طلال سلمان

مع الشروق الحوار بين النظام والميدان: القاهرة المركز.. والغد العربي يطل منها

ترتفع الدعوة الى الحوار بين الأنظمة العربية ومعارضيها بوصفها المخرج من الأزمة، في مختلف أرجاء الوطن العربي.
الى ما قبل شهور قليلة كانت المعارضات متعددة التوجه تشكو من ان أنظمة الاستبداد تفرض ولا تحاور.
أما الأنظمة التي كان عتوّها يصيبها بالطرش، فقد اضطرت، أخيراً، أن تسمع، وأخذت قبضاتها الحديدية تلين بفعل أنهار الدم التي غمرت الشوارع، وتبدي استعدادها للحوار، بينما الرصاص ما زال يلعلع في الساحات.
لم تتوقف الأنظمة عن قمع معارضيها، ولكنها عدلت في لهجتها بعدما انتبهت الى أن أعدادهم تملأ الشوارع وتستدعي انتباه الخارج، فأخذت تلمّح الى استعدادها للحوار بشرط أن توقف المعارضة تظاهراتها.
وهذا تطور جديد، بل هو طارئ على الحياة السياسية العربية، إذا ما افترضنا ان المجتمعات العربية قد عرفت السياسة ومارستها فعلاً في العقود الأخيرة.
لقد عاش الوطن العربي، بشعوبه جميعاً، دهوراً من الخرس.
وحدهم أهل النظام كانوا يتمتعون بحق الكلام. وكانوا يتكلمون حين يرون ذلك مناسباً، فيجهرون بأنصاف حقائق بينما الصمت مفروض على معارضيهم، فإن همهم بعضهم أو غمغمم كان مصيرهم الاعتقال المفتوح والسجن بموجب «حكم قضائي» ينسب اليه ما لم يفعله… فلأهل النظام الحق في «ترجمة» الهمهمة أو تفسير دلالات الغمغمة، وهم العارفون والعالمون بالنوايا وعليها يحكمون!
الآن يتناوب الناطقون باسم الحكام على إطلاق الدعوة الى الحوار، ويقدمون المغريات لأهل المعارضة لقبولها بعدما استمروا – لدهر- يطلبون رأس المعارضة وينذرون بقطع ألسنتها إن هي نطقت، بينما يتردد المعارضون في تلبية هذا النداء لأنهم يرونه مريباً، ويفترضون – بحكم التجربة – انه يخفي كميناً، في حين يذهب بعضهم الى اعتبار الدعوة دليلاً على ضعف النظام الذي قد يكون متهالكاً وعلى وشك السقوط.. فلماذا التقدم لإنقاذه؟
لقد انعدم النقاش السياسي لحقبة طويلة. وعاش الرعايا حالة من الخرس امتدت أكثر مما يجوز. وحده صوت الحاكم كان يلعلع في المناسبات التي يختارها وحول مواضيع محددة يريد ان يقول فيها رأي نظامه. أما الشعب فكان مقموعاً داخل سجن خوفه من الكلام تصريحاً أو تلميحاً.
في حالات مشهودة تكررت في العديد من أرجاء الوطن العربي، فإن الخرس قد أصاب العائلات في بيوتها. كان أفراد العائلة يتحدثون في مختلف شؤونهم الخاصة، ويتجنبون الخوض في المسائل العامة، سياسية كانت أم اقتصادية أم تربوية، ويشيرون الى الحاكم بألقاب ابتدعوها حتى لا تطالهم الشبهة.
بل ان أفراد العائلة الواحدة كانوا يخافون بعضهم بعضاً. وأكثر من أن تحصى هي الحالات التي أجبر فيها الابن أو (الابنة) على تقديم تقرير عن اتصالات الأب، أو الزوجة عن الزوج، أو الأم عن أبنائها.
كانت الصحف للحاكم وحده، وكذلك الإذاعات، مسموعة ومرئية..
.. أما الحيطان فلها آذان والعسس – بعيونه وآذانه – في كل مكان.
وما يقال في «الخارج» عن أحوال البلاد، على إطلاقه، بما في ذلك الإحصائيات عن معدلات الفقر والبطالة وتدني الدخل القومي، «مؤامرة» تستهدف تشويه صورة النظام وضرب العلاقة بينه وبين رعاياه المخلصين… فإن استمع إليها بعض الرعايا وصدقوها وتداولوها فمعنى ذلك أنهم ضالعون فيها، وأنهم عملاء للأجنبي وجواسيس للخارج وناقصو الولاء الوطني ويستحقون العقاب!
أما الشارع فمسدود بالخوف: من نزل إليه اختفى، أو سيق الى محاكمة التفتيش في النوايا، وسيكون على أسرته أن تمضي زمناً طويلاً في قلب الخوف انتظاراً لكلمة تطمئنها بأن تكشف لها معتقله والطريق اليه… وثمن ذلك كله!
على هذا، فلقد كان الحوار مستحيلاً، والهواء لصوت الحاكم وحده.
أما الحاكم، الذي غالباً ما كان يدّعي انه وصل الى سدة الحكم باسم الثورة على الفساد أو الطغيان، فهو المخلص. هو المحرر. هو المنقذ. هو القائد البطل الذي أعطى نفسه تفويضاًَ باسم الشعب وناب عنه في أداء المهمة المقدسة. وبالتالي فهو ممثل إرادة الأمة جميعاً، لا شريك له ولا نائب له… إلا صورته!
يمكن أن تنطبق هذه الحالة على معظم البلاد العربية من مصر الى تونس الى الجزائر فإلى ليبيا، ثم السودان، ومن سوريا الى العراق ما قبل الاحتلال الاميركي وصولاً الى اليمن، وقبل ان تقتحم البحرين المسرح مرة أخرى.
[[[[[[
من أين يبدأ الحوار، وكل المسائل معلقة منذ دهر، أو أن القرارات التي اتخذت حولها كانت خاطئة الى حدود الانحراف بالوطن عن مساره وتهديده في هويته، أو الى حدود تدمير الدولة كمرجعية وطنية جامعة وموحدة؟
ثم.. من يمثل الشعب في الحوار؟
اذا كان الحاكم قد تنازل – مضطراً – عن وحدانية تمثيله الأرض والشعب والدولة، فمن يمثل أولئك الذين لم يعد الحاكم يمثلهم، فضلاً عن أنه لم يكن يمثلهم بمجموعهم حقيقة، في أي يوم؟
المطالب معلنة ولكنها تستعصي على فهم النظام: الحرية، الديموقراطية، العدالة، وقف القمع، توفير الحلول للأزمة الاقتصادية – الاجتماعية التي فاقمت الفقر وسدت الأفق أمام حقوق الشباب في المشاركة في صنع مستقبل بلادهم، بل حتى عن تأمين المستقبل الشخصي لكل منهم، بالغة ما بلغت كفاءتهم.
كان جواب النظام في أكثر من بلد عربي، رداً على المطالبة بتوفير فرص العمل: ان شبابنا الأكفاء هم أغلى صادراتنا… إننا نصدر مهارات وكفاءات بأجور ممتازة، ونستقدم عمالة رخيصة تقوم بالأعمال التي لا تحتاج شهادات عليا، وهكذا نسند الاقتصاد الوطني!
طيب… على فرض أن النظام سلّم بضرورة الإصلاح، فإن سؤاله التالي سوف يكون: من أين يبدأ الإصلاح والى أين تريدون الوصول به؟
كيف يمكن تدوير زوايا الإصلاح وتحديد مداه حتى لا يرى فيه النظام اغتيالاً لأهله وشطباً لدورهم التاريخي في «بناء البلاد»؟
نصف إصلاح لا يكفي… ثم ان الإصلاح قد يلغي أو يحد من صلاحيات القائد التاريخي، المنقذ، المحرر، الذي لولاه لظل هؤلاء الذين يسبونه في الشارع ويمزقون صوره ويطالبونه بالرحيل بدواً أجلافاً وفلاحين قرويين وأميين أو أجراء مياومين أو خدماً في بيوت الوجاهات وقصور الأغنياء؟
كيف يمكن تقزيم الرئيس – الرمز بحيث يصبح واحداً من كثرة أغلبيتها الساحقة من المعارضين الأشقياء والسفهاء والمتطاولين على تاريخه المجيد؟
من يحاور من؟ أتريدون من الرئيس – القائد – المحرر – باني النهضة أن يجلس بين هؤلاء الذين لا يتقنون غير الكلام وغير ابتداع الشعارات التحريضية وغير المس بالعائلة المقدسة، ويكون واحداً منهم، حتى لو جاملوه فاعتبروه متقدماً بين متساوين؟
أين منتصف الطريق بين الصح والخطأ؟
أين يقع الافتراق بين النظام والدولة فيصبح إسقاط النظام ضرورة لإنقاذ الدولة وشعبها؟
وماذا لو اندفع النظام، وقد أيقن أنه الى زوال، الى تدمير الدولة؟ من أين ستطعم المعارضة جماهيرها الثائرة المنتشية برفع لوحاتها أو كفوف أيديها أو الزنود وقد كتبت عليها كلمة «ارحل!»؟
[[[[[[
هي مرحلة جديدة من التاريخ العربي، ليس لها مرجع محدد في الماضي، أما المستقبل فيتوقف على نجاح الحركة الشعبية في صنع الحاضر.
ولان مصر، بحكم تجربتها الغنية ماضياً وحاضراً، وبحكم ثقلها وقدراتها التي لا ينقص منها واقع أنها ليست مترفة بمداخيل النفط، تعيش التجربة الأعظم في الانتقال من دكتاتورية الفرد وبطانته الى ديموقراطية الشعب بمختلف تلاوينه واتجاهاته، المتطرف منها والمعتدل.
ولان الحركة الشعبية في مصر هي الأكثر غنى في تعدد الأطراف التي ساهمت في صنع الثورة، مع النجاح في تحييد الجيش الذي ارتضى أن يتولى المسؤولية عن إتمام المرحلة الانتقالية بنجاح، من دون أن تأخذ العزة بالإثم قيادته الى طلب السلطة لنفسها أو لعسكرها.
ولان هذه الحركة الشعبية في مصر هي الأقرب الى نموذج الثورة بتشكيلاتها المتنوعة والغنية بالتجارب، ومفتوحة على آفاق العصر، بالعلم، من دون أن تنسى تاريخ شعبها النضالي ومن دون أن تتنكر لماضيها الذي طالما تمثله سائر العرب في أقطارهم.
لهذا كله يتطلع العرب الى تجربة الثورة في مصر باعتبارها طريقهم الى الانتصار على ماضي القمع والعسف وتحكم الرأي الواحد بمصير البلاد والعباد.
مرة أخرى، يفرض القدر حتمية أن تقود مصر منطقتها جميعاً.
لهذا يتابع العرب في مختلف ديارهم، وعلى مدار الساعة، تفاصيل التطورات في مصر، لأنهم يقرأون فيها طريقهم الى مستقبلهم.
… والميدان هو صانع التاريخ، لا العواصم البعيدة!

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version