طلال سلمان

مع الشروق ## الهجوم المضاد على «الميدان»: الطغيان ينتهي حليفاً للهيمنة الأجنبية

من عراق صدام حسين إلى ليبيا معمر القذافي وربما الى يمن علي عبد الله صالح تتكرر المأساة ذاتها أمام عيون الشعوب العربية وعلى حساب حقها في يومها وفي غدها: يستدعي «الطغيان الوطني» الاحتلال الأجنبي الاميركي أساساً ومن ضمنه الإسرائيلي، فيورثه حكم البلاد التي كان يسيطر عليها بالقمع، فتخسر الشعوب أوطانها فضلاً عن «الدول» فيها والتي ستنتهي الى صورة خلقها الأولى: قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وعناصر مقتتلة الى يوم الدين في حمى الاستعمار الذي يستعيد اعتباره بوصفه ـ في هذه اللحظة ـ المنقذ والمجير!
لقد ثبت، وللمرة المليون، أن الطغيان لا يبني «دولاً»، بغض النظر عن استعراضات القوة، وعن النفاق الغربي الموظف لحماية المصالح الاستراتيجية لدول الهيمنة الأجنبية بقيادة الولايات لمتحدة الاميركية ومعها بالضرورة إسرائيل.
وها نحن، في هذه اللحظة، «نتفرج» على « الدول»،ـ وبالقيادة الاميركية دائماً، تأكل لحومنا نيئة في مشارق الأرض العربية ومغاربها، وتستكمل هيمنتها على مقدراتنا، وهذه المرة بالطلب، بعدما استدعاها فأباحها لها الطاغية الذي سلح نفسه بثرواتنا الوطنية ثم لم يستخدم ذلك السلاح الا في مواجهة شعبه وفي تحقيق بعض أحلامه الإمبراطورية (صدام في الكويت، وسائر الخليج والقذافي في دول الجوار ثم مع القبائل الأفريقية التي رسمت دولاً وما هي بدول الخ..).
لقد خسرت الأمة، حتى هذه اللحظة، «دولتين عربيتين» ذهب بهما الطغيان وأعاد اليهما الاستعمار بالطلب (حتى لا ننسى أن «الدول» قد غطت تدخلها العسكري في ليبيا باستدعاء من طرف جامعة الدول العربية). والذريعة هنا، اليوم، كما كانت بالأمس: فرض علينا الخيار بين السيئ والأسوأ، فاخترنا حماية الشعب الليبي، تماما كما سبق أن اخترنا حماية الشعب العراقي من الطغيان بتفويض القوة القادرة على خلعه وهي الولايات المتحدة الاميركية ومعها الغرب وبعض العرب بالعباءة المقصبة والعقال المذهب والكوفية المرقطة وأراجيز الحداء!.
ـ2ـ
كان الأمر، مع ليبيا القذافي، أسهل هذه المرة منه مع عراق صدام حسين، فلم يحدث انشقاق يقسم العرب عربين، بل ترك للمعترض ان يسجل تحفظه بحبر من ماء او بتعليقات من هواء.
تم الأمر، إذاً… وها هم العرب يقعون على اقفيتهم يتفرجون على الأساطيل الغربية بالقيادة الاميركية تدك المطارات والقواعد العسكرية الليبية بجحافل الدبابات وحاملات الصواريخ الهائلة القدرة والتجهيزات الحديثة والتي انفق عليها القذافي ثروة الشعب الليبي، وكأن الأمر يتصل ببلاد لا تربطهم بها رابطة، مقنعين أنفسهم بأن ذلك كله مجرد عملية تأديبية للطاغية الذي سخر منهم مراراً وحقر قممهم وتآمر على معظمهم، ملوكاً ورؤساء ملكيين وأمراء جمهوريين!
مبرر، إذاً، للإمارات العربية المتحدة أن تتبدى في صورة الدولة العظمى وأن ترسل دزينة من الطائرات الحربية يقودها طيارون أجانب بالتأكيد، لتشارك في العملية العسكرية ضد ليبيا، بذريعة تحريرها من القذافي.
لا مبرر للتقولات من نوع ان الأصحاب الفعليين للقرار بإقلاع هذه الطائرات وهبوطها، ومجال حركتها، وطبيعة المهمات التي تنفذها يعود الى الإدارة الاميركية، وأن مشاركتها ـ مع طائرات الدولة العربية العظمى الأخرى، إمارة قطر- تتصل بالمصالح الاميركية وليس بطغيان القذافي… إنما هي نجدة أخوية من أهل نخوة وأشقاء عريقين في الديموقراطية ساءهم ما يتعرض له الشعب الليبي فأرادوا أن يؤكدوا أنهم حاضرون لإغاثة الملهوف ومساعدته على بناء ديموقراطية كالتي أشادوها في إمارتهم المذهبة.
«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً».. تلك هي القاعدة مع شعب ليبيا وطاغيته، وكذلك مع البحرين وشعبها الذي طغى فبغى وطالب بحقوق الإنسان، متجاهلاً أن الطائفة هي التي تحدد الحقوق!
ـ3ـ
التاريخ المر يعيد نفسه؟!
يبني الطغيان دولته لا دولة اهل البلاد. يزودها بأسباب القوة. يشتري السلاح من أي مصدر، لا فرق عنده بين الشرق (السوفياتي من قبل) او الغرب الاميركي والأوروبي وصولاً الى الكوريتين. ينفق ثروة البلاد او معظمها على الطائرات والدبابات والصواريخ وكاسحات الألغام والمدمرات والزوارق الحربية السريعة. يبني جيشاً هائل القدرة. ثم ينتبه الى ان الجيش قد يفلت من يده في لحظة معينة، ولأسباب شتى. يقسم الجيش جيوشاً، يضع على رأس كل منها قيادة يطمئن إليها بينما هي تزعج القيادة الأخرى. لا يكتفي بهذا، بل يذهب في التحوط الى حد إنشاء جيش خاص به تحت مسمى الحرس الجمهوري. أما صاحب نظرية «من ليبيا يأتي الجديد» فقد ابتدع نظام الكتائب العسكرية. جعل جيشه الخاص مجموعة من «الكتائب» وعهد لكل من أبنائه بواحدة منها. ولقد اكتشفنا من خلال المواجهة مع «الثوار» أن كل كتيبة تكاد تكون جيشاً كاملاً ـ بدباباته وطائراته وقواته الخاصة.
«الدولة أنا، وأنا الدولة»: نظرية إمبراطورية يعتمدها الملوك والرؤساء وحتى الأمراء العرب، لا فرق بين جمهورية ومملكة وجماهيرية وإمارة.
والطغيان، موضوعياً، هو شريك للاحتلال والهيمنة الأجنبية وإسرائيل من ضمنها وليست خارجها.
وهل هي مصادفة، الآن، أن سلاح الطيران في الدول العربية المذهبة قد شارك – تحت قيادة حلف الأطلسي الاميركية – في حظر الطيران فوق ليبيا، موفراً دليلاً جديداً انه مجرد «احتياط متقدم» للقوة الضاربة الأميركية، التي لم تضرب يوماً في هذه الدنيا الفسيحة المسماة «الشرق الأوسط» الا جيوشاً عربية، ولم تشارك في الحصار الجوي لأي بلد غير عربي؟.
[[[[[
ذهب الطغيان، حتى الآن، بثلاث دول عربية على الأقل… وقد يذهب بدول أخرى. يتحدى الطغيان الشعب فيسخر قواته المسلحة لقمعه، فتكون النتيجة تدمير البلاد… ويكون على الشعوب ان تعيد بناء دولها التي يتركها الطغيان مرتهنة للأجنبي سياسياً، مفلسة اقتصادياً، مضطربة اجتماعياً وبلا مرجعية شرعية تسوس أمورها. تصبح الدولة لاجئة الى الاحتلال يطلب منه شعبها المقهور مساعدته على إعادة بنائها.
في حالات كثيرة يفرض على الشعب أن يختار بين أمرين أحلاهما مر: أن يسلم بحكم الطاغية مكرها بذريعة حماية الاستقلال الوطني، فتكون النتيجة أن يذهب الاستقلال الوطني ثمناً لإنهاء حكم الطاغية، أو أن يقترف ما يشابه الخيانة إذا ما هو عهد الى الأجنبي بتحريره من الطاغية.
ـ4ـ
الطاغية لا يذهب بالدولة فقط، انه يذهب بالوطن جميعاً: الدولة بمؤسساتها جميعاً والشعب بطموحاته وتطلعاته الى استخدام امكانات بلاده من اجل بناء دولة مستقلة لشعب حر.
لا يمكن للطاغية أن يحترم شعبه، بل انه ـ في الغالب الأعم – يحتقره. ولقد نطق معمر القذافي بحقيقة مشاعره حين خاطب الليبيين بوصفهم قردة وحيوانات وحميراً وبهايم الخ…
الطاغية يعيش بالخوف وعليه. يخاف الشعب فيمزقه تمزيقاً، ويخاف قوى الهيمنة الأجنبية، وأميركا بالذات ومعها إسرائيل، فينافقها ويجافيها ليستدرجها الى التفاهم معه ولو على حساب «شعبه المخلص والمطيع».
ها هم أهل النظام العربي الآن يتآمر بعضهم على البعض الآخر استرضاء للمهيمن الاميركي وتحييداً – بالنفاق – للعدو الإسرائيلي.
ها هي الثورة المضادة المصنعة اميركيا، وأن بأيدٍ عربية، تهب على الأرض العربية حتى لا ينجح «الميدان» في استيلاد الفجر الجديد.
انه الامتحان الحقيقي « للميدان» في كل قطر عربي، بل هو التحدي الأعظم: ان ينتصر ـ بإرادته – على الطغيان من دون أن يسقط في شباك الهيمنة الأجنبية، إما بنقص الوعي او بالانبهار بهذا العدو البعيد والذي لا مندوحة من التعامل معه لأنه… مصدر أسباب التقدم.
والكفاح دوار… والميدان مفتوح لفرسان الغد العربي الأفضل.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version