طلال سلمان

مع الشروق ## الوطن العربي ينتظر «قيامة» مصر: دول بلا رؤساء ورؤساء بلا دول

بينما تستكمل مصر بنيان دولتها العريقة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية تتبدى «دول» عربية أخرى متصدعة، متهاوية البنيان، مهددة في وجودها ذاته.
I. ففي سوريا الآن «رئيس» للجمهورية يعتزم التجديد لنفسه بولاية ثالثة بينما «الدولة»، الجمهورية العربية السورية، ممزقة الأوصال:
شمالها تحت النهب التركي في ظل سيطرة ميليشيات جبهات الإسلام السياسي متعددة الرايات والأهداف، أما في الجنوب، الذي طالما شكل جبهة الصد لاحتمالات توغل العدو الإسرائيلي في الداخل السوري، فأرض صراع بين جيش الدولة وميليشيات عسكرية وإسلامية أخرى تحظى بالرعاية السعودية في ظل إشراف أميركي مهمته تأمين استمرار الاضطراب من دون التورط في المسؤولية المباشرة عن تقسيم الدولة.
فأما الشرق العراقي فقد جمع الهدف الواحد، وهو مقاومة إرهاب التنظيمات الإسلامية المتفرعة عن «القاعدة»، «السلطتان المركزيتان» في كل من بغداد ودمشق، فتم التلاقي الاضطراري لمواجهة الخطر المشترك على النظامين القائمين في العراق وسوريا.
أما الغرب اللبناني فقد تكفل «حزب الله» بتأمينه بعد سلسلة معارك ضارية شملت الحدود اللبنانية السورية حتى أبواب حمص، وتأمين الطريق الدولية بين دمشق والساحل السوري، انطلاقاً من أن «المعركة ضد الإرهاب ذي الشعار الإسلامي واحدة»، إضافة إلى رد الجميل لسوريا التي دعمت معركة التحرير لإجلاء العدو الإسرائيلي عن الأرض اللبنانية التي كان يحتلها بين 1978 والعام ألفين، ثم استضاف مئات آلاف اللبنانيين الذين شردتهم الحرب الإسرائيلية صيف العام 2006 عن ديارهم بينما المقاومة تواصل صد العدو الذي لا يُقهر حتى هزمته واضطرته إلى الانسحاب من كامل الأرض اللبنانية، محققة نصراً عسكرياً مبيناً قبل ثماني سنوات.
II. فإذا ما تأملنا خريطة العراق لوجدناها قد شهدت تقسيماً أخرج منها الشمال الكردي إلى «إقليم» تحاول قيادته استكمال بناء «دولة» لها فيه، تحت ستار الحكم «الكونفدرالي» بقيادة المركز، بغداد… وها هي الآن تهدد بالانفصال وإقامة «دولتها» المستقلة، متذرعة بديكتاتورية نوري المالكي، وبالانقسام الشيعي – السني في العراق الذي تجاوز حدود الخلاف السياسي عائداً إلى تراث «الفتنة الكبرى» كتبرير جديد – قديم لتقسيم أرض الرافدين على قاعدة مذهبية، إضافة إلى القاعدة العنصرية المستجدة: عرب وكرد وأقليات أخرى.
باختصار: لا دولة مركزية في العراق الآن، ومن الصعب افتراض النجاح في إعادة بنائها واستحضارها كقوة استقرار ومنعة في المدى المنظور، وهذه أقبح «ثمار» الاحتلال الأميركي للعراق بذريعة إسقاط طغيان صدام.
III. فإذا ما انتقلنا إلى أقصى الشرق نحو اليمن السعيد لواجهتنا حروب الانفصال تنهش الدولة المركزية التي استولدت قيصرياً فظلت أضعف مما يجب.. وها هي تتعرض، وفي وقت واحد، لصراعات قبلية ومذهبية تستبطن مشاريع سياسية متناقضة تتصارع فيها وعليها دول المحيط، السعودية أساساً وإيران، في غياب سائر العرب، وأبرزهم وأقواهم تأثيراً مصر، التي يحجبها انشغالها بذاتها عن ممارسة دورها القومي باتساع الوطن العربي الكبير.
….
قبل الانتقال إلى المغرب العربي لا بد من وقفات سريعة أمام أوضاع ما تبقى من دول المشرق، ولو بشكل مختصر سريع:
÷ فأما المملكة العربية السعودية فتعيش أجواء مرحلة انتقالية وتشهد عملية تبديل في المواقع الحاكمة من شأنها تعديل ميزان القوى بين ذرية أبناء المؤسس عبد العزيز آل سعود، اذ يتراجع نفوذ «السديريين»، الذين كانوا يحكمون المملكة بمواقع السلطة فيها (فهد ملكاً، سلطان في الدفاع، نايف في الداخلية، سلمان أمير الرياض ـ العاصمة، نواف أميراً على المنطقة الشرقية النفطية إلخ..).
÷ وأما دولة الإمارات العربية المتحدة فقد اختارت حليفها الأكبر، السعودية، فوطدت العلاقات معها من خارج إطار مجلس التعاون الخليجي.. وكان لافتاً أن يزور الأمير سعود الفيصل الإمارات مؤخراً، وأن يصدر بيان مشترك بين السعودية والإمارات يتمايز في نصه وفي مضمونه عن بيانات مجلس التعاون الخليجي باتخاذ مصر نقطة لقاء مشترك سياسة موحدة، وكأنها تمهد لمحور ثلاثي: القاهرة ـ الرياض ـ أبو ظبي..
÷ بينما اختارت الكويت تعزيز موقفها «المستقل» نسبياً، محافظة على هامش للحركة، أوسع من الإطار الذي حدده مجلس التعاون الخليجي..
÷ وتبقى قطر خارجة على البيت الخليجي، وعلى الموقف العربي الهش عموماً، عبر توطيد علاقاتها بـ«الإخوان المسلمين»، سواء عبر «مرشدهم» الشيخ القرضاوي، أو عبر التنظيم الدولي الذي نزل إلى الميدان بعد انتكاسة «الإخوان» بخسارتهم الفادحة في مصر..
÷ قبل أن نغادر المشرق لا بد من الإشارة إلى أن الأردن يبدو الآن وكأنه «الدولة الوحيدة» في المشرق، والمحصنة بالتأييد الأميركي ـ الغربي ـ الإسرائيلي المطلق، وبالدعم النفطي (السعودية والإمارات…وقطر)، من دون أن يتورط مباشرة في الحرب على سوريا وفيها، فهو يقدم «الخدمات» للطرفين.
هكذا هي خريطة المشرق إذن: لبنان دولة بلا رئيس، والانتخابات الرئاسية ثم النيابية معلقة على تفاهم دولي لما يحصل بعد،
سوريا رئيس بلا دولة، كالتي كانت متماسكة وقوية ومؤثرة في خارجها القريب والبعيد،
العراق: بلا دولة، بل إن دولته القديمة مهددة بتقاسم على قواعد مذهبية وعنصرية تكاد تذهب إلى فتنة لا ضابط لها لأن المستفيدين منها أقوى من ضحاياها.
فإذا ما انتقلنا إلى مغرب الأرض العربية، فلسوف يطالعنا المشهد التالي:
÷ في مصر: دولة عريقة وعتيقة تحتاج تجديداً وتحديثاً.. وكل ذلك يتطلب إمكانات هائلة غير متوفرة فيها، وهي تطلبها من دول الخليج (السعودية والإمارات أساساً) ثم من المؤسسات الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الاتحاد الأوروبي)… وكل هذه الصناديق والهيئات الدولية تخضع للقرار الأميركي، بما في ذلك دول الخليج. ولا أحد يمنح مجاناً، فلكل هبة ثمنها السياسي، ولكل قرض شروطه السياسية.
ودور مصر العربي معطل حالياً بسبب النقص في قدراتها وانشغالها بتأمين دولتها والتزاماتها تجاه حاجيات شعبها أولاً، وهذا سيشغلها لفترة من الزمن قد تطول.
÷ في السودان: تقطعت أوصال الدولة، بانفصال الجنوب، وثمة حرب مفتوحة في الشرق والغرب مع قوى انفصالية تجد من يدعهما لأسباب مختلفة أخطرها النفط.. وهكذا يتحول السودان إلى عبء على مصر، لا سيما في قضية مياه النيل بدل أن يكون حليفها من موقع الشريك في الضرر كما في الفوائد.
÷ فإذا ما وصلنا إلى ليبيا، تبدت الكارثة بحجمها الحقيقي المخيف: انهارت الدولة، التي كانت تتجسد في شخص واحد لا شريك له، هو الراحل معمر القذافي، وتوزعت قدراتها العسكرية والنفطية والجيوسياسية أيدي سبأ. السلاح الذي كان دائماً يفوق حاجتها، «منهبة» مفتوحة لكل قادر على أخذه، والكل راغب في استخدامه خارج حدودها.. والقوى السياسية فيها «رمزية» الوجود، ما عدا التيارات الإسلامية، التي «توزع» السلاح حسب أغراضها، فترسل ما تيسر منه إلى مصر عبر الصحراء الغربية أو عبر السودان إلى سيناء، أو إلى سوريا عبر لبنان… أما في الداخل فتسود فوضى السلاح مهددة تونس والجزائر التي علت فيها صيحات الحرب على الفوضى الليبية..
وطبيعي أن هذا الفلتان المسلح في ليبيا يهدد جيرانها جميعاً، وبالذات الانتفاضة في تونس، ثم إن الحذر الجزائري قد يتجاوز»السياسة» إلى الفعل العسكري، لا سيما وأن الدولة الجزائرية برئيسها الذي تم التجديد له برغم عجزه الفاضح، لا تتحمل المغامرات السياسية التي قد تنقلب إلى مواجهات بالسلاح في أي لحظة… تحت الرعاية الأميركية.
هكذا تنقسم البلاد العربية بين دول بلا رؤساء، ورؤساء بلا دول… وهي بالإجمال تفتقر إلى البنيان المتماسك والصلب، ومعظمها يعيش في ظلال حرب أهلية معلنة أو مرجأة.
ويظل الأمل في أن تنهض دولة مصر، برغم الصعاب وأسباب الضعف، اقتصادياً على الأقل، وأن تباشر دورها الذي لا بديل منه، فهي ـ بداية وانتهاءً ـ «الدولة» ذات الشرعية التاريخية وذات الركائز الثابتة على اختلاف العصور.
أما حديث الديموقراطية في البلاد العربية فلا بد من إرجائه في انتظار أن تقوم فيها «دول» بحق وحقيق.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version