طلال سلمان

مع الشروق الديموقراطية بالاحتلال الأميركي في العراق تفضح أهل النظام العربي في قمة التخلي عن فلسطين

فضح الاحتلال الأميركي، والأرجح بقصد مقصود، «حلفاءه» و«أصدقاءه» وأعوانه من أهل النظام العربي عبر تجربة الانتخابات النيابية في العراق، التي دارت صناديقها عبر العالم كله لتجمع أصوات العراقيين الذين تبين أن خمسهم تقريباً قد باتوا مشردين في أربع رياح الأرض.
لقد نجح الاحتلال الأميركي في تقديم نفسه على انه «حامي الديموقراطية» في العراق، موفراً النموذج القابل للتصدير الى أقطار أخرى، من خلال الربط بين الاحتلال والديموقراطية!
وإذا لم يكن من الضروري التذكير بأنه لم يعد لأي وطن عربي «داخل» فمن البديهي التأكيد الآن الافتراض ان «النموذج الديموقراطي العراقي» سيمكن الاحتلال الأميركي من التوغل الى داخل الداخل، مسقطاً عن الاحتلال صورة قاهر إرادة الشعوب وناهب خيراتها والمتحكم بحاضرها ومستقبلها.
وعلينا ان نتصور كم أن صورة النظام العربي مجافية لإرادة الشعوب ونافرة في دكتاتوريتها وفي قهرها لرعاياها بحيث مكنت الاحتلال الأميركي ان يقدم نفسه بصورة حامي إرادة الشعب وحقه في ممارسة حقوقه الطبيعية، وبينها حق الانتخاب، بعدما نجح في إظهار احتلاله وكأنه «تحرير» للعراق من طاغيته وتحرير لحق المواطن العراقي في أن يقول كلمته وأن يعلن رأيه في شؤون بلاده!
لقد صار الأميركيون داخل الداخل في كل قطر عربي، تقريباً، وفي الغالب الأعم بطلب مباشر من أهل النظام العربي.
ها هم الآن يتقدمون خطوة أخرى فيظّهرون وجودهم كاحتلال بالقوة العسكرية وكأنه «نجدة» للشعب من اجل تحريره من طاغيته وتمكينه من ممارسة حرياته وأولها حقه في «انتخاب» حكامه!
طبعاً، يمكن أن يقال الكثير في الانتخابات العراقية وما حفلت به من ارتكابات، لكن الصورة الخارجية لهذا الحدث المهم تبدو «جذابة» بالمقارنة مع الممارسات القمعية لأهل النظام العربي في كل ما يتصل بقضايا الحريات وحقوق الشعب على دولته في وطنه.
لقد وفر أهل النظام العربي «تزكية» للاحتلال الأميركي، بكل وحشيته في ممارساته التي أغرقت العراق في دماء مواطنيه على امتداد السنوات السبع الماضية: لقد حاول تقديم جائزة ترضية للعراقيين من خلال «الديموقراطية» كما تبدت عبر العملية الانتخابية.
ذلك ان العراقيين، مثل شعوب أخرى عديدة، قد دفعوا غالياً ثمن اعتراضهم، او ما افترض الطاغية انه اعتراضهم على ممارساته، فقتل منهم من قتل وسجن من سجن وشرد من شرد.
لكنهم يكادون يهنئون أنفسهم الآن بأنهم قد تلقوا، أخيراً، «هدية» ما، مقابل ما ارتكبه الاحتلال من جرائم ومن نهب لثروتهم الوطنية، ومن تسببه، بالتخطيط المقصود او بالتقصير الفاضح، في مجازر جماعية ذهب ضحيتها مئات الألوف من أبناء الشعب العراقي، رجالاً ونساءً وأطفالا، فضلاً عن المؤسسات… ها هم يقصدون مراكز الاقتراع، ولو تحت حماية الاحتلال وعسكر السلطة القائمة في ظله، فيدلون بأصواتهم لمن يتوسمون فيهم العمل لمصلحة العراق، فيشعرون أنهم قد شاركوا، بشكل ما وبنسبة ما، في اختيار من سيحكمونهم ـ في ظل الاحتلال طبعاً ـ في السنوات المقبلة…
المؤسف، بل المفجع، أن الرعايا العرب في أقطار ودول أخرى يحكمها أهل النظام العربي، «يزكون» الانتخابات العراقية تحت الاحتلال الاميركي ويرونها «أكثر صحة» و«أكثر سلامة» واقرب الى «النموذج الديموقراطي» من الاستفتاءات التي لا تسمح لهم إلا بكلمة «نعم» او «بانتخاب» من قرر نظامهم تعيينهم نواباً وقيادات تحت رعايته وظله الوارف.
طبعاً، ليس المقصود هنا، بأي حال، تزكية هذا النموذج من الديموقراطية تحت الاحتلال الاميركي، فليس ثمة احتلال طيب واحتلال خبيث، واحتلال محب للشعب الذي احتله، او احتلال جاء خصيصاً ليعلم الشعوب المقهورة بحكامها أصول الديموقراطية… فالاحتلال عون للحاكم الظالم، بالطبيعة، ولا يغير من هذه الحقيقة أن تفرض مصالح الاحتلال ورغبته في الهيمنة تغيير ذلك الحاكم او استبداله بآخر أكثر طغياناً… فالطاغية هو توأم العميل المنقاد الى خدمة الاحتلال: كلاهما عدو شعبه وحقوقه وطموحه الى حياة كريمة في وطنه المستقل.
ثم ان الانتخابات التي أجربت الأحد الماضي في العراق (ومغتربات العراقيين القسرية بعد الاحتلال الأميركي) هي أغلى انتخابات في التاريخ: إنها منهبة العصر، حيث أنفقت أرقام فلكية من الدولارات في الحملات الانتخابية، يقدرها بعض الخبراء بأكثر من مليار دولار.
تشهد بذلك الإعلانات المذهبة عابرة القارات التي تبارز في السخاء عليها «المرشحون» الكبار، سواء من هم في السلطة حالياً، او من كانوا فيها وخرجوا او اخرجوا بالأمر، او الطامحون باحتلال المواقع المتقدمة والمساهمة في صنع القرار الوطني العراقي في «العهد الجديد»!.
لقد جاء الاحتلال الى العراقيين بنمطه في الانتخابات المذهبة: حملات منظمة ومدفوعة الأجر (الباهظ) سخرت لها عشرات الفضائيات داخل العراق وفي المحيط العربي من حوله، وكذلك في المغتربات.
ابتدعت برامج دعائية، وأوفد المراسلون والمراسلات لإجراء محاورات مع «المختارين» بقرار سياسي وكذلك مع الأسخياء في شراء أوقات الذروة في المشاهدة، ونظمت اللقاءات التي تزكي ديموقراطية الاحتلال وحسن اختياره القيادات الجديدة في ارض الرافدين التي كانت دولتها أغنى الدول العربية وأقواها فجعلها الطغيان الأفقر والأصعب وجعل شعبها الأكثر عوزاً في المنطقة عموماً،
تم «تهذيب» لغة التحريض الطائفي والمذهبي والعنصري، لكن المنهج ظل هو هو، وظل فضاحاً: الحديث الموجه الى فئات بالذات او مناطق بالذات او عناصر بالذات… ثم التلاقي على استمطار اللعنة على «البعثيين السفاحين»، وعلى الحزب جميعاً، بقياداته السياسية والعسكرية والنقابية جميعاً، علماً ان عدداً من مرشحي الدرجة الأولى يتحدرون من صلب هذا الحزب الذي حكم بواجهته من دون مبادئه، الطاغية وأعوانه الذين استقدموا الاحتلال الأميركي وكادوا يبررون اجتياحه العراق.
يبقى ان نشير الى ان لكل دولة من «دول الجوار العراقي» مرشحيها، وان ظلت الأغلبية داخل الخيمة الأميركية، او داخل صفقات المساومة مع الاحتلال، تارة باستخدام الطوائف وطوراً باستخدام الهوية السياسية، تارة باستخدام التمايز بين العناصر والقوميات، وطوراً بذريعة ضرورة الحفظ على التوازن مع الجيران!
لقد عاد الكثير من زعماء «المكونات السياسية» بالعراق عشرات السنين الى الخلف، عن طريق إعادة الاعتبار الى العشائرية والقبلية… ولقد توسل بعضهم اللباس الريفي او الجهوي، نفاقاً للناخبين، واللجوء الى التقاليد العشائرية: خلع بعضهم البدلة (الغربية) وارتدى الثياب التقليدية العراقية، الجلباب الواسع بالزنار العريض، تحت العباءة المقصبة والكوفية والعقال… في حين التزام المرشحون الأكراد ثيابهم التقليدية تميزاً وتوكيداً لقوميتهم المختلفة عن سائر العراقيين.
وبالنتيجة فان حوالى تسعة ملايين عراقي من اصل تسعة عشر مليوناً ممن يحق لهم الاقتراع قد شاركوا في اختيار «نوابهم» الـ 6218 مرشحاً المنضوين في 68 كياناً سياسياً، بينها 12 ائتلافاً انتخابياً كبيراً. أما عدد الناخبين الموجودين في الخارج فيقارب الخمسة ملايين، يرجح ان أكثريتهم لم تشارك في العملية الانتخابية إما لعدم ثقتهم فيها، او لعدم ثقتهم بالمرشحين ممن منعتهم الغربة من التعرف اليهم!
[[[[
مع الانشغال بالعملية الديموقراطية في العراق، لم يكن لدى أهل النظام العربي فائض من الوقت يسمح لهم بالاهتمام بالقضية الفلسطينية وتطوراتها وتداعيات الهجوم الإسرائيلي الشامل على الأرض بالمستوطنات وعلى المقدسات وأبرزها المسجد الأقصى في القدس والحرم الإبراهيمي في الخليل و مسجد بلال بن رباح في بيت لحم (المسمى حالياً ضريح رحيل).
كانت الإدارة الأميركية قد تنصلت من تعهداتها كافة، وأولها التدخل الحازم لوقف بناء المزيد من المستوطنات، إذ أن مواصلة بنائها يذهب بالبقية الباقية من الأرض الفلسطينية التي كانت مخصصة، نظرياً، لمشروع الدولة الفلسطينية الذي لن يقدر له ان يرى النور.
وهكذا فقد تلاقى أهل النظام العربي على ذريعة في غاية الذكاء: يقبلون آخر عرض للإدارة الأميركية بمنحها أربعة اشهر للتفاوض غير المباشر حول العودة الى المفاوضات المباشرة…وعلى هذا فقد أعادوا الموفد الأميركي صاحب الابتسامة البلاستيكية، جورج ميتشيل مجدداً الى المنطقة، لكي «يفاوض» الإسرائيليين والفلسطينيين ، كل طرف على حدة، لعله يتعرف الى جوهر الخلاف وحدوده وكيفية توفير المخرج اللائق من المأزق الراهن للتفاوض على المفاوضات. (كأن الجولات السابقة للتفاوض على التفاوض، وعملياً منذ عام 1967 لم تكن كافية للتعرف الى جوهر المسألة..).
في هذه الأثناء يستطيع أهل النظام العربي أن يعقدوا وبنجاح باهر قمتهم المقررة في ليبيا، بضيافة العقيد معمر القذافي الذي ابتدع نظرية «اسراطين» كمشروع لدولة واحدة للفلسطينيين والإسرائيليين معاً، وكفى الله المؤمنين القتال…
ومن الصعب أن تكون النتائج النهائية للانتخابات العراقية قد عكست نفسها حكومة جديدة في بغداد، قبل القمة.. ومع ذلك يمكن لمن يذهب لتمثيل العراق تحت الاحتلال ان يباهي أقرانه العرب بأنه منتخب ديموقراطياً من الشعب بشهادة من لا يجرؤ احد على نقض شهادته: الاحتلال الأميركي.
ولسوف يلتف أهل النظام العربي من حول بطل الديموقراطية الآتي من بغداد معززاً بأصوات ملايين الناخبين من أبناء الشعب العراقي الشريد داخل وطنه، وانضمامه الى ناديهم الذي يرى من واجبه رد الجميل للاحتلال الأميركي بالطلب إليه ان يديم رعايته للعراق وألا يفكر بنقل تجربته الى دولهم التي تهنأ شعوبها بديموقراطية من «شغل أيديهم» لا يأتيها الباطل من خلفها او من قدامها.
ولسوف يسعى أهل النظام العربي، وقد تعززوا الآن بالديموقراطية الأميركية الفائزة في العراق، الى إعادة تأهيل المبادرة العربية التي لن تبقى على الطاولة الى الأبد، وذلك بتبديل الطاولة، طالما انهم لم ينجحوا في إلزام الإدارة الأميركية بالمبادرة والطاولة معاً.
في هذه الأثناء، يتوالى سقوط الشهداء حماية لعروبة فلسطين أرضاً وشعباَ، وتتعالى أصوات أهاليهم بالهتاف: فداك يا أقصى…
وفي هذه الأثناء تتم التزكية العربية للديموقراطية بالاحتلال الأميركي على الديموقراطية بالاحتلال الإسرائيلي… ولسوف تصدر القمة قراراً يشيد بهذه التجربة الفريدة في بابها: ان يهتف المخضع للاحتلال بحياة المحتل باعتباره المنقذ من ضلال الاستقلال وفاتح باب الحرية بحراب المحتلين الذين يتبدون ارحم وأرأف به من سادته أهل النظام العربي وطيد الأركان.
ومن حق الرئيس الأميركي الأسمر باراك اوباما ان يهنئ نفسه ثم ان يتوجه بالتهنئة الى الشعب العراقي العظيم الذي «بيض» له وجهه بالديموقراطية التي تشهد للاحتلال بدل ان تشهد عليه!

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version