طلال سلمان

مع الشروق «اللبننـة» كسـلاح للنظـام العربـي ضـد شعوبـه: كـل ينتظـر «برادعيـه» لينقـذه!

مع انفجار أو تفجير الحرب الأهلية في لبنان، منتصف السبعينيات، وتعدد محطاتها وتنوع جبهاتها، واختلاف الشعارات في كل «جولة» جديدة من جولاتها الكثيرة، نتيجة تورط أو توريط أطراف أخرى في تلك الحرب التي بدت بلا نهاية، ابتدع بعض الخبراء تعبير «اللبننة» للتدليل على خطورة الأوضاع في هذا البلد العربي أو ذاك، واحتمال الانزلاق إلى حرب أهلية تضرب مكوّناته الأصلية.
ذلك أن الحرب الأهلية في لبنان سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية عربية بالواسطة، وبالتالي صارت «مدوّلة»، لأن لبنان دولة كل الدول، لكل منها فيه نصيب بحكم طبيــعة نظامه الســياسي الذي ولدته الدول للكيان الذي أقامته بتواطؤ مكشوف وفي ظل ظروف الصراع الدولي على الشرق المفتوح دائماً، ولا سيما مع اقتراب شمس السلطة العثمانية من الغروب في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
ذلك أن الدول الغربية قد أسبغت حماياتها على طوائف لبنان، فاختصت فرنسا بالمسيحيين الموارنة أساساً والكاثوليك عامة، وتولت روسيا القيصرية أمر المسيحيين الأرثوذكس، واهتمت بريطانيا بشؤون الدروز، تاركين للسلطة شؤون المسلمين مع السعي لتحريضهم عليها وتذكيرهم بأنهم ليسوا أتراكاً ولهم الحق في دول مستقلة، وهذا ما سيتبلور لاحقاً وفي غمرة الحرب العالمية الأولى.
ففي العام 1916 عقد البريطانيون مع الفرنسيين معاهدة سايكس ـ بيكو التي قسموا بموجبها أقطار المشرق العربي (سورية الطبيعية تحديداً) بين الاستعمارين، فكانت فلسطين وشرق الأردن (التي ابتدع لها كيان سياسي كإمارة هاشمية) والعراق من نصيب بريطانيا، في حين تركت سوريا (المهشمة كجغرافيا سياسية) ولبنان من نصيب فرنسا ..
على قاعدة هذه المعاهدة وكخطوة متقدمة عليها وأكثر تدليلاً على ما يعد للمشرق العربي، أعطى اللورد بلفور وعده الشهير «لمن لا يملك بما لا يستحق»، متعهداً بتفهم مطالب المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا (1897) بإقامة وطن قومي يهودي فوق أرض فلسطين… العربية.
يبدو أن الزمن قد دار بالعرب دورة كاملة، فأعاد أنظمة دولهم ـ وهي، بأكثريتها مستحدثة، ومن خارج التاريخ، وعلى حساب وحدة الجغرافيا ـ إلى حضانته، بالحماية من قريب (بالقواعد العسكرية) أو من بعيد بالهيمنة السياسية على قرارها الذي كان وطنياً وكان مستقلاً، ثم ذهبت وطنيته واستقلاله مع رياح الاستعمار الجديد.
ها نحن نشهد وجوهاً متعددة «للبننة» في أقطار عربية عدة، تتهدد وحدة شعوبها الحروب الأهلية، متفجرة أو كامنة، في حين يواصل حكامها من أهل النظام العربي التمترس في حصون السلطة، تارة بذريعة حماية الكيان، وطوراً بحجة حماية الدولة من الانهيار … مرة «لمنع العدو من تحقيق أغراضه»، ومرة ثانية بذريعة منع التطرف أو الأصولية من السيطرة على البلاد»، ودائماً بذريعة حماية الوحدة الوطنية وتأمين استقرار الدولة وتثبيت السلم الأهلي.
من اليمن إلى العراق فإلى السودان (فضلاً عن الصومال) تتبدى مخاطر تمزيق الكيانات السياسية القائمة عبر نيران حروب أهلية يتحمل مسؤوليتها النظام السياسي القائم فيها، من دون إسقاط الدور التخريبي للدول، وأولها وأكثرها حضوراً الولايات المتحدة الأميركية ومشروعها للهيمنة على المنطقة عموماً، وبالشراكة مع إسرائيل دائماً.
«اللبننة»، أي تغليب الطوائف والمذاهب والعناصر على وحدة الشعب الواحد، وتفتيته بإعادته إلى عناصره الأولى، بما يلغي الرابطة الوطنية والارتباط الثابت بالأرض… ومتى تقطعت هذه الروابط لم يعد «الخارج» دخيلاً، بل سوف يتحول إلى مصدر حماية أو منبع ضمانة. سيصير الأجنبي أقرب وأكثر إخلاصاً من الأخ الشقيق الذي سيصور طامعاً أو هداماً أو مخرباً.
«اللبننة» دعوة عنصرية تلغي ـ بداية ـ الوطن، ثم الشعب، وتساوي بين الأخ الشقيق والعدو (إسرائيل خصوصاً والأجنبي الطامع عموماً)…
و«اللبننة» يجري تعميمها حالياً في مختلف الأقطار العربية وإن تم تمويهها بشعار «لبنان أولاً» الذي يصير مع السوريين «سوريا أولاً» ومع الأردنيين «الأردن أولاً» ومع المصريين «مصر أولاً» ومع التوانسة «تونس أولاً » ومع الجزائريين «الجزائر أولاً» فيغدو ما كان يسمى «الوطن العربي» برزخاً من الجزر المتخاصمة، المتقاطعة، تجتاحها رياح الكيانية التي تتخذ من العرق أو الدين أو الطائفة ملاذاً لها ومبرراً للانفصال عمن كانوا أهلاً وشركاء مصير… بل إنها في الغالب الأعم تصير المدخل إلى حروب أهلية مفتوحة، تستعيد تقاليد القبائل والعشائر … أقله في المشرق العربي، والقبائل والعشائر لاغية للدول جلابة للاحتلال الأجنبي مباشراً، بالقواعد، أو شاملاً بالهيمنة على القرار والمصير.
وها ان العديد من الشعوب العربية يعيشها حالياً، أو هو يقترب من حافتها الخطرة، وإن تبدلت تسمياتها، فتصير «اللبننة» «عرقنة» في العراق و«صوملة» في الصومال و«مصرنة» في مصر، و«جزأرة» في الجزائر و«سودنة» في السودان و«عربنة» في اليمن السعيد الخ …
فأهل النظام العربي مهتمون بسلطتهم أكثر من اهتمامهم بسلامة بلادهم ورسوخ الدولة فيها. كل منهم هو الدولة، فإن تهددت سلطته فلتذهب وحدة الوطن إلى الجحيم. إنه هو الوطن وهو الشـعب وهو الدولة، وكل من عداه باطـل… الملــك هو الدولة، والأميــر هو الدولة، والرئيس في النظام «الحزبي» أو «البرلماني» هو الدولة، والحزب أداة زينة والبرلمان ديكور .
ولقد اعتنى أهل النظام العربي ـ وكل في «دولته» ـ بتصفية خصومه أو ورثته المحتملين، سواء أكانوا أحزاباً أم مؤسسات عريقة تشكل ضمانة للدولة، غير عابئ بأن النتيجة الحتمية لمثل هذا التصرف أن يصير دكتاتوراً ينظر إلى أي حراك شعبي كمؤامرة عليه وعلى حقه الإلهي في السلطة، وأن يُسقط الحواجز أمام التدخل الأجنبي الذي يرى فيه حماية لنظامه وسلطته، ولو على حساب الدولة ـ جمهورية أم ملكية ـ وشعبها ووحدته التاريخية.
حتى مصر ذات الكيان الراسخ، تاريخياً، وشعبها الواحد الذي ظل واحداً على امتداد العصور، امتدت إليها المحاولات الهادفة إلى تهديد وحدتها، تارة بذريعة أن الأقباط هم أصل مصر وأن المسلمين فيها وافدون من خارجها، أو بالادعاء أن أهل النوبة شعب آخر له الحق في «الاستقلال» بقوميته .. وأخيراً، وليس آخراً، أن غزة الفلسطينية كانت تحت إدارة ضابط مصري باتت خطراً داهماً يهدد مصر دولة وشعباً ومصيراً.
لم يتوقف هؤلاء الدعاة المشبوهون في وطنيتهم أمام حقيقة أن الكيان راسخ بقوة وحدة الشعب ووحدة الأرض، فضلاً عن وحدة التاريخ والمصير.. وأن شعار «مصر أولاً» لا يصلح سبيلاً إلى التقسيم وإن أمكن استخدامه لفصل دائم لمصر عن محيطها العربي.
أما في العراق تحت الاحتلال الأميركي، فقد كان اللعب على الطوائف أسهل، باستغلال الذكريات المرعبة عن الحكم الوحشي لصدام حسين ونظامه الذي أدخل البلاد في مسلسل من الحروب ذهبت بوحدة الشعب ثم بالدولة جميعاً.
وهكذا وجد من يروج لفيدرالية الطوائف والعناصر بحيث يصير العراق ثلاث دويلات: شيعية في الوسط والجنوب، وسنية في الشرق، وكردية في الشمال، مع احتمال إنشاء كيانات بل محميات للتركمان والمسيحيين في مواطنهم التاريخية التي لم يغادروها أبداً.
ومن الطرائف المبكية التي تشهدها الحياة السياسية تحت الاحتلال الأميركي في العراق، أن يتهم العاملون لتقسيم العراق، ولو بالفيدرالية، الإدارة الأميركية بأنها تناصر المتحدرين من حزب البعث الذي كان ستاراً لحكم صدام حسين، للعودة إلى الحياة السياسية والمشاركة في السلطة، لتبرير اندفاعهم على طريق تفتيت الدولة الواحدة بفيدراليات الطوائف والعناصر..
[[[[[
إن أهل النظام العربي متواطئون عن وعي، أو انهم يندفعون وقد أعماهم وهج السلطة عن خطورة ما يدبر لبلادهم، برغم حضور «المثل الفلسطيني»، كقضية لشعب من شعوبهم كان دعمها شرطاً لاستقرار دولهم وحمايتها وتأمينها ضد مخاطر التوسع الإسرائيلي المعزز بالهيمنة الأميركية، فتخلوا عنها، بل باعوها، بذريعة تأمين أنظمتهم، فلم يفعلوا إلا تهديد سلامة أوطانهم ووحدة أهلها.
[[[[[
إن كل قطر عربي يعيش حالة من القلق البالغ على دولته المهددة في وجودها بعد إضعاف شعبها بتمزيق وحدته.
وكل شعب عربي يائس من نظامه وخائف على دولته ينتظر مخلصاً ما، خصوصاً وقد تم تمزيق المؤسسات السياسية الجامعة أو تفريغها من أي مضمون لتكون مصدر تشريع لما يقرره الملك الذي هو الدولة وهو الشعب وهو هو الماضي والحاضر والمستقبل.
وبغض النظر عن الظروف التي رافقت عودة الدكتور محمد البرادعي الى مصر، والملابسات التي أحاطت بهذه العودة، وحجم الآمال أو التمنيات التي علقت على شخصه ودوره المستقبلي.
وبعيداً عن المقارنة بين مصر وأي من الدول العربية الأخرى…
فإن كل بلد أو شعب عربي ينتظر «البرادعي» الخاص به، معلقاً على مجيئه احتمالات خروجه أو إخراجه من المأزق الوطني الذي يعيش في أساره.
إن الشعوب تحب أوطانها، لكنها ليست مستعدة لأن تصدق أن الوطن بنظامه الذي سرعان ما يصير رجلاً واحداً يحيط نفسه بمجموعة من المعاونين.
إن مجمل الأوطان العربية في خطر، بوحدة شعوبها كما بكياناتها السياسية جميعاً. وتجربة «اللبننة» واضحة بنتائجها المأساوية في بلد المنشأ.

([) تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version