات الانفصالية، وإن اتخذت شكل «أقاليم» تمزق العراق- وهو الممزق فعلاً، نتيجة الاحتلال الاميركي الذي ورث طغيان صدام حسين – بحسب طوائفه وعناصره، واندثرت وحدته وتهاوت دولته التي كانت ذات يوم قلعة عربية مدخرة لنجدة فلسطين فضلاً عن حماية الأرض والمصالح العربية.
أما اللقاء الثاني فيكمل ما باشره أهل النفط في مجلس التعاون، المحصورة عضويته بالممالك والسلطنات والإمارات، من ابتعاد إلى حد الانفصال فالاستقلال عن سائر العرب بجامعتهم المتهالكة وجمهورياتهم المفقرة بحكم الطغيان أو بنقص الموارد فيها.
إنهم يقدمون مجلسهم بديلاً من جامعة الدول العربية التي تكون مجرد حامل أختام لقراراتهم وساعي بريد يحملها إلى مجلس الأمن. وبطبيعة الحال فهم جميعاً «خارج الجامعة» عملياَ، وها هي قيادتهم الجديدة تعلن عن نفسها فتتوسط السيدة كلينتون أصحاب الكفافي البيض والنيات السوداء تجاه «أهلهم»، معلنة أنها صاحبة القرار في مختلف الشؤون الاقتصادية والعسكرية فضلاً عن السياسية.
وها هو الغرب ممثلاُ بالقيادة الأميركية يبدي حماسته لهذا المشروع ويتبناه، في حين تكاد إسرائيل تزغرد، وهي ترى أهل النفط من العرب يتقدمونها في الهجوم على إيران.
وأما اللقاء الثالث في اسطنبول فيقدم نموذجاً جديداً وفريداً لمعنى الصداقة… فلم يعرف التاريخ «أصدقاء» لبلد ما يحتشدون لتدمير دولة وشعب بعاطفتهم النبيلة، بذريعة الاعتراض على نظامه.
وكائناً ما كان الرأي في طبيعة النظام المستبد في سوريا فليس بتسليح معارضته التي تقيم في الخارج، بينما الشعب سجين ومحاصر في الداخل، يكون التقدم نحو الحل الذي يحفظ سوريا ودولتها ووحدة شعبها.
فالدعوة إلى تسليح المعارضة التي يرفع النفطيون عقيرتهم بها لا تعني غير اليأس من إسقاط نظامها والاستعاضة عن المجهود السياسي بدفع هذا الشعب العربي العظيم إلى أتون الحرب الأهلية.
وواضح أن هؤلاء لا يريدون حلاً عربياً للأزمة التي تعصف بسوريا، بل لعلهم لا يريدون لها حلاً على الإطلاق… بل إنهم يحاولون تخريب مشروع الحل الذي يعمل على صياغته المبعوث الخاص للأمم المتحدة (والجامعة العربية) كوفي أنان، والذي قبلته السلطة في دمشق، مبدئياً ومع تحفظ واضح.
ومفهوم أن يرتبك الأتراك الذين ذهبوا بعيداً في إنذاراتهم للسلطة في سوريا، وهم يلمسون تناقص التأييد لعسكرة المعارضة السورية التي ما تزال تشكو من أسباب فرقتها وتناقض طروحاتها.. خصوصاً أن واشنطن كانت قد أعلنت بلسان وزيرة خارجيتها اثر «مؤتمر أصدقاء سوريا» في تونس أنها لن تعطي سلاحاً لمن لا تعرفه.
أما «الدول» فلن تتقدم «قائدها» الاميركي ، خصوصاً وقد تكشف إهمال المعارضة، التي لا تستطيع التبرؤ من «لونها الواحد»، لهواجس الأقليات، في حين تهتم لها الدول اشد الاهتمام، ولعلها تبادر الآن إلى استثمارها للضغط بها على أية محاولة لإعادة صياغة النظام في سوريا.
وفي أي حال فالمعادلة تبدو محددة جداً: الحل الأمني او العسكري، كما يطالب بعض كبار النفطيين، سيأخذ سوريا إلى الغرق في المستنقع الطائفي، بما يضعف احتمالات الحل السياسي ويهدد الكيان السوري جميعاً بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر… وبديهي إن مثل هذا الصراع من شأنه إذا ما تفاقم أن يسقط الدولة.
[[[[[
نعود الى القمة العربية في بغداد لنذكر بأن ابرز نتائجها كانت الإعلان عن عودة العراق، كدولة، إلى الحياة، وهي تشكل إعلاناً بعودة العراق الى العرب وعودة العرب الى العراق، كما قال رئيس حكومته نوري المالكي، الذي حرص على تقديم نفسه بصورة «عريس المؤتمر» والمنتصر به على خصومه في الداخل والخارج.
لقد نجح العراق في استضافة القمة وهو يعيش ظروفاً في غاية الصعوبة أخطرها الانقسام السياسي، والتفجيرات الأمنية وبروز «القاعدة» لتأجيج الشقاق المذهبي وضرب وحدة الدولة.
ومع أن مقعد سوريا كان فارغاً في قمة بغداد إلا أن حضورها بأزمتها كان طاغياً على مجمل المسائل الأخرى.

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version