طلال سلمان

مع الشروق ## القمة العربية في بغداد: التعرف إلى عراق ما بعد الاحتلال

الحدث: إن القمة العربية الثالثة والعشرين ستنعقد غداً (الخميس) في بغداد.
ما تبقى تفاصيل، سواء اتصل الأمر بما سوف يصدر عنها من «قرارات» لن تنفذ، أو «توصيات» لن يعمل بها أحد.
من التفاصيل أن نتوقف أمام من يجيء من الملوك والرؤساء والسلاطين لتمثيل بلاده في هذه القمة التي يرى فيها العراقيون نوعاً من إعادة الاعتبار الى دولتهم التي ما تزال قيد التأسيس.
فعراق ما بعد الاحتلال الاميركي ليس هو العراق الذي عرفه أهله ومن ثم العرب والعالم… ذلك أن هذا الاحتلال قد أنجز ما كان قد تسبب فيه طغيان صدام حسين من ضرب اللحمة الوطنية، وإفقار البلاد وشعبها، وتفكيك الدولة وتمزيق الوحدة الوطنية بحروب الانتقام التي شنها، خلال حكمه الطويل، والتي شملت المناطق جميعاً والطوائف جميعاً والعناصر التي يتكون منها العراقيون في مختلف مناطق ارض الرافدين شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً بما في ذلك العاصمة بغداد.
ثم إن ذكريات العراقيين عن القمم العربية ليست طيبة، إذ إن بين هذه القمم من غطى حروباً خارجية على العراق، بذريعة ردع صدام حسين عن مغامراته العسكرية وأخطرها اجتياحه الكويت صيف العام 1990.
…فضلاً عن أن الاحتلال الاميركي للعراق لم يحظ «باهتمام» القادة العرب، بل إن العراقيين يتذكرون ـ بوجع ـ أن العديد من هؤلاء القادة كانوا متواطئين مع الإدارة الاميركية، وأنهم جلسوا يتفرجون على تدمير الدولة انطلاقاً من بغداد ونهب كنوز الثقافة، من دون أن «يتظاهروا» بالاهتمام أو بالحزن أو أن يعتذروا عن عجزهم. ثم ان هؤلاء القادة لم يهبّوا لنجدة الشعب العراقي وهم يرون الملايين من رجاله ونسائه وأطفاله يتركون بيوتهم وأرزاقهم ويهربون الى أي مكان يوفر لهم السلامة والخبز.
ما علينا والماضي، لنعد الى الحاضر وإلى القمة العربية في بغداد (وهي الثالثة تعقد فيها بعد قمة 1978 وقمة 1990)، التي يعرف العراقيون أن قيمتها معنوية، وأنها تعني شيئاً من إعادة الاعتبار الى الجمهورية العراقية، بوصفها عضواً مؤسساً لجامعة الدول العربية، والأهم أنها تؤكد الهوية العربية لهذه الدولة التي كان يصفها المغالون في تقدير قوتها «بروسيا العرب».
الصورة الخارجية للقمة تظل بائسة، برغم الزركشات والمحسنات اللفظية التي تضفى عليها.. فالقادة العرب أو من يمثلهم، يأتون الى بغداد مختلفين الى حد مقاطعة بعضهم البعضِ، وتجرؤ المستجدين في عضوية الجامعة على المطالبة بطرد بعض مؤسسيها، ولو بتعليق العضوية، كما حدث لسوريا، وبغض النظر عن الأسباب.
ثم إن المتفقين في ما بينهم على انعقاد القمة يظهرون حرصهم على بقاء هذه «المؤسسة» ثم على استبقاء دور لهذه الجامعة، ولو محدود وشكلي، لأنه يفيدهم طالما صاروا «الأكثرية»وصار لهم القرار، بمعزل عن القدرة على تنفيذه.
…وهم يأتون وقد افتضح أمرهم وثبت عجزهم عن معالجة أمورهم بأنفسهم وعبر «قياداتهم»، الملكية منها والجمهورية، بدليل أنهم فشلوا في اتخاذ قرار لهم القدرة على تنفيذه، مع الانتفاضة الليبية، بداية، فجعلوا من الجامعة مجرد ساعي بريد إلى مجلس الأمن، الذي أحالهم الى الحلف الأطلسي فناب عن «العرب» في اتخاذ القرار البائس «بتحرير» ليبيا من طغيان عقيدها معمر القذافي.
ولقد تأكد ذلك العجز، مرة أخرى، مع الحالة السورية.. وهكذا دفعوا بالجامعة دفعاً لتشكو بؤس حالها حال العرب – الى مجلس الأمن الدولي وتفوضه بأن يبتدع حلاً للأزمة الخطيرة التي تقترب من حافة الحرب الأهلية وتنذر بتدمير سوريا وإطلاق فتنة لا تبقي ولا تذر في المشرق العربي جميعاً.
على هذا فإن العراقيين عموماً يريدون القمة كنوع من إعادة الاعتبار، عربياً، الى بلادهم، يؤكد هويتهم، وحرص أخوتهم على هذه الهوية لشعب العراق كما لدولته المتصدعة.
أما أطراف الحكم فتختلف نظراتهم او توقعاتهم الى القمة ومنها باختلاف أغراضهم ومصالحهم داخل لعبة السلطة، وإن اتفقوا أن مجرد استضافة بغداد لهذه القمة يخدم العراق، وبالتالي يزكي القائمين بالأمر.
وليس سراً أن السلطة المركزية في بغداد تشكلت اضطرارياً من أطراف غير متوافقين لا على صيغة الدولة ومؤسساتها، السياسية والاقتصادية والأمنية منها على وجه الخصوص… وأن «الائتلاف» القائم الآن بين الأركان في قمة هرم السلطة هو ائتلاف اضطراري يحجب خلافات جدية بينهم، لكن أحداً منهم لا يريد تفجيره لأسباب عدة ابرزها أن اياًٍ منهم لا يمكنه بمفرده أن يدّعي انه «يختصر» دولة العراق في شخصه، ثم أن كلا منهم قد احتاج الآخرين ليصل إلى موقعه ويبقى فيه.
والواقع أن هناك مسائل خطيرة ما تزال معلقة، أبرزها ما يتصل بالصيغة النهائية للنظام: هل هو أحادي – فيدرالي أم هو مركزي إلا في الشمال الكردي حيث تكاد كردستان تستكمل شكليات «الدولة» المستقلة وإن حرصت قيادة رئيسها مسعود برازاني على عدم القطع مع السلطة المركزية في بغداد… وخصوصاً وهو قد أعطى نفسه دور المرجعية السياسية المؤهلة للتدخل من اجل التوفيق بين الكتل والمكونات والشخصيات السياسية، مستفيداً من موقعه الاستثنائي ومن صوته المرجح في لعبة السلطة والكيان.
والواقع ان الانتخابات النيابية والاستفتاءات لم تحسم الصيغة النهائية للحكم، وإن توافق الكل على وضع مركب: رئيس الدولة (سني، كردي) له نائبان (سني وشيعي)، ورئيس الحكومة (وهو صاحب القرار المركزي في السلطة ـ شيعي) وله نائبان (سني وشيعي)، ورئيس المجلس النيابي الذي له نظرياً- حق محاسبة السلطة سني عربي وله نائبان ( شيعي وكردي).
ما لنا وللتفاصيل حيث تكمن الشياطين..
إن كل طرف في السلطة يرى في انعقاد القمة تزكية لموقعه وموقفه.
.. وإذا كان الرئيس جلال الطالباني هو السياسي المخضرم وصاحب التجربة العريضة وأكثر الشخصيات العراقية المعروفة في دوائر القرار كما على المستوى الشعبي العربي، يلعب الدور التوافقي الأبرز، فإن رئيس الحكومة «العقائدي» نور المالكي كان قائداً لتنظيم شبه سري، ثم انه لم يتورع عن تقديم نفسه خلال إحدى زياراته واشنطن بأنه «شيعي أولاً، عراقي ثانياً وعربي ثالثاً».
ومنذ اجتياح القوات الاميركية العراق وإسقاط نظام صدام حسين، برز واقع ضعف التمثيل الشيعي في السلطة العراقية منذ قيام الدولة في ارض الرافدين. وإذا كانت البداية تتمثل، تاريخياً، في الحُرم الذي أصدرته المرجعيات الشيعية على من يقبل بالاشتراك في الحكم تحت الاحتلال البريطاني(ثورة العشرين)، فإن الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق، بعد خلع الملك الذي كان «يرضي» بهاشميته الشيعة، قصرت في معالجة الخلل في السلطة.
ربما لهذا برزت الصيغة الطائفية للحكم في العراق ما بعد صدام حسين:
فبين الشيعة من افترض أن الوقت قد حان لإنصاف طائفتهم، وبالتالي توليهم الموقع الأول في السلطة، تعويضاً لهم عن «ظلمهم التاريخي».. في حين أن السنة وجدوا في هذا الأمر ظلماً لهم، فتعويض الشيعة لا يكون بتعريض السنة لظلم مضاد.
ربما لهذا، في جملة أسباب أخرى كثيرة، تأخر اعتراف العديد من الأنظمة العربية، لا سيما في الجزيرة والخليج، بالحكم الجديد في العراق، او بالأحرى تأخر إقبالهم على التعامل معه بصورة طبيعية، كأخ شقيق، وفرضوا عليه ـ ولفترة طويلة ـ نوعاً من الحظر.
وربما لهذا قد يعتبر العراقيون عموماً انعقاد القمة العربية في بغداد اعترافاً عربياً متأخراً بالأمر الواقع، أي بالتشكيلة الراهنة للسلطة.
تبقى الإشارة الى أن عدد «الكبار» الغائبين عن القمة سيكون ملحوظاً.. فلا رئيس المجلس العسكري في مصر سيحضر، ولا الملك السعودي، ولا الملك المغربي (الذي نادراً ما حضر القمم) والأرجح ان يوفد الخليجيون وزراءهم، وقد لا يحضر الرئيس الجزائري بسبب من مرضه او من انهماكه في الشؤون الداخلية المعقدة، وسيحضر الرئيس التونسي بارتجاليته المميزة، وليس معروفاً بالضبط من سيمثل ليبيا، أما لبنان فمن الطبيعي ان يحضر بشخص رئيس الجمهورية ووفد طبيعي.
وكالعادة ستسقط فلسطين سهواً إلا من بضعة سطور في البيان الختامي.
ستكون سوريا الغائب الأكبر ـ الحاضر الأكبر،
وسيكون غيابها الحاضر أهم معضلات القمة، خصوصاً أنها تكشف عجز هذه المؤسسة عن التعامل مع الأحداث الخطيرة التي تعصف بالمنطقة.
وسيكتشف غلاة السلفيين والإسلاميين أن الشيعة بشر مثلهم، ومسلمون مثلهم ايضاً.
لسوف يسعد بغداد والعراقيين عموماً أن يأتي إليهم القادة العرب ليعقدوا في بلادهم قمة إضافية لا توفر حلاً لأية مشكلة تعطل التوافق العربي والتعاون العربي الجدي برغم انهم سيعانون الأمرّين في عاصمتهم بسبب التدابير الأمنية الاستثنائية التي ستجعل بغداد قلعة محصنة بمئة ألف رجل امني، فضلاً عن حراستها جواً بطيران الاحتلال الاميركي.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version