طلال سلمان

مع الشروق الحرب الإسرائيلية برسائل التحذير الدولية: صاروخ سكود لبناني للإجازات ورحلات الترفيه!

فجأة، ولأسباب غير مفهومة تماماً، صارت بيروت عاصمة الكون، وصار لبنان «الصاعق» الذي يمكن ان يهدد تفجيره الأمن الدولي والسلام السائد في اربع رياح المعمورة!
على امتداد الأسابيع القليلة الماضية فرض على سكان بيروت ان يناموا على زعيق أبواق سيارات الحماية المواكبة لكبار الزوار وهم يتنقلون، خلال ساعات قليلة بين المقار الرسمية للرؤساء وبيوتهم، إضافة الى وزارة الخارجية، التي يتجاوزها البعض قصداً، ويحرص آخرون على تجاهلها عمداً لان القرار لا يعبر فيها بالضرورة.
للمناسبة: لبنان هو الدولة الوحيدة، بالتأكيد، التي برؤوس سياسية ثلاثة، رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس حكومة الوفاق الوطني التي تتكون من افرقاء عدة، لبعضهم حق الفيتو في مواجهة قرار «الآخرين»، ان رأت فيه ما تعتبره لا يتناسب مع «المصلحة الوطنية العليا» التي علمها عند ربي..
وفود رسمية تأتي متعاقبة، وأحياناً أكثر من وفد او موفد في يوم واحد. رؤساء حكومات، وزراء خارجية، ممثلون لمنظمات دولية، مبعوثون للاتحاد الأوروبي، زوار عرب بعضهم برتبة أمير وبعضهم بلقب الشيخ صاحب الدولة… هذا غير زوار الليل الذين يأتون «كأن بهم حياء» فيبلغون ويتبلغون، ثم ينسلون عائدين قبل أول ضوء، تاركين عشرات الأسئلة معلقة في فضاء هذه العاصمة الكونية التي غدا سعر المتر من أرضها الضيقة أغلى من نظيره في باريس او نيويورك!
لماذا هذا الاهتمام الطارئ بالوطن الصغير؟
لماذا يلغي الكبار في عواصم القرار بعض مواعيدهم لينتقلوا على جناح السرعة الى بيروت، تداركاً لكارثة متوقعة، او منعاً لانفجار الوضع الدقيق، على ما يقولون، او للاطمئنان الى ان السلام ليس في خطر؟
بالنسبة لشعب الوطن الصغير فلا جديد في المنطقة من حوله الا الهياج الإسرائيلي الذي أثار ما يشبه الهستيريا في بعض الإدارة الاميركية تحت عنوان «تهريب صواريخ سكود عبر الحدود السورية الى المقاومة في لبنان»..
أطلقت تل أبيب صفارات الإنذار، مستخدمة بعض مكبرات الصوت ـ صحافيا ـ في أكثر من منبر خليجي، فإذا بوزيرة الخارجية الاميركية ومعها بعض معاونيها يتناوبون على التنبيه والتحذير من خطر انفجار الوضع الدقيق والحساس، ملوحين بأنهم لا يضمنون رد الفعل الإسرائيلي، خصوصاً ان السيف الصهيوني طويل وقادر على الوصول الى ابعد نقطة متخيلة!
تقاطر الزوار والموفدون الى دمشق وانتقلوا منها الى بيروت (والمسافة ساعة بالسيارة وثلث ساعة بالطائرة!)، وبعضهم فضل سلوك الطريق البرية للمعاينة المباشرة والتثبت من خلو تلك الطريق المتعرجة وسط الجبال والتلال، من ان لا قوافل صواريخ من أي نوع «تتسلل» مموهة، بين «الدولتين» المتداخلتين في حدودهما التي رسمت ذات ليل استعماري طويل!
كانت أسئلة كبار الزوار الرسميين «مريبة» اجمالاً، وغبية غالباً، تكشف انهم قد لُقنوها تلقينا اعتباطياً… وكانت تثير بمجموعها قدراً من الالتباسات المثيرة للمخاوف، وتعيد الى السطح مسائل مطوية يتداخل فيها السياسي والأمني، حتى ليفترض المراقب ان حرباً إسرائيلية شاملة وصاعقة وهائلة التدمير هي على وشك الوقوع، وإنهم انما جاءوا لوقفها، موقتاً، والتقاط الأنفاس تمهيداً لمنعها من الأساس!
سمع اللبنانيون، بمزيج من الاستغراب والغرور، اسم بلدهم الصغير يتردد على السنة الكبار في العالم كأنه مركز العاصفة ومصدر التهديد المصيري لوجود إسرائيل!
كما سمعوا تهديدات اميركية لسوريا، جاءت كأنها تبرير لتقديم واشنطن منحة سخية لإسرائيل: «القبة الحديدية» التي تمنع وصول الصواريخ الى الأرض المحتلة فتفجرها في الجو… بينما كانت إسرائيل تعقد المزيد من صفقات بيع أسلحة متطورة من صنعها الى دول عديدة، بينها عظمى كالصين والهند، وبينها متوسطة او صغيرة في بعض أنحاء آسيا وأفريقيا، بل وحتى في بعض أوروبا، ومن ضمنها طائرات «فالكون» والطائرات من دون طيار بعد تطويرها بإدخال تعديلات مؤثرة على سرعتها وارتفاعاتها ودقة الكاميرات فيها!
كذلك فقد استمع اللبنانيون الى أسئلة طريفة من بعض القادة الأوروبيين ومن مسؤولين كبار في الامم المتحدة التي استحدثت منصباً خطيراً وأسندته الى تيري رود لارسن، وكلفته برصد حركة الريح ومسرى العصافير والفراشات عند نقطة المصنع او معبر الدبوسية او مقطع العريضة على النهر الكبير للتحقق من «ان كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»!
فجأة، بات لبنان مركز الخطر الداهم على السلام العالمي، وهو الذي ما زال يمسح الدماء عن وجهه ويعالج جراحه الخطيرة التي تسببت بها الحرب الإسرائيلية، بالقيادة الاميركية المباشرة التي تولت الإمرة فيها وزيرة الخارجية السابقة كونداليسا رايس، قبل اقل من اربع سنوات (في تموز/ يوليو 2006) والتي فشلت في تحقيق اهدافها بالقضاء على المقاومة والفصل بينها وبين اهلها الصامدين، الذين اعادوا بناء مدنهم وقراهم ومزارعهم بسرعة قياسية.
غرق اللبنانيون، ومعهم معظم العرب، في بحر من الأسئلة والتساؤلات المقلقة:
لماذا هذه الحملة الدولية ذات المردود الطيب على إسرائيل بتصويرها ـ مرة أخرى ـ ضحية، في حين أنها أقوى قوة عسكرية واقتصادية وعلمية وسياسية في المنطقة العربية، بل بين القوى المؤثرة في السياسة الدولية؟
ما هو الخطر الذي يشكله لبنان، مهما بلغت مقاومته من النفوذ ومهما امتلكت من أسلحة الدفاع لصد العدوان المحتمل في كل لحظة، على السلام الكوني عموماً وعلى الكيان الإسرائيلي القائم بقوة القهر والطرد والتشريد على ارض الشعب الفلسطيني؟
كيف لو ان لبنان هاجم إسرائيل في الأرض التي كان اسمها فلسطين، والتي سيبقى اسمها فلسطين، والتي احتلتها بالقوة ـ التي اجتمعت فيها من اجلها دول العالم كافة قبل اثنين وستين عاماً ـ، وجعلت منها أقوى قوة في المنطقة، بل خامس قوة في العالم (على ما يقول الإسرائيليون) استنادا الى أسطورة لا أساس لها من المنطق او من الواقع او من التاريخ تفيد بانها كانت أرضا لليهود قبل ثلاثة آلاف عام؟
من باب تنشيط الذاكرة فحسب قد يكون مفيداً استعادة بعض الوقائع الدالة:
الأولى: قبل عشر سنوات فقط، كانت إسرائيل، بجيوشها المتفوقة براً وبحراً وجواً، تنسحب مهرولة من الأراضي اللبنانية التي استمرت تحتلها منذ العام 1978، تجرجر اذيال الخيبة، وتتخلى عن عملائها ورهائنها الذين حشدتهم في «جيش» تحت قيادة ضابط لبناني متقاعد ممن باعوا وطنهم بدنانير من الفضة.
الثانية: قبل أربع سنوات الا قليلاً كانت إسرائيل تشن، مرة أخرى، حرباً طاحنة على لبنان، استمرت ثلاثة وثلاثين يوماً بلياليها، دمر خلالها الطيران الحربي والصواريخ الإسرائيلية أسباب العمران في معظم الجنوب كما في بعض بيروت وفي الضاحية الجنوبية كلها، وهي مدينة كبرى، وفي البقاع، وهدم الجسور والعديد من المنشآت والمؤسسات التعليمية بذريعة انها تابعة لـ«المخربين والإرهابيين»، وهي التسمية التي يطلقها الإسرائيليون على كل من يقاوم احتلالهم ومخططاتهم للتوسع والهيمنة على هذه المنطقة التي يتمسك أهلها بانتسابهم اليها لأنها تلخص تاريخهم وعلة وجودهم في الماضي والحاضر والمستقبل.
خلال تلك الأيام العصيبة التي أكد فيها شعب لبنان تضامنه الصلب، وانحاز الجيش مع الأهالي الى المقاومة البطولية التي صمدت في مواقعها على آخر حبة تراب عند حدود فلسطين، حتى الساعة الأخيرة من الايام الثلاثة والثلاثين، من الهجوم الإسرائيلي الوحشي الذي لم يوفر بيتاً او مرفقاً عاماً او جسراً او مدرسة، لم يتوافد الى لبنان الرؤساء والوزراء والممثلون الشخصيون للكبار من قادة العالم، ساعين الى رد المعتدي ووقف حربه على الوطن الصغير..
كل من جاء لبنان، طوال أيام المحنة، بمن في ذلك وزراء الخارجية العرب، إنما قدم بإذن إسرائيلي معلن، وبهدف إسرائيلي محدد: إجبار المقاومة على إلقاء السلاح وتسليم من لديها من أسرى الحرب من جنود الاحتلال الإسرائيلي.
لم تذهب المقاومة الى فلسطين المحتلة لتحريرها. كل ما فعلته انها دافعت عن شعبها في لبنان، عن أهلها، حتى أخرجت المحتل منه.
لكن العالم يرى في «العرب» معتدين، حتى وهم يحاولون ـ بالكاد ـ ان يدافعوا عن أوطانهم، وغالباً ما لا ينجحون، إما بسبب من الغفلة، او من رداءة القيادة، او من تواطؤ السلطان.
لماذا يرى العالم العرب في صورة المعتدي دائماً، حتى وهم في موقع الضحية؟
حتى مع لبنان، الوطن الصغير، المشغول بانقساماته وهمومه الاقتصادية، وضعف دولته، وتعاظم التدخل الأجنبي في شؤونه، وغرقه في محاولة محو آثار الحرب الهمجية الإسرائيلية التي ما زال يكافح للخروج مما تبقى من دمارها..
حتى مع لبنان، لا يأتي احد حباً فيه وحرصاً على سلامة شعبه المبدع والصلب والعاشق للحياة بحيويته الفائقة التي جعلته ينتشر في أربع رياح الأرض مؤكداً قدرته على ولوج العصر من أوسع أبوابه..
هل تلك عنصرية غربية؟
هل ذلك تجسيد مهين للعجز العربي؟
هل ذلك اندفاع مع وهم ان الإدارة الاميركية مؤهلة وقادرة وراغبة في إنصاف العرب وفي تحصينهم ورد الأذى الإسرائيلي عنهم، اذا هم انخرطوا في مشروعها للشرق الأوسط الجديد؟!
لكنهم منخرطون، فما المطلوب بعد: لقد رهنوا شعوبهم ومصير أوطانهم لدى الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، عبر المبادرات التي تفرغ الثانية مضمون الاولى ثم تفرغ الثالثة مضمون الاثنتين معاً، فلم يحصدوا غير الخيبة، تذروها الريح الإسرائيلية مع أوهامهم في أربع جهات الأرض.
على ان شعب لبنان الصغير قد أخذ علماً بان امن إسرائيل، لا أمنه، هو موضوع الرعاية، دولياً، وان الطمأنينة عادت الى صدور المسؤولين والموفدين والمبعوثين الشخصيين للرؤساء ووزراء الخارجية الذين كان من بينهم المصري احمد ابو الغيط الذي أقدم، لأول مرة، وربما لأخر مرة على توصيف إسرائيل باسمها الأصلي «العدو» ثم أوضح من بعد انه «خطأ»، لكنه على الأرجح مقصود.
وكائناً ما كانت الحال، فإن هذا الشعب الفائض الحيوية، قد اندفع الى ممارسة هوايته التقليدية في اللعبة المحلية، عبر الانتخابات البلدية التي كان الجنوب مسرحها خلال الأيام القليلة الماضية، تمهيداً لان يتفرغ للاحتفال بذكرى النصر بإجلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي عن أرضه في مثل هذا اليوم لعشر سنوات خلت.
والنصر أعظم بهاء من ان تذهب به رفوف طيور الشؤم الذين جاؤوه بمهمة إسرائيلية، وعاد كل منهم بهدية متميزة: صاروخ سكود يمكن ان يستخدم في رحلاته او اجازاته العائلية!

تنشر في جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version