ها هم «العرب» يغادرون العصر عائدين بفعل أنظمة القمع والتخلف إلى جاهلية جديدة أقسى بما لا يقاس من جاهليتهم الأولى لاختلاف الزمان وأحوال العالم من حولهم.
ها هم يستعيدون جاهلية الماضي بتسميات حديثة: القبائل والعشائر ببطونها والأفخاذ جددت نفسها عبر الطائفية والمذهبية.
يقتل العرب «عروبتهم» كل يوم، في بلادهم التي لم تعد أوطانهم. الأوطان رحبة تتسع لكل أهلها، بل هي تقوم بأهلها، فإذا انشقوا على أنفسهم، بطوائفهم ومذاهبهم، سقطت الأوطان ودولها التي استولدت، في الغالب الأعم، قيصريا، وارتضاها أهلها مرغمين. صار «الوطن» الواحد دولاً ودويلات. اقتطعت دول لعروش لم يعرف شيوخها «الدولة» في أي يوم.
يقتل العرب عروبتهم، ويقتلون بعضهم بعضاً، في بلادهم التي لم يعودوا يرون فيها ـ موحدة ـ بلادهم. ويقتل المسلمون دينهم الحنيف كل ساعة وحيثما تواجدوا، في ديارهم أو في مغترباتهم. ويشاركون «العرب» في قتل العروبة باعتبارها بدعة غربية، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فكيف إذا كانت بدعة الهوية القومية، أو العروبة… أليس المسيحيون هم من رمى أهلهم المسلمين بهذه البدعة، ثم أغروا بها إخوانهم من بدو المنطقة والخارجين على إسلامهم؟
تتهاوى الدول العربية، مشرقاً بالأساس، وبعض المغرب، بعد أقل من مئة عام على إقامتها «بالقرار الأجنبي»، استكمالاً للتحرر من التتريك وفي محاولة لصد موجات التغريب، مع أن الغرب هو من استولد معظم هذه الدول بالكيانات التي نعرفها اليوم.
لبنان المتصرفية ذات الوضع الخاص لأسباب طائفية صار الجمهورية اللبنانية، بعد ضم ما يسمى «الأقضية الأربعة» التي كانت ضمن ولايات عثمانية إليه. أما سوريا فقد حاول المستعمر الفرنسي تقسيمها إلى أربع دول، على أساس طائفي، فلما فشلت المحاولة اكتفى بأن اقتطع البريطانيون شرقي نهر الأردن ليجعلوها إمارة هاشمية للشريف الذي صار أميراً ثم ملكاً بعد ضياع فلسطين عبد الله بن الحسين الهاشمي، بينما اقتطع الأتراك «لواء الاسكندرون» ليظلوا محايدين في الحرب العالمية الثانية.
أما العراق فقد استولد قيصريا ليكون عرشاً لفيصل الأول ابن الشريف حسين أيضاً، وتعويضاً له عن حلم استعادة الخلافة ـ بهاشميته ـ على بلاد العرب جميعاً. وأما فلسطين التي أصدر وزير خارجية بريطانيا آنذاك وعده بأن تكون «دولة لليهود» على حساب أهلها العرب، فقد وُضعت تحت الانتداب البريطاني لحوالي ثلاثين سنة، أي ريثما يستكمل اليهود عدة الحرب التي تفوقوا بها على العرب مجتمعين، فطردوا أهلها منها ليقيموا دولتهم فوقها بضمان التفوق العسكري على مختلف الدول العربية المجاورة (وأساسا مصر وسوريا).
حتى هذه اللحظة، تبدو دول الخليج التي أنشأها النفط والغاز بحراسة قوى الاستعمار القديم (بريطانيا) والجديد (الولايات المتحدة الأميركية) وغفلة العرب أو تسليمهم بقرار الأقوى، وكأنها «قد وُجدت لتبقى». فتحوّلت إماراتها التي لم يكن لها وجود في التاريخ، إلى «دول» غنية، تفيض ثرواتها من النفط والغاز عن حاجات شعوبها (التي تجري زيادة أعداد «مواطنيها»، منهجياً، عن طريق تجنيس آلاف مؤلفة من رعايا بعض الدول الفقيرة، لا سيما من بدوها الذين لم يعرفوا «الدول» ولا «الحدود» بينها، ولذلك ما زالوا يتحركون داخل انتشار قبائلهم على امتداد البادية بين السعودية والعراق والأردن وسوريا… ومفهوم أنه يمكن «شراء» هؤلاء بهوية مذهّبة وراتب شهري وتحت شعار «بلاد العرب للعرب»).
أما الدول التي استولد كيانها «الاستعمار» مثل سوريا والعراق، فتبدو مهددة في وحدة شعبها، كما في كيانها السياسي… في حين ترسل دول محدودة السكان «قواتها العسكرية»، والطيران أساساً، إلى اليمن لتقصف مدنه وقراه الفقيرة المعلقة فوق جبال جرداء.
وأما لبنان فقد خاض شعبه حربا أهلية ـ عربية ـ دولية امتدت لأكثر من خمس عشرة سنة دموية، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين أساساً، وآلاف أخرى من هويات عربية متعددة.
وهكذا يعيش لبنان اليوم ارتجاجات الحرب في سوريا وعليها، فيهتز مجدداً ويستشعر أهله الخطر على الكيان وعلى وجودهم فيه، فيندفعون مهاجرين نحو أي دولة تقبلهم في الغرب أساساً (الولايات المتحدة وكندا بالدرجة الأولى، ثم بعض دول أوروبا، ولو كلاجئين لا يحملون جوازات سفر، ما يضطر السلطات في دول شمالي أوروبا كالسويد والنروج والدانمرك إلى قبولهم كلاجئين، ثم تمنحهم ـ بعد شهور قاسية ـ جنسيتها).
مع الوصول إلى سوريا نغرق في المأساة المفتوحة على المجهول، والتي ذهب ضحيتها ـ حتى اليوم ـ نحو نصف مليون رجل وامرأة وطفل، في حين شردت الحرب ربع شعبها في أربع رياح الدنيا، بينما ثلث الشعب مهجر داخل وطنه.
ليس مبالغة القول إن «نصف العالم» يقاتل في سوريا. وبين هذا النصف دول عربية عدة، يعلن مسؤولوها الحرب عليها بذريعة مخاصمة نظامها إلى حد تهجير شعبها وتدمير دولتها الممزقة جهات وإمارات، بعضها في قبضة «داعش»، وبعض آخر في قبضة «جبهة النصرة». وثمة «جيوش» عديدة بعضها ترعاه تركيا منفردة، وبعضها بالاشتراك مع دول عربية لا تخفي انخراطها في هذه الحرب التي تكاد تذهب بالدولة والشعب في سوريا، وتبررها بالعداء للنظام الحاكم في دمشق.
أما المأساة العراقية فقد أثبتت أن الحكم الطائفي يدمّر الدول ولا يبنيها. أما القضاء على الطائفية التي استولدها ورعاها الاستعمار، ثم أفاد منها بعض المنسيين ممن تركوا العراق أيام محنته، ثم عادوا ليحكموه في ظل الاحتلال الأميركي، فمهمة جليلة تحتاج مجاهدين يقدمون الوطن على الطائفة، ويقدمون الدولة على المصالح الفئوية والشخصية. وهذه مهمات تحتاج أبطالاً وقديسين. ومن أسف فإن أمثال هؤلاء معدودون، وغالباً ما يفسدهم شبق السلطة.
أما حين نصل إلى اليمن فسنشهد صورة مجسمة للانحطاط العربي في قلب المستنقع الطائفي والمذهبي المغذى من خارجها، ولأسباب لا علاقة لها بالوطنية أو بالعروبة والإسلام.
فاليمن الذي تُشن عليه الحرب من خارجه، لا يوفر أصحاب المصلحة فيه سلاحاً محرماً إلا ويستخدمونه. وأخطر الأسلحة هي الطائفية معززة بالجهوية. فحيث لم تكن تستطيع التمييز بين الزيدي (الشيعي) والشافعي (السني)، بات الحديث علنيا الآن عن الاشتباه بوطنية الزيود (أو أقله من يطلق عليهم تسمية «الحوثيين»، والحوثيون هم السادة الذين يعودون بنسبهم إلى سلالة الرسول العربي محمد بن عبدالله) مقابل صدق وطنية الشوافع الذين تحاول السعودية استمالتهم سياسياً وتُمنّيهم بالسلطة بعد تحريرها من الزيود.
يمكن الخروج من قراءة سريعة، وبالسياسة، لهذه الحروب الأهلية العربية الدولية باستنتاج محدد: أن عدداً من الدول العربية التي كانت قائمة مهدد بالتصدع بل ربما بالاندثار.
إن الوطنية معززة بالعروبة كانت الهوية المميزة للشعب السوري. ولم تكن الأعراق غير العربية (السريان، الأكراد، والتركمان..) تشعر بالغربة أو بأنها منبوذة أو مستبعدة عن السلطة، وقد رأس جمهورية سوريا عبر تاريخها الاستقلالي عرب وأكراد ومتحدرون من أصول تركية أو تركمانية.
كذلك فقد شارك في حكم العراق بعد استقلاله متحدرون من أعراق غير عربية (أتراك، تركمان وكرد..) لكنهم كانوا جميعهم عراقيين.
أما اليوم فنحن نشهد تهاوي الدول العربية وتصدع شعور أهلها بالمواطنة، فيهرب المواطنون ـ مع تهالك الدولة ـ من عروبتهم التي شكلت هوية متكاملة بالدين واللغة والأرض، إلى جنسيات ولغات مستعارة من بلاد غريبة، مرتضين الغربة فيها بل ويفضلونها على هويتهم الأصلية.
إن النخب العربية تهجر بلادها التي تضيق أنظمتها بها، فلا تقبل أفرادها إلا «عبيداً» أو «رعية»، لا رأي لهم في كل ما يتصل بنظام الحكم، فضلاً عن أن الحاكم الذي يتولى أمورهم لا يموت ولا يغادر موقعه إلا بثورة أو بحرب أهلية تذهب بالبلاد.
وواضح أن عدداً من الدول العربية، لا سيما في المشرق، من دون أن ننسى ليبيا في المغرب، والسودان في الوسط، تخسر هويتها الوطنية ـ القومية، وتغرق شعوبها في دمائها.
في المقابل، تتعاظم قوة العدو الإسرائيلي، وتخترق «دولته» العديد من الدول العربية بينما تجتاح أفريقيا التي كانت مقفلة دونها، ذات يوم، لأسباب تتصل بعنصريتها وعدوانيتها وتشريدها شعب فلسطين من دياره، وحروبها المتكررة ضد الدول العربية المحيطة.
] تنشر بالتزامن مع جريدة « الشروق» المصرية.