طلال سلمان

مع الشروق العرب يدوخون للتعرف إلى الديموقراطية بين لبنان الطوائف وإيران الثورة الإسلامية

يعيش المواطن العربي، في مختلف ديار وطنه الكبير، حالة من الاضطراب النفسي والقلق الفكري وهو يتابع النقاش المفتوح حول الانتخابات النيابية المبهرة في «ديموقراطيتها» في لبنان، وبعدها مباشرة حول «فنون التزوير» في الانتخابات الرئاسية في إيران، التي تسببت بأزمة سياسية خطيرة تتهدد نظام الثورة الإسلامية في استقراره أو ـ أقله ـ في صحة تمثيله الأكثرية الساحقة من شعبه، والتي لم تكن في أي يوم موضع نقاش.
المشكلة أن هذا المواطن العربي، وفي مختلف دياره مشرقاً ومغرباً، لا يملك معياراً أو جهازاً للقياس يساعده في إصدار الحكم النزيه ويأخذ بيده وهو يحاول أن يتبين الصح من الغلط والمزور من السليم، لأنه لم يتعرف الى الانتخابات كفعل ديموقراطي بعد.
هو يعرف «الاستفتاءات» فقط… وفي الاستفتاء الرسمي عليك أن تقول «نعم، نعم»، فإذا ما أخذك الشطط أو الرغبة في التميز الى قول «لا» تدخّل أولو الأمر، بحرصهم على سلامتك وحسن اختيارك فصححوا غلطتك المتسرعة وحوّلوا لاءك الى نعم لتظل مخلصاً للقاعدة الذهبية المعروفة: «ما قال لا قط إلا في تشهده»!
فأما في لبنان، حيث تدفقت الشهادات الدولية والعربية، رئاسية وملكية وأميرية، بالإنكليزية والفرنسية والعبرية (حتى لا ننسى الإشادات الإسرائيلية المتكررة) فضلاً عن الفصحى والعاميات المختلفة بحسب الجهات وعشائرها وبطونها والأفخاذ، فإن المواطنين ـ الناخبين لم يروا في الانتخابات النيابية التي خاضوا غمارها وكأنها حرب كونية في السابع من حزيران (يونيه) الماضي ما يستحق كل هذه الإشادة والتنويه التي وصلت الى حد اعتبارها النموذج الفذ في الممارسة الديموقراطية، والمثل الأعلى في توكيد الإرادة الشعبية عبر أقلام الاقتراع.
فهذه الانتخابات بقانونها الأشوه كما بنتائجها التي لم تكن «انقلاباً» ولا هي كانت ثورة أو «انتصاراً بهياً للديموقراطية» كما وصفها بعض الخارج، بينما تواضع من في الداخل فاكتفوا باعتبارها تزكية لاستمرارهم على رأس السلطة، هي في لبنان موضع جدل جدي: هل تقدمت بهم خطوة على طريق الديموقراطية أم تراجعت بهم أميالا (وأجيالا) عن بلوغ تلك الأمنية التي تظل ـ عربياً ـ في مدى الاستحالة؟!
ذلك أن هذه الانتخابات هي أقرب الى الاستفتاءات الطائفية والمذهبية. فقانونها المستعاد من العام 1960 يحوّل «المواطنين» المفترضين الى رعايا لطوائفهم ومذاهبهم: يذهب واحدهم ليقترع لمرشح أو مرشحين من طائفته أو مذهبه حصراً… ونظراً لان الناخبين المسيحيين قد تناقصوا بمعدلات دراماتيكية فإن القانون يعطيهم نصف المقاعد حرصاً على «الوحدة الوطنية»…
وهكذا يمكنك أن تجد نائباً قد فاز بمئة ألف صوت وآخر فاز بعشرين ألفاً. كما أن تقسيم الدوائر، مع الحرص على التوازنات الطائفية والمذهبية، قد أتاح لنائب أقلوي أن يفوز بعشرات آلاف الأصوات لناخبين لم يعرفوه ولم يسمعوا باسمه، لكن «اللائحة» وفرت له «اكتساح» الموقف في منطقة لم يتجول فيها حتى كسائح!
ثم ان هذه الانتخابات قد صنفت معركة مواجهة عربية ـ دولية حاسمة مع «محور الشر»، فتضافرت فيها الجهود الأميركية (والإسرائيلية ضمناً) والغربية والعربية لمواجهة «المعارضة» بقيادة «حزب الله» وحلفائه. وبالتالي فهي اعتبرت معركة حفظ «الهوية العربية» للبنان، على حد ما قال البطريرك الماروني الذي لم تُعرف عنه الحماسة للعروبة، في مقابل محاولات الهيمنة عليه التي تقودها إيران بالتحالف مع سوريا!
ولأنها معركة مصيرية حاسمة فلم يكن ثمة ما يمنع من أن ترمى فيها مئات الملايين من الدولارات دعماً للهوية العربية وتأميناً لفوز الطوائفيين والمذهبيين بوصفهم الأعظم التزاماً بمبادئ الديموقراطية!
أما في إيران التي قدمت منذ ثلاثين عاماً نموذجاً فريداً عن إمكان التآلف بين الثورة الإسلامية والنظام الديموقراطي، فقد تحولت الانتخابات الرئاسية فيها الى «حرب كونية»: انتظمت الممالك والإمبراطوريات والإمارات والدوقيات العربية التي لم تعرف أي منها معنى الانتخابات، في جبهة متراصة تحمي مؤخرتها إسرائيل، وتقدم لها أوروبا الغربية الدعم اللوجستي (أشرطة مهربة ومعلومات مضخمة وأخباراً مغلوطة وتصريحات مقطعة) للتشهير بالنظام الأوتوقراطي ـ الثيوقراطي الذي لا يحترم إرادة شعبه!
وفي حين ظلت الإدارة الأميركية متحفظة في رد فعلها، «تنصح» وتحاول إبعاد تعليقاتها عن صيغة الأمر مراعاة لحساسية الشعب الإيراني ورفضه أي تدخل خارجي في شؤونه الداخلية، فقد تبرع أمراء الكتابة في الصحف والفضائيات العربية بأن يقدموا النصح للنظام الإيراني بأن «يعترف» بأنه قد ارتكب جريمة تزوير الانتخابات، وبأن ينزع الشرعية عن الرئيس المنتخب ويعيد تنظيم انتخابات رئاسية جديدة معلناً سلفاً أن «المعارضة» ستكسبها… علماً بأن «المعارضة» في إيران هي الوجه الآخر للنظام، وهي من صلبه وليست طارئة عليه ولا هي مخاصمة أو معادية، تجاهر برفضها إملاءات الغرب على إيران، وتقاتل من أجل امتلاك الطاقة النووية باعتبارها الطريق الى التقدم بقفزات واسعة نحو العصر، وفك الحصار الغربي عن النظام الإسلامي وتمكين إيران من لعب دور عالمي يتناسب مع قدراتها.
بالمقابل فإن إسرائيل التي تعادي الثورة الإسلامية في إيران منذ يومها الأول قد تولت قيادة الهجوم، وانطلق أركان الحكم فيها يحرضون «العرب» خاصة ضد هذا «النظام الدكتاتوري المجافي للعصر، قامع الحريات»، متجاهلة أن كلامها يرتد على أصدقائها من حكام العرب.
ومن باب تنشيط الذاكرة فحسب أستعيد بعض الوقائع التي عشتها مباشرة في طهران، خلال زياراتي الأولى بعد الثورة الإسلامية ولقاءاتي مع بعض أبرز قادتها، وعلى رأسهم القائد المؤسس آية الله روح الله الموسوي الخميني: كانت السفارة الإسرائيلية في طهران عبارة عن حي كامل في العاصمة الإمبراطورية. مجموعة من المباني خلف سور حصين كالقلعة، يعمل فيها أكثر من خمسمئة إسرائيلي يتمتعون جميعاً بالحصانة الدبلوماسية. وكان ثمة آلاف من الإسرائيليين يعملون كخبراء في فروع القوات المسلحة جميعاً، الطيران أساسا والبحرية وسلاح البر والمخابرات.
كان الإسرائيليون في كل مكان، وهم استفادوا من اليهود الإيرانيين الذين كانت إسرائيل قد استقدمتهم الى كيانها، بعد احتلال فلسطين، للإفادة من معرفتهم العميقة «ببلادهم» و«شعبها» المتدين الى أقصى الحدود..
ولقد شهدنا عيداً شعبياً حقيقياً حين قرر النظام الإسلامي طرد البعثة الدبلوماسية والخبراء الإسرائيليين، وتقديم السفارة الإسرائيلية ـ القلعة هدية الى منظمة التحرير الفلسطينية.
… وحتى بعد أن شن صدام حسين بتحريض أميركي معلن وبدعم «عربي» غير محدود حربه على نظام الثورة الإسلامية في إيران في العام 1980، وقبل أن تكمل عامها الأول، وهي الحرب التي دمرت البلدين وذهب ضحيتها أكثر من مليوني قتيل فضلاً عن ملايين الجرحى والمعاقين، فإن التزام الإيرانيين قضية فلسطين ظل صلباً واستمروا في تأييدها بكل الوسائل المتاحة.
وواضح أن معظم الذين يشنون الحملات الشرسة على هذا النظام لا يعرفون أو لا يقدرون عمق التزام الإيرانيين بدينهم، فضلاً عن اعتدادهم بإيرانيتهم، حتى لو اعتبر هذا الاعتداد نوعاً من الرجوع الى الفارسية.
إنهم بمعنى ما، قريبون من المصريين الذين لا يلغي عميق تدينهم الإسلامي وإحساسهم بالانتماء العربي من اعتزازهم بالحقبة الفرعونية من تاريخهم، مع الفارق: فالفرس عرق وقومية وهوية وطنية وليس مجرد اعتزاز بالماضي البعيد الذي ليس له أي تأثير على الحاضر.
لكن الإسلام قد جب العنصرية، ثم انه فتح أمام إيران أبواب الدور الاستثنائي البالغ الأهمية.. خصوصاً في غياب المسلمين عموماً، بل غيبوبتهم، والعرب في الطليعة.
[[[
ونعود الى الديموقراطية والانتخابات..
ليس تعسفاً أن نقول إن الانتخابات النيابية التي جرت مؤخراً في لبنان إنما تؤسس لحروب أهلية جديدة… وبالديموقراطية الطوائفية هذه المرة!
لقد ذهب أتباع كل طائفة أو مذهب الى الاقتراع في طوابير ينظرون بعيون الريبة والشك الى إخوتهم ـ الأعداء الذاهبين مثلهم لاختيار الأقدر على المواجهة في الشارع، وليس في مجال الرأي والإبداع والتقدم العلمي..
والنتيجة كما حددها التوصيف الدولي: انتصار للغرب..
يمكن بالطبع إضافة إسرائيل الى موكب المحتفلين بهذا الانتصار، فالطائفية والمذهبية وكل ما يقسم بل يفتت المجتمعات العربية ويعيدها الى مكوناتها الأولى إنما يخدم إسرائيل ودعاويها بأنها «دولة اليهود» في العالم.
وهكذا ففي لبنان الآن مشاريع دويلات للسنة والشيعة والموارنة والدروز والكاثوليك والأرثوذكس وربما الأرمن..
وهذا ليس انتصاراً للديموقراطية وحقوق الإنسان، بأي معيار!
أما في إيران فثمة اضطراب داخل النظام الإسلامي بقيادة المرشد ـ ولي الفقيه، الذي قدم على امتداد الثلاثين سنة الماضية، نموذجاً فريداً لنظام ديني لكنه ليس دكتاتورياً. وأبسط دليل، عبر المعركة الرئاسية الأخيرة، أن أزمة النظام خرجت الى العلن، وعلى لسان قائده.
لقد ضاق ثوب الالتزام الديني الصارم على الأجيال الجديدة في إيران.
وبين الطموحات العظمى لدى الدولة بأن تحقق لنفسها مكانة دولية ممتازة، والطموحات الطبيعية والمشروعة للأجيال الجديدة في إيران، التي ترى أن من حقها أن تعيش بقدر من الرفاه وأن أمامها هامشاً التعبير عن آرائها، وهي غير معادية للنظام الإسلامي، وقع هذا التناقض الذي رأينا صوره في الشارع في المواجهة بين الإسلامين.
وباختصار، فإن الانتخابات النيابية في لبنان كانت مفاضلة بين وحدة الشعب والوطن والدولة وبين استقلال كل طائفة عن الأخرى الى حد الافتراق، سلماً أو حرباً.
أما الانتخابات الرئاسية في إيران فكانت امتحاناً لقدرة النظام الإسلامي القائم فيها بالثورة على تلبية مطالب شعبه الذي لم ينقلب عليه بل طالبه ولعله حرضه على أن يفتح الأبواب والنوافذ وأن يكافئ صموده خلفه بمزيد من الإنجازات الداخلية ولو على حساب مقتضيات الدولة العظمى!
إننا أمام تجربتين مختلفتين تماماً: إحداهما تمثل ثورة طائفية مضادة، والأخرى يمكن أن تكون ثورة في قلب الثورة من أجل إيران الثورة الإسلامية مع مزيد من الديموقراطية التي يستحقها الشعب الذي لم يتخل عنها ذاهباً الى نقيضها الغربي أو الى عدوّها الإسرائيلي.
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version